صوم الجوارح
إن كنت تمتلك لسانًا فصيحًا فاعلم أنها نعمة من نعم الله تعالى عليك فليكن التحدث بها في طاعة وخير
- التصنيفات: محاسن الأخلاق -
بقلم/ فاطمة الأمير
كثيرًا ما نتواجد في تجمعات لا تخلو من القيل والقال فيتم استدراج القلب والنفس إلى التحدث وما أن تستميل النفس إلى الكلام ينطلق اللسان بالانسجام في عالم اللغو والتوغل في خوض كل حديث يمرض البدن ويضعف القلب وكأن هذه التجمعات ماهى إلا كشباك العنكبوت تطلق خيوطها لتجذب اللسان إلى هاوية فإما أن تطلق أثرك الطيب بجميل القول به وإما أن تضمك شباك العنكبوت وتحكم سيطرتها عليك فينطلق اللسان بكل ماهو قبيح وبذئ.
تظل تغتاب هذا وتخوض في عرض هؤلاء تنقل الكلمات من هنا إلى هناك ولا تبالي بوقع أثرها حين تصيب موضعًا خاطئًا .
إن كنت تمتلك لسانًا فصيحًا فاعلم أنها نعمة من نعم الله تعالى عليك فليكن التحدث بها في طاعة وخير وإن لم يكن في غير ذلك فالصمت أفضل من الكلام في غير موضعه.
حتى قال العقلاء قديمًا: مِن حكمَة الله في خَلقِه أنه خلَق لنا أذنَين ولسانًا واحدًا؛ لنتفكَّر ونسمَع ضِعفَي ما نقول
و أيضًا لكي تملأ الصحائف بكثرة الذكر والتسبيح.
عندما تعرض أعمالنا على جمع من الخلائق والملائكة ونرى الصحف التى طويت في حياتنا وهى مليئة بكثرة ما اغتبنا ونافقنا وتناقلنا من كلمات كانت سببًا في تدمير حياة من حولنا فكيف هو الشعور الذى سيعترينا؟
إنه شعور الخزي والذل والندم على مافرطنا من أوقات ضاعت منا في غير طاعة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
««إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَات وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»» [رواه البخاري]
كلما هممت أن تتكلم تذكر قول الله -عزوجل-: ﴿ { مَّا یَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَیۡهِ رَقِیبٌ عَتِیدࣱ } ﴾ [ق : ١٨]
إن تركت لسانك بلا حارس لكلماتك فستكون كالذئب الذى يأكل حسناتك
وإن اطلقت السمع سيجذبك الكلام أكثر إلى التكلم فلتعرض إذاً واركب سفينة النجاة وابتعد بها عن غثاء الألسنة
كلما هممت أن تتكلم تذكر قول الرسول عليه الصلاة والسلام
قال صلى الله عليه وسلم: « لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» . [رواه أبو داود ومعناه أيضاً في مسند الإمام أحمد] .
