العبودية

منذ 2021-07-16

العبوديَّة أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله؛ فلنسلك طريق العبودية في أعمالنا كلها، مستَشْعِرين التعبُّد لله في كلِّ ما نأتي وندَع.

العبودية

فقد خلقَنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - لغرضٍ واحد، وهو عبادتُه، فهي الغاية المحبوبة والمرضية له، التي خلق الخلق لها، كما قال - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ولأجلها شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وخلق الدُّنيا والآخِرة {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وجعل ذلك لازمًا لرسوله - صلَّى الله علَيْهِ وسلَّمَ - إلى الموت فقال - تعالى -: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

وإذا نظرنا إلى العبادات المحْضة الواجبة التي بيننا وبين ربِّنا - عزَّ وجلَّ - وجدْنا أنَّنا نقضي فيها الوقت اليسير؛ فالصلاة خمسٌ في اليوم والليلة، قد لا تستَغْرِق ساعةً من أربعٍ وعِشرين ساعةً، والصِّيام شهرٌ في العام من اثنَيْ عشَر شهرًا، والحجُّ مرَّة في العمر قد لا يستغْرِق أكثرَ من خَمسة أيَّام، فهل بقيَّة الأعمال والأوْقات تذهب هكذا؛ لا تقرِّبُنا إلى ربِّنا - عزَّ وجلَّ - ولا ننتفِع بِها في آخرتنا؟

لا شكَّ إذا كان النظر إلى العبادة نظرًا قاصرًا على العبادات المحْضة التي بيننا وبين ربِّنا - عزَّ وجلَّ - فسوف يُظَن هذا الظَّنُّ، لكن حاشا ربنا - عزَّ وجلَّ - الذي خلَقَنا لعِبادته، أن يجعل جلَّ أوقاتنا لا تكون سببًا في رفْع درجاتِنا، وتَكْفير سيِّئاتنا، فأذكِّر نفسي وإخوتي ببعْضِ العبادات التي ربَّما البعض منَّا لا يتفطَّن للتعبُّد لله بِها، فمن العبادات التي يؤجَر عليها المسلمُ النفقةُ وغيرها على الأهل؛ فهي صدقة يُثاب عليها في الآخرة.

فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعُودني عام حجة الوداع؛ من وجعٍ اشتد بي، فقلت: "إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مالٍ ولا يرثني إلا ابنةٌ، أفأتصدق بثلثي مالي؟"، قال: «لا»، فقلت: "بالشطر؟"، فقال: «لا»، ثم قال: «الثلث والثلث كبيرٌ أو كثيرٌ، إنك أن تذر ورثتك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت بها، حتى ما تجعل في فِي امرأتِكَ» (رواه البخاري ومسلم).

فكل ما يؤتى به للأهل من نفقة، وملبس، ومركب، وما يدفع من مال لتسديد فواتير الخدمات التي يحتاجها الأهل؛ كالماء والكهرباء، وغير ذلك مما لا يخالف الشرع - مما يثاب عليه المسلم؛ بل هو أفضل مما لو صرف الولي هذا المال على محتاجين؛ لأنَّ النَّفقة على الأهل ونحْوِها من فروض الأعْيان على الأولياء، أمَّا سدُّ حاجة المساكين، فهي من فروض الكفايات، وقد قال ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في الحديث القدسي الذي رواه البخاري: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ ممَّا افترضت عليه» وليس هذا تزهيدًا في الإحسان للآخرين، إنَّما لبيان فضل البذل والنفقة على الأهل؛ للفرح بذلك، والاستبشار بفضل الله علينا: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]، والمقصِّر في هذا الواجب متعرِّض للوعيد؛ فعن خيثمة بن عبدالرحمن قال: كُنا جُلُوسًا مع عبدالله بن عمرٍو إذ جاءه قَهْرَمَان له - وهو الخازن - فدخل فقال: أَعطيتَ الرقيق قُوتَهم؟ قال: لا، قال: فانطلِق فأعطهم؛ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملكُ قُوتَه» (رواه مسلم).

فإذا كان الإخلال بالنفقة الواجبة وما يتعلق بها، معصية متوعدًا عليها، فكان مقتضى عدل الله أن يكون البذل لهم بالمعروف، طاعةً وقربة يثيب الله عليها.

ومن العبادات التي يثاب عليها المسلم: الشهوة المضبوطة بضوابط الشرع؛ فعن أبي ذر أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «وفي بُضْعِ أحدكم صدقة» قالوا: "يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجر؟!"، قال: «أرأيتُم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وِزْر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» (رواه مسلم).

