طلاب بهمة جوفاء
"ابتعد عن الأشخاص الذين يحاولون التقليل من شأن طموحاتك؛ فصغارُ الشأن يفعلونَ ذلك، ولكن العظماءَ يجعلونكَ تشعرُ بأنك أيضًا ممكن أن تصبح عظيمًا".
- التصنيفات: تربية الأبناء في الإسلام - طلب العلم -
يعاني كثيرٌ مِنَ العاملينَ في سلكِ التعليمِ التربوي من تدنِّي الدافعيةِ لدى هذا الجيلِ، وضعف الهمةِ في التحصيلِ والمثابرةِ، فلا تكادُ تجدُ في مدرسة بأكملِها مَنْ لديهِ قريحةٌ وَقَّادَةٌ، أو ذكاءٌ حادٌّ وهِمَّةٌ عاليةٌ، إلا كما قيل: "مثل الغراب الأعصم"، وإنْ وجدت طالبًا نجيبًا في بداية المراحلِ، فإنه سرعانَ ما تضعفُ همتُه، ويقلُّ تحصيلُه مع مرورِ الأوقاتِ، فما إنْ تراهُ حتى تُنكرَ حالَه كيفَ تبدَّلَ، وهمتَه كيف ضعُفَتْ، وعزيمتَه كيف خارَتْ، فيرتدُّ طرفُك خائبًا يجرُّ أذيالَ الندامةِ، ولسانُ حالِه يقولُ: أين مَنْ شِعَارُه:
هِمَّتي هِمَّةُ المُلوكِ، وَنَفْسِي ♦♦♦ نَفْسُ حُرٍّ، تَرَى المَذَلَّةَ كُفْرَا؟
ولو قَرَأْنَا هممَ السابقين، وتتبعنا سيرتهم في التحصيل والطلب، لرأينا البَوْنَ الشاسِعَ بين الجيل وأسلافِه العظماءِ، الذين كانوا يقطعونَ الفيافيَ والقفارَ من أجلِ حديثٍ واحدٍ، ويسهرونَ الليالي الطِّوالَ من أجلِ استحضارِ آيةٍ أو بيتِ شعرٍ.
فيا ترى، ما الذي أوصلَ هذا الجيلَ إلى هذا المستوى؟ وما الأسبابُ التي جعلت منه خاويَ الهمةِ، ضعيف التحصيل، مشتت الفكر، يحتلُّ آخرَ المراتبِ بين الأممِ والشعوبِ.
إنها - بلا شكٍّ - قضيةٌ مصيريةٌ، يجب الوقوفُ على أسبابها، ومعرفةُ الحلولِ المناسبةِ لها، فضعفُ الهممِ لدى الطلابِ هو ما تُعاني منه الأمةُ اليومَ، فالأمةُ تملكُ مقوماتِ النهوضِ جميعَها، الماديةَ والمعنويةَ، ولكنها تفتقرُ إلى أصحابِ الهممِ العاليةِ، والأفكار النيرة، والطموحات العالية، الذين يأخذون بأيديها إلى سُلَّمِ المجد، ويرفعونها إلى مراتبِ القيادةِ، التي كانت متربعةً عليها في عصور سابقة.
ولعلي في هذا المقالِ البسيطِ، ومن خلال احتكاكي اللصيق بالطلاب، أَعْزُو هذا الضعفَ في الهمةِ، والتكاسلَ في الطلبِ، إلى أسبابٍ عديدةٍ، من أهمها، في نظري، ومن خلال استبيان عملته، وشاركني فيه زملائي المعلمونَ، أول هذه الأسباب وأهمها على الإطلاق:
أولًا: التربيةُ في الأسرةِ:
إن إعدادَ جيل يحمل في داخله هَمَّ الأمة - ليس أمرًا سهلًا، ولكنها مهمةٌ شاقةٌ تحتاج إلى تخطيط وإعداد، فالأسرةُ هي المحضن الأول الذي يتلقى فيه الطالب دروس الحياة، وهي النبع الصافي الذي يستقي منه الطالبُ القيمَ والمبادئَ العظيمةَ، فإذا رُبِّيَ الطالبُ في الأسرة على مكارم الأخلاقِ ومعاني العظمة، فإنها تثمر جيلًا ذا طموحٍ عالٍ، وفكرٍ متحررٍ من كل قيود الضعف والانهزامية.
وما أعظمَ أن يُربطَ الطالبُ بهدف سامٍ يسعى لتحقيقه، فإذا رأى الطالب الهدف أمامه، فإنه يدفع بكل طاقاته، وجل اهتمامه لتحقيقه.
أما إذا رُبِّيَ الطالب في الأسرة على سفاسف الأمور، والرضا بالدون، ليس له هم سوى إشباع رغباته، وإرضاءِ نزواته الفانية من الملذات والشهوات، فَمَنْ كانت هذه تربيتَه، فإن النتيجة الحتمية هي أن نرى جيلًا قمةً في الأنانية، منغمسًا في المادية، شعارُه السلبيةُ، ورأسُ مالِه الأماني والأحلام الوردية.