فكم من بيوت دمرت بمعنى الكلمة وعلاقات كانت من أنجح وأجمل ماتكون ولكنها خربت بسبب اللسان فاجعل شفتيك تنغلق إن هم اللسان بالكلام وصن حسناتك بقلة اللغو فيما لايعنيك و إن طلبت استشارتك في أمر فلتقل خيرًا أو لتصمت
إنها نعمة عظيمة قد حرم منها غيرك فالأبكم يتمنى لو كانت لديه هذه النعمة ليتحدث بها في الخير
يتمنى لو أن له لسانا يذكر الله به ليلاً ونهارًا، لايفتر أبدًا عن ذكر الله
وأنت ماذا فعلت بجوارحك التى أعطاك الله لك؟
هل تكلمت بها في طاعة وحق؟
كم ذكر وتسبيح شغلت به نفسك و ملئت به صحيفتك؟
هل أطلقت من كلماتك عطور تسبقك أينما هممت بالتحدث؟
أم كانت كلماتك كلها مثل أشواك الصبار تغرز في أجساد من حولك؟
أم شغلتك نفسك بعيوب غيرك وكنت بين الناس كالداء الذي ينهي تلك العلاقات الطيبة ؟
ليس لك الحق في قلب حياة الآخرين بكلمة تسمع من هنا فتقال هناك
إذا اتتك الألسن تتحدث وتنقل لك عن هذا وذاك فقل لهم هى صحيفتهم فلتملأ بما شاءوا
هنا أنت ألجمت لسانك وغضبك عندما سمعت همهمات وثرثرات البعض
هنا أنت ألجمت ناقل الكلام عن إرسال المزيد من الأخبار والقيل والقال
هنا أنت أغلقت أبواب الشيطان
إنها إما نعمة أو نقمة على صاحبها فلننجوا بصوم الجوارج ولنبتعد عن كل ما يجعلنا نقع ولنثبت على فعل الخير
قـال الإمـام ابن الـقيـّم
رحمه الله تعالى :《 فـإن اللـسان لا يسكـت الـبتّة،
فـإمـا لـسان ذاكـر وإمّـا لـسان
لاغ، ولابُـدّ من أحدهمـا،
فـهي الـنّفس إنْ لـمْ تشغـلهـا
بـالـحق شغلـتك بالـباطل،
وهـو الـقلـب إنْ لـمْ تسكـنه
محـبّة الله عز وجل، سكـنته
محـبّة الـمخلوقين ولابـُدّ،
وهـو اللـسان إنْ لـمْ تشغـله بالـذكر شغـلك باللـغـو وهـو علـيك ولابـُدّ،
فـاخـْتر لـنَفْسك إحـْدى
الـخطـتين وأنـزلـها في إحْـدى
الـمنزلـتين.》 [ الـوابل الـصيّب (صـ١٧٦-١٧٧) ]
و يقول ابن الجوزي رحمه الله
ليس الصوم صوم جماعة عن الطعام
وإنما الصوم صوم الجوارح عن الآثام
وصمت اللسان عن فضول الكلام
وغض العين عن النظر إلى الحرام
وكف الكف عن أخذ الخطام
ومنع الأقدام عن قبيح الإقدام
إلى متى ونحن نجهل أو نتجاهل خطورة هذا الأمر
إلى متى ونحن نغفل أو نتغافل عن حجم كارثة اللسان إن مال وسلك طريقًا هلك بصاحبه في الدنيا والآخرة
إلى متى سنظل تحت تأثير تلك التجمعات فمهما كانت نيتك ومهما كان صلاح عملك وسريرتك فلابد من وقفة حازمة تقطع بها تلك الأقاويل ولاتسمح لأحد أن يجذبك إلى الهاوية
عليك إذًا بصوم الجوارح
فرحم الله ابن القيم رحمة واسعة يوم أن قال في "الجواب الكافي " :
(من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والسرقة وشرب الخمر والنظر المحرم وغير ذلك , ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه !! حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً , يزل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق والمغرب والعياذ بالله).
والله لا يدخل الناس النار إلا بما حصدت ألسنتهم
تأمل قول الله عزوجل:- ﴿ { وَإِذَا مَرُّوا۟ بِٱللَّغۡوِ مَرُّوا۟ كِرَامࣰا} ﴾ [الفرقان : ٧٢]
أي إذا مررت بمجلس غيبة أو نميمة فمر عليه منكرا ماسمعت منهم وامض مسرعا ولا تلتفت إليهم فوقتك أثمن من أن تنصت لهؤلاء
قيل لعيسى عليه السلام: أوصنا. قال: لا تتكلموا أبداً. فقالوا له: ومن يطيق ذلك؟ قال: فلا تتكلموا إلا بخير.
اختر الآن مابين أن تجعل لسانك إما جنتك أو نارك!
فاختر ماشئت.....