فمباشرة الزوجة، وتمتُّع كلِّ واحدٍ من الزَّوجين بالآخر - عبادةٌ يُحبُّها الله ويُثيب عليها، فهي وسيلةٌ لتحصيل رضا الله، وتجنُّب سخطِه؛ فبها تُحصَّن الفروج، وتأتي الذريَّة التي تعبد الله وتقوم بالخلافة في الأرض، ولا شك أنَّ النَّاظر في بادي الأمر قد يستبعِد الثَّواب على المعاشرة بين الزَّوجين، لكن حين التَّأمُّل في مصالِح هذه المُعاشَرة، وفي درْئِها للمفاسد، لا يستريبُ مَن نوَّر الله بصيرتَه أنَّ هذا مقتضى عدلِ الله، حيثُ توعَّد الزُّناة بعذابِ الدُّنيا والآخِرة؛ حيث وضعوا هذه الشَّهوة خلافَ أمْرِ الله - عزَّ وجلَّ - فكان مقتضى عدلِ الله أن يُثيبَ مَن امتَثَل الأمر، وحفِظ فرْجَه عمَّا حرَّم الله، وأتى ما أحلَّ الله - أن يثيبَه على هذا الوِصال المشروع، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: «أرأيتم لو وضَعَها في حرامٍ أكان عليه فيها وِزْر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» ويؤخَذُ من هذا الحديثِ قاعدةٌ عامَّة: أنَّ كلَّ ما يُعاقب عليه، يُثاب على ضدِّه.

وزراعة الأرض عبادة؛ فعن أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ما من مسلمٍ يَغْرِس غرسًا، أو يزرَعُ زرعًا، فيأكل منه طيرٌ، أو إنسانٌ، أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقة» (رواه البخاري ومسلم).

فيثاب الغارس والزَّارع عليه، ما دام هذا الغرس باقيًا يُنتفع به بأكلٍ أو غيره، فكم من شجر نخل أو غيره، غرس منذ عشرات السنين، وصاحبه قد أصبح رميمًا في قبره، يأتيه من ثواب هذا الغرس والشجر إلى قيام الساعة ما دام باقيًا، فهذه منفعة متعدية يثاب عليها صاحبها، فكل مَن أكل منه أجر صاحبه وإن كان يكره أن يؤكل منه ولا يريده، فالذي يطرد الطير، ويستخدم ما جد من أدوات تُحدث أصواتًا تطرد الطير؛ حتَّى لا يأكل، ومع ذلك يأكل الطير أو غيره منه - يؤجر على ذلك؛ فعن جابر قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ما من مسلم يغرس غرسًا، إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أكل السَّبُعُ منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يَرزؤه أحدٌ إلا كان له صدقة» (رواه مسلم).

أمَّا قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذُلاًّ، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»  (رواه الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح)، فليس هذا ذمًّا للزراعة مطلقًا؛ لأن تسليط الذل ليس لمجرد الزرع والحرث؛ بل لما اقترن به من الإخلاد إلى الدنيا، والانشغال بها عن الجهاد في سبيل الله، فهذا المراد من الحديث - والله أعلم - فكلُّ ما صدَّ عن ذِكْرِ الله وعن الواجبات الشرعيَّة، فهو مذموم، أمَّا إذا لم تُلْهِ الزِّراعة عن الواجبات الشرعيَّة، ولم تفوِّت الحقوق، فهي ممدوحةٌ، كما تقدَّم.



من العبادات التي يجد المسلم بِرَّها وذُخْرها يوم القيامة، ما يقدمه الموظفون في القطاعات الحكومية للمسلمين من خدماتٍ، وتسيير شؤون المسلمين فيما يتعلق بدينهم ودنياهم، فهي من أعظم القرب والطاعات.

أخي الطالب:

وأنت أيضًا جلوسك على مقاعد الدراسة عبادة، إذا كنت تتعلَّم علمًا واجبًا عليك، ممَّا لا تصحُّ عباداتُك أو معاملاتُك إلاَّ به، أو من العلوم التي هي من فروض الكِفايات على الأمَّة، فأنت داخلٌ في عموم النُّصوص التي تحضُّ على طلَب العلم وترغِّب فيه، فمثلاً تعلُّم القُرآن عبادةٌ، سواءٌ كان في المسجد، أو في الفصول الدراسيَّة، أو في غير ذلك، فلتستَحْضِر التعبُّد لله وأنت على مقاعد الدِّراسة، ولا يكُنِ النَّجاح والحصول على معدَّل مرتفِع هو الغايةَ والهدف؛ بل يدخل تبعًا أو مُشاركًا؛ ليكونَ تعلُّمنا قربةً وطاعة، ونحصل على خيرَيِ الدُّنيا والآخِرة؛ فلذا من جاهد في سبيل الله؛ ليحصُل على طاعة الله في الجهاد، ويحصُل على المال من الغنيمة، فهذا جائز بالإجماع.

عباد الله:

العبوديَّة أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله؛ فلنسلك طريق العبودية في أعمالنا كلها، مستَشْعِرين التعبُّد لله في كلِّ ما نأتي وندَع.

فإذا أردنا أن نعرف أي عمل نقوم به: هل هو عبادة نثاب عليها أو لا؟
فلنعلم أن العبادة: اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، فهل العمل الذي نقوم به ممَّا يحبُّه الله ويرضاه، سواء كان من أعمال الجوارح، أو أعمال القلوب؟ فإذا كان محبوبًا لله لذاته، أو لأنه وسيلةٌ لمحبوب، فهو عبادة، وإن كان غير ذلك فليس بعبادةٍ، وإن كانت المباحات قد تكون عبادة يؤجَر عليها المسلمُ.

______________________________________

الكاتب: الشيخ أحمد الزومان

  • 3
  • 0
  • 2,722

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً