اللغة العربية الفصحى ومعاول الهدم العامية
لم تكن اللغة العربية الفصحى أحسن حالاً مما هي عليه اليوم من عقوق أبنائها، إذ أن تدهور وضعها ليس وليد اليوم أو أمس القريب، فهو يعود إلى ما قبل أواخر العصر العباسي..
لم تكن اللغة العربية الفصحى أحسن حالاً مما هي عليه اليوم من عقوق أبنائها عندما شكت حظها العاثر على لسان حافظ إبراهيم، إذ أن تدهور وضعها ليس وليد اليوم أو أمس القريب، فهو يعود إلى ما قبل أواخر العصر العباسي عندما استولت على الحكم في البلاد العربية عناصر عجمية عرقا ولغة، وقد أشار أبو الطيب المتنبي إلى ذلك متألماً ساخطاً عندما قال:
بِكـُلِّ أَرضٍ وَطِئتُها أُمَــمٌ تُـرعى لِعَـبدٍ كَأَنَّهـا غَنَــمُ
وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ وَما تُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَمُ
وعلى القارئ الكريم ألا يفهم أنها دعوة إلى شعوبية جديدة مضادة، وقد مضى زمن الشعوبية مع بشار بن برد وأبي نواس ومن لف لفهما إلى غير رجعة، لأن الأمر لا يتعلق بقضية قومية سياسية وإنما بقضية لغة قومية تكاد تستسلم للاحتضار بتآمر مقصود أو غير مقصود من أهلها أنفسهم قبل غيرهم، إنها اللغة العربية الفصحى التي ما فتئت مساحتها تتآكل بوتيرة تكاد تكون يومية بفعل الزحف العامي والدخيل المستمر منذ عصر الضعف والانحطاط رغم جهود زعماء النهضة الحديثة في مجالات الإصلاح الديني والإحياء الأدبي والتأليف اللغوي الجاد وجهود المجامع اللغوية مشرقاً ومغرباً، والتي لم تؤت أكلها في إلحاق اللغة العربية الفصحى بركب لغات لا تعد ذات أهمية من حيث العالمية كاللغة الروسية، في المجالات العلمية والتكنولوجية وحتى العلوم الإنسانية.
وأود أن أقول للقارئ الكريم إني لست من دعاة التنطع اللغوي الذين يحاولون أن يفرضوا الفصحى في البيت والشارع وأماكن الترويح المختلفة مع أني لست ضده لو أمكن، مادام الأمر يتعلق بلغة القرآن فإن الاستهانة بصغار الأمور تؤدي إلى الاستهانة بكبارها.
إن الإصلاحات التربوية المتعاقبة في عالمنا العربي أدارت ظهرها لإكساب المتعلم قدرة لغوية تعبيرية ذات مستوى رفيع وخاصة في مادة اللغة العربية وراحت توهمنا باللهث خلف تجارب الأمم المتقدمة علميا لإدراك مراتبها، ولكنها في الوقت نفسه سمحت لأشباه المعلمين أن يلجوا هذا المجال تحت غطاء امتيازات مختلفة، وقد شاهدت بعيني ــ وأنا بعد طالب في الجامعة - معلما منتدبا لا يفرق بين التاء المبسوطة والتاء المربوطة، فهل يستقيم الظل والعود أعوج؟ وهكذا أدى التساهل في هذه الأمور وأشباهها إلى حد السماح للمتعلمين والمعلمين على السواء باستعمال العامية، بل إن هناك داعية له شهرة فضائيات واسعة يخاطب الناس بالعامية، ولست أدري لو كان الشيخ محمد الغزالي حيا هل سيكون له رأي في هؤلاء الدعاة؟!!!.
إن هذه الممارسات لا تؤذي اللغة العربية الفصحى فحسب بل تضعف الوشائج بين شعوب الوطن العربي عندما يستقل كل شعب بلهجته المحلية مؤثرا إياها على الفصحى التي صار يستصعبها وينفر من قواعدها مع أنه يتطلع بشغف إلى تعلم الفرنسية أو الإنجليزية ويحرص على إتقانهما حتى لا يحمر وجهه خجلا إذا خطّأه أحد ! ألا إنها جاهلية لغوية جديدة تريد أن تقضي على ما يوحد الأمة من لسان عربي مبين.
والحال هو نفسه بالنسبة للإعلام والصحافة حيث أضحينا نرى جرائد ناطقة بالعامية من الغلاف إلى الغلاف فضلاً عن ألفاظ تستعمل بعيداً عن معانيها الصحيحة كلفظ (المشوار) الذي يقصدون به المسار أو السيرة و(طلب السماح) الذي يقصدون به طلب المسامحة والصفح وهذا كله من التفكير والتعبير بالعامية.
إن عند ما تطالع الصحافة العربية تجد العجب العجاب، وأخطاء لا حصر لها، في تركيب الجمل، بل وحتى في إملاء الكلمات، هذا كله بسبب البعد عن المحاضن اللغوية الفصيحة ؛ فهل نعود للغة القرآن مرة أخرى ؟!!
______________
الشرق القطرية 7/4/2010م بـ"تصرف"
_____________________________________
اسم الكاتب: بقلم عبد الباقي صلاي
- التصنيف:
- المصدر: