سنة الله في النصر بين الوعد والأسباب
اقتضتْ حكمة الله - تعالى - أن يقومَ هذا الكون على الأسباب؛ ومنَ الحقِّ أن تسيرَ الأقدارُ وفْق الإرادة الإلهية، التي لا تغيير لها منَ الله - تعالى - فقد وضَعَهَا كَمِعيار ثابتٍ أَعْلَنَهُ في الناس، وسارتْ عليه أقداره...
اقتضتْ حكمة الله - تعالى - أن يقومَ هذا الكون على الأسباب؛ قال - تعالى -: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت: 44]، ومنَ الحقِّ أن تسيرَ الأقدارُ وفْق الإرادة الإلهية، التي لا تغيير لها منَ الله - تعالى - فقد وضَعَهَا - سبحانه وتعالى - كَمِعيار ثابتٍ أَعْلَنَهُ في الناس، وسارتْ عليه أقداره؛ قال - تعالى -: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح: 23]، والتبديلُ: هو تغيير الحال المُدرَك بين الناس بالحواسِّ والمتعارف عليه بينهم، وقد نقل الزبيدي عن ثعلب قوله: "إنَّ التَّبديلَ تَغييرُ الصُّورَةِ إلى صُورةٍ أخرى، والجَوهَرَة بعَينِها، والإِبدالُ: تَنْحِيَةُ الجَوهَرةِ واستئناف جَوْهَرةٍ أُخْرَى"؛ "تاج العروس".
فكما أنَّ هذه السنن منَزَّهَة عنِ التبديل صورةً وحقيقةً، فهي أيضًا مُنَزَّهَة عنِ التحويل؛ قال - تعالى -: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 77]، وتحويل الشيء: قلْبه منَ اتجاه إلى آخر، كما يُحَول النهر مِن مجرى إلى مجرى آخر، وتثبيت السنن رحمة إلهيَّة؛ ليُعَاير بها الناس مواقفهم، ويحدِّدوا بموجبها خنادقهم، ويعلنوا وفقها خياراتهم، ويطمعوا في رحمته التي وسعتْ كلَّ شيء؛ فالمؤمن الصادق مآله الجنة، أيًّا كان نصيبه المتاعي منَ الدنيا، والكافر مآله النار، وإنِ استوعبت نفسه نعيم أهل الأرض جميعًا، ومِن سُنن الله - تعالى - أن قدَّر للناس أقدارهم وفْق حقيقة نفوسهم وخياراتهم الحياتيَّة، بلا جبر ولا قهر؛ قال - تعالى-: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، إذًا فكلُّ ما يجري في كون الله - تعالى - ووفق إرادته يتحَرَّكُ في دائرة القوانين الإلهيَّة، ويدور في فلكها - بلا شذوذ - دورانَ النجومِ والقمر، مِن هنا تتجلَّى رحمة الله - تعالى - في حكمته وتقديره، فثبات هذه السُّنن ضروري؛ لتهدأ النفوس المؤمنة، وتطمئنَّ بوعد الله الحق الذي سيأتي في ميقاته القدري متعاليًا وقاهرًا، لما تتوهَّمه حواسنا مِن قوى زائفة، قد تشوش على حقيقة القدرة الرَّبَّانيَّة، وناموس الإرادة والفعل الإلهي؛ {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6].
فالتلقِّي الإنساني لوعود الله - تعالى - انطلاقاً مِن هذا الفَهْم الإيماني لحقائق الكون - سيحول الوعد من مجرد نص إلى حقيقة، تتألق في القلب، وتصيغ الإنسان الصياغة الإيمانية، التي يحبها الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من هنا أيضًا يمكننا أن نستوعبَ قول الله - تعالى -: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وسيجد المؤمن لهذه الآية معانيَ، تتخَلَّق في نفسه، وهو يتأمَّل في أرض الرباط.
وسنَّة التدافُع التي تجري بقوة الآن فوق أرض الرباط، كثافة الصراع وتتابعه تُلَمْلِم لنا مفردات المشهد، وتمنحنا رؤيةً إجمالية له، فالآية نزلتْ في أصحاب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أُخْرجوا من ديارهم بغير حقٍّ، وقاتلوا في سبيل الله بحق؛ ولكنها عامة في كلِّ فئة مؤمنة، على مدار الزمان والمكان، الحكم مرتبط بحقيقة الإيمان لا بميقات الزمان، ولا بجهة المكان.
لهذا؛ يبدو للمتأمِّل أن جهاد الدفع الذي يجري بقوة في أرض الرباط الآن سيكون له أثره في تغيير حال الأمة، وبداية لمرحلة جديدة، تَتَحَرَّر فيها من قيود القومية، والمذهبية، والحزبية، وتجارب الاستهواء والاستخفاف ومخاصمة المرجعية الإسلامية.
دماء الشهداء الذين صدَقوا ما عاهدوا الله عليه غاليةُ الثمن، أغلى مِن تحرير قطعة منَ الأرض هنا أو هناك، إنها دماء حياة لا ممات، وثمنُها إحياء هذه الأمة من جديد، كل قطرة دم دافقة من وريد شهيد تصبُّ بقوة في شرايين الأمة؛ لإحيائها، وإعادتها إلى قيادة الإنسانية، حيث مكانها الذي نصبها الله - تعالى - فيه، وقدره لها؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].