ثانيًا: المنهج المقدَّم للطالب:
حيث تعدُّ المناهجُ الدراسيةُ المقدَّمةُ للطلبة بمنزلة الطريق الذي يفسح المجال للطالب للإبداع والتميز، ويتحدى قدراته، وينمي مواهبه، فإذا كان المنهج الدراسي لم يتغير منذ عشرين عامًا، والعالم لا تَمُرُّ ثانيةٌ إلا واختراع جديد يظهر، وثورة علمية تتطور، فكيف سيواكب الجيلُ هذا التغيرَ الرهيبَ إذا كانوا يرون مناهجهم متخلفة عن عالمهم المحيط عشرات السنين أو أكثرَ؟ وكيف يا ترى يبدي الطالب اهتمامًا بمناهجَ لا تعلِّمه سوى قشور الأشياء وتوافهِها؟ فمناهجنا إلى هذه اللحظة غيرُ قادرة على مواكبة العصر أو مجاراة الواقع، فهجَرها أبناؤنا، وذهبوا يلتمسون ما يمكن أن ينفعهم في مناهجَ لا تَمُتُّ لعقيدتهم وميولهم بصلة، فواضعو المناهج للطلاب - للأسف - ركَّزوا على الكم وليس الكيف، فالطالب من الساعة الأولى إلى قرب صلاة العصر وهو من حصة إلى أخرى، فأين الوقت الكافي للتطبيق؟ وأين ما ينمي قيمة البحث لديه؟ وأين ممارسة النشاط الذي يناسب قدرات الطالب؟ وأين .. وأين؟
وقد قيل: "قل لي ماذا تقرأ .. أخبرك من أنت"، فكم كتابًا قرأه الطالبُ خلال مرحلة دراسته؟ لا شيءَ .. فإذا كانت هذه المدخلات للطالب، فكيف تكون المخرجات بعدها؟
ثالثًا: وسائل التواصل الاجتماعي:
أصبحت وسائلُ التواصل الاجتماعي تقوم بدور بارز في التربية والتعليم، بل إنها تعد المنافسَ الأكبر الذي يهدِّد كيان الأسرة، ويلغي دورها المحوري في التربية وغرس القيم.
فقد مكَّنَتْ سرعةُ انتشارها، وسهولة الدخول إليها، وصعوبة مراقبتها أو تقنينها - الكثيرَ من الطلاب في المدارس من الولوج إليها والتأثر بها، فنتج عنها كثيرٌ من الآثار السلبية على همة الطالب، وتأثرت بها دافعيتُه للتعليم والطلب.
وأوجدت هذه الوسائل جيلًا يعاني من عديد من الأمراض الاجتماعية الخطيرة؛ كالانطواء على النفس، وضعف التركيز، والتشتت في الرؤية، وتحوَّل الجيل اليوم إلى جيل متسول لإعجاب الآخرين، متواكلٍ على غيره في جميع أمور حياته، بعيدٍ عن تحمل المسؤولية، معجبٍ بالتافهين والتافهات كافة، وانقطعت صلته بأسرته ومجتمعه، منزويًا خلف هذه الشاشات الصغيرة، لا تدري ماذا يفعل أو يشاهد، فجيلٌ بهذه الصفات يستحيل أن يصل إلى القمة، أو ينافس على المراكز الأولى بين الأمم.
فلا بد - إذًا - من أن تكون هناك رقابة على هذه الأجهزة، وألا يترك الأبناء يعبثون فيها طوال الوقت، وإلا تحوَّلت إلى سلاح فتاك، تُباد فيه عقولُ الطلاب، وتحطَّم على أعتابها هممُهم وعزائمهم.
رابعًا: الرفقاء السلبيون:
فقد أظهرت الدراسات - وقبلها العقلُ السليم - ضررَهم وتأثيرَهم في تحطيم الهمم وهدم العزائم، فمن اعتادَ ملازمتَهم، والجلوس معهم، أصابه مِنْ دَخَنِهم، وانتقلت إليه سلبيتُهم، ففي دراسة قام بها علماء من النمسا، وضعوا فيها طلابًا أذكياء وسطَ مجموعة من الأغبياء، فانخفض معدل ذكاء الفئة الأولى، وبذلك اتضح أن الغباءَ مُعْدٍ فعلًا، طبقًا لهذه الدراسة، وعليه؛ فإن مرافقتك لأشخاص أغبياء قد يزيد من غبائك أيضًا، حتى ولو كنت تتمتع بالذكاء، وقد قال الخوارزمي من قبل:
لا تَصْحَبِ الكَسْلانَ فِي حَاجَاتِـهِ *** كَمْ صَالحٍ بِفَسَـادِ آخَــرَ يَفْـسُـــــدُ
عَدْوَى البَلِيدِ إِلَى الجَلِيدِ سَرِيعَـةٌ *** وَالجَمْرُ يُوضَعُ فِي الرَّمَادِ فَيَخْمُدُ
وفي كلامٍ يُنقَل عن الكاتب مارك توين: "ابتعد عن الأشخاص الذين يحاولون التقليل من شأن طموحاتك؛ فصغارُ الشأن يفعلونَ ذلك، ولكن العظماءَ يجعلونكَ تشعرُ بأنك أيضًا ممكن أن تصبح عظيمًا".
فإذا كنتَ ممن لديه طموحٌ ودافعيةٌ للوصول للقمة، فاقطعِ الصلةَ عن المحبِطين والمخذِّلين والسلبيِّين.
______________________________
الكاتب: محمد علي الخلاقي