حقًّا الأمة ثريَّة بعلماء وفقهاء، وعبَّاد مخلصين؛ ولكن ما يجري في أرض الرباط الآن ذروة سنام الإسلام، فئة مؤمنة اختارت الإسلام منهجًا، والجهاد سبيلاً، والتزمتْ وفق معاملاتها بالصدق مع الآخرين، مسلمين وغيرهم، واجتمعتْ لها كلُّ عوامل النصر، ولن يخذلها الله - تعالى - أبدًا، وإن تَخَلَّى عنها الناس جميعًا، أو عجزوا عن نصرتها بقوة الساعد والسلاح، وفي التصوُّر البشري أنَّ وعد الله - تعالى - لعباده بالنصر سَيَتَحَقَّق حتمًا، ما توفَّرت شروطه، وتحققت موجباته كما قَرَّرها الله - تعالى - نقول هذا ثقةً في الله أولاً، وقراءة في واقع الجماعة المؤمنة المدافعة في أرض الرباط.
ولْننظر في معطيات هذا الواقع:
- فئة مؤمنة: قامتْ بحق للدفاع عنِ الحق، وجاهدتْ في سبيله تعالى حق الجهاد - حسب ما نرى - وضَحَّتْ بالمال والولد والروح، وزهدت في الحياة الدنيا المنطرحة أمامها في استعلاء المؤمن الذي يرجو ما عند الله.
- عدوٌّ غاشم: لا يرقب في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذِمَّة، أفسد في الأرض، وما زال يستبيح المقدَّسات والحرمات، ويتحرك بطغيان مفجع؛ ليُهَدِّد أبناء الأمة في كل مكان بلا رادع.
- سلطات حاكمة لها حساباتها وتوجهاتها، اختارت أن تقف في الخندق المعادي للأمة؛ حرصًا على لعاعة الدنيا.
- أمة مُمَزَّقة: لا تملك من أمرها شيئًا، تعالج قهرها بالتضرع إلى الله - تعالى - والبكاء على المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً.
- قوى عالمية: تحقد على الإسلام وأهله، زرعتْ هذا الكيان الغاصب في قلب الأمة، وحرصتْ على دعمه؛ لإضعافها، والحيلولة بينها وبين التوحُّد، واستنزاف مواردها، وإهدار ثرواتها.
من هذه القراءة لمعطيات الواقع، ينشرح الصدر المؤمن بتَحَقُّق النصر المؤكَّد منَ الله - تعالى -: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]؛ يقول الطبري - رحمه الله -: "إن الله لقويٌّ على نصر مَن جاهَدَ في سبيله، من أهل ولايته وطاعته، عزيز في مُلكه، يقول: منيع في سلطانه، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب"[1]، فإذا شهر المتخاذلون في وجوهنا موازين القوى المادية على الأرض، رَفَعْنا في وجوههم وعْد الله - تعالى - لنا بالنصر، وإذا تنادى الحلفاء عربًا وعجمًا علينا، نادت قلوبُنا: ربَّنا، إنَّا مغلوبون فانتصِر، الذي يرتاح له القلب المؤمن ويطمئن إليه: أنَّ نصْر الله قادمٌ لا شك فيه، وأن الله - تعالى - سينصر أولياءه بآيةٍ تصدم الأمة صدمة الإفاقة، لقد نَصَرَ الله - تعالى - رسولَه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والفئة المؤمنة، التي وجدت نفسها على غير استعداد في مواجهة قريش عند بدر، ويهتف النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لربه في ضراعة الضعيف والفقير، الذي ليس له إلا هو: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَد فِي الأَرْضِ» [2]، فأَنْجَزَ الله له وعده، وأيَّدَه بجنوده، وأنزل ملائكته وأعز أولياءه.
ومن نصره - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب؟ عشرة آلاف مشرك من أرجاء الجزيرة، تواطأ معهم اليهود، ضربوا حصارًا خانقًا على المدينة، ووقف المسلمون وراء نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم - من داخل الخندق؛ يعلنون حقيقة إيمانهم، فنصرهم الله بجنده، وهَزَمَ الأحزاب وحده، وكفاهم القتال، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].
التدخُّل الإلهي المباشر، أو الحسم الإلهي له شُرُوط، لا بدَّ من توافرها لتحقيقه، نعتقد أن منها:
- القيام الخالص لنصرة الله - عز وجل.
- الثبات على الإيمان.
- البراءة والتجرُّد من كل سلطان، والاستسلام لسلطان الله الواحد الأحد.
- بذل غاية الجهد، والقيام بكامل الطاقة.
- استنفاذ كامل الأسباب المادية المؤدِّية إلى دفع العدو والانتصار عليه.
- الافتقار إلى الله، والضَّراعة إليه، والاستعانة به وحده، والاستنصار به دون سواه، بعد افتقاد المُعين والنصير.
- الإخلاص لله وحده، والتَّوَكُّل عليه.
إذا تحقَّقت هذه المواصَفات في جماعةٍ مؤمنةٍ في أي زمان ومكان، تحقَّق لها التدخل الإلهي المباشر؛ ثقة في وعد الله، فلتطمئنَّ القلوب، ولتسكن النفوس، ولتخْشَع الجوارح، ولنحسن الضراعة لله - تعالى - والاستنصار به، ضراعة الضائع الخائف في ليل الصحراء بلا أمل، فاللهمَّ أرِنا آيةً تنصر بها إخواننا في فلسطين، وتعيدنا بها إليك، وتعالج بها قلوبنا المكلومة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] "جامع البيان في تأويل القرآن".
[2] صحيح مسلم: "باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم".
______________________________________________________
الكاتب: أحمدي قاسم محمد
- التصنيف:
- المصدر: