ديمقراطية الأقليات
راشد الغنوشي أكد قدرته على التملص من الأزمات رغم عدم وجود قاعدة شعبية سياسية كبيرة تمثلها حركة النهضة منذ سقوط نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، فقد اعتمد الرجل على الهوية الوطنية التونسية والتراث التقليدي الإسلامي للبلاد ليجمع الكثير من الشبان خلف أهدافه السياسية ونجح في أن يكون "صانع ملوك" في كل الحكومات التونسية التي تشكلت بعد الثورة، واستطاع في الحلقة الأخيرة من الأزمة أن ينحني أمام العاصفة ليترك المواجهة للكتل السياسية الشابة ويراهن على تمزق الدولة العميقة التي خلفها بن علي والرئيس التونسي الراحل القايد السبسي، وتخبط قيس سعيد وعدم قدرته بعد أسابيع من الإجراءات التي اتخذها على تشكيل خارطة طريق سياسية تخرج البلاد من أزمتها الراهنة.
يبلغ الغنوشي 80 عاماً من عمره أمضاها في مقارعة الدولة التونسية منذ عهد بورقيبة معتمداً في ذلك على هويته السياسية الإسلامية التي ينتمي إليها، وكتلة من الشبان الذين تأثروا بالفكر الثوري التونسي بعد سقوط بن علي، وحوَّل النهضة إلى أشبه بالرمال المتحركة في تأثيرها على السياسة التونسية محاولاً التملص من المواجهة مع قوى علمانية معمرة في البلاد وتمتلك الكثير من أدوات الإعلام والإقتصاد، ورغم نشوة الإنتصار التي ظهرت على الكثير من أعداء النهضة عقب قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد، إلا أن ما يجري في تونس أبعد ما يكون عن إصدار حكم واضح حول نتائج المعركة الحالية، فالغنوشي الذي أمضى أكثر من 20 عاماً في المنفى لم يعد إلى تونس ليخرج منها مرة أخرى ولديه مواقف مختلفة تؤكد قدرته على التكيف مع الواقع، فالدولة العميقة في تونس كانت في أوج قوتها في عهد الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي ولم تستطع القضاء على النهضة وتقتلع جذورها لعدة أسباب، أبرزها أن 10 سنوات من الديمقراطية في تونس كانت كفيلة بظهور جيل جديد من السياسيين التوانسة الذين استطاعوا إرباك سيطرة الدولة العميقة على المشهد في تونس مثل ياسين العياري وسيف الدين مخلوف، كما أن الدولة العميقة التي كانت في عهد بن علي تتمتع بقبضة أمنية واسعة تحولت إلى لوبي إعلامي وإقتصادي فقط وليس له قدرة التأثير الكامل على الجهاز الأمني التونسي الذي يحاول تجنب الدخول في مواجهة مع الشارع بسبب ضعف إمكاناته، بالإضافة إلى الضعف الذي أصاب مؤسسات الدولة. يشغل الغنوشي رئاسة البرلمان التونسي ويصنع قوته التشريعية من تحالفه مع قوى من المستقلين مثل إئتلاف الكرامة وقلب تونس الذي يتزعمه رجل الاعمال الليبرالي نبيل القروي بهدف تقليص تأثير التجمعيين ومحاولاتهم العودة إلى المشهد عبر تعطيل الحياة العامة وصناعة أزمات سياسية متتالية، ورغم فشل النهضة في الحصول على أغلبية مطلقة في البرلمان إلا أنها دائماً أكدت قدرتها على لعب دور رئيسي في بناء التحالفات السياسية.
يبتعد الغنوشي منذ 2016 عن الهوية الدينية لحزبه ويعتبر نفسه زعيماً لحركة وطنية سياسية تونسية تؤمن بالديمقراطية، وقد شق طريقه السياسي عقب عودته من رحلته التعليمية في القاهرة ودمشق إلى تونس في أواخر الستينيات حيث أسس " حركة الاتجاه الإسلامي" عام 1981، وهو الحزب المعروف حالياً باسم "النهضة". في عهد بورقيبة سُجن الغنوشي مرتين بسبب أنشطته السياسية ودعا بورقيبة وصدر بحقه حكماً بالإعدام لكن بن علي أصدر عفواً عنه في عام 1987، وفي عام 1991 غادر تونس إلى لندن، وهو المكان الذي جعل الغنوشي أكثر حكمة في التعاطي مع المشهد السياسي العربي وحوله من رجل التصادمات إلى رجل التوافق. يقول أحمد قعلول، عضو في حركة النهضة ووزير سابق للشباب والرياضة في تونس، " إن إحتكاك الغنوشي بالنخبة الأوروبية والقومية العربية والإسلامية زاد مرونته السياسية لكن ذلك أثر على القواعد الحزبية للنهضة وسبب إنقسامات بداخلها".
اتهمت حركة النهضة بصفتها تتزعم الإئتلاف الحاكم بإهدار فرصة تشكيل المحكمة الدستورية وهي الجهة الوحيدة وفق دستور تونس الذي تمت صياغته عام 2015، القادرة على إصدار تفسير قضائي واضح بشأن إعتماد قيس سعيد على البند 80 من الدستور في تجميد البرلمان وحل الحكومة، وقد عرف القانون الأساسي التونسي، المحكمة الدستورية، بأنها "هيئة قضائية مستقلة ضامنة لعلوية الدستور وحامية للنظام الجمهوري الديمقراطي وللحقوق والحريات في نطاق اختصاصاتها وصلاحياتها المقررة بالدستور والمبينة بقانونها".وطبقا لهذا القانون، فإن المحكمة الدستورية تتكون من 12 عضوا حيث يعين الرئيس 4 قضاة منهم، ويختار المجلس الأعلى للقضاء 4 آخرين، ويختار البرلمان الـ 4 المتبقيين. وكان على البرلمان التونسي أن يجري انتخابات داخلية لاختيار قضاته المقترحين من القوى السياسية الممثلة، بحيث يفوز 4 مرشحين حائزين على ثلثي الأصوات. وعلى مدار 5 جلسات تصويت امتدت حتى 2019، لم ينجح البرلمان سوى في ترشيح القاضية روضة الورسيغني، ولم يحصل أي مرشح آخر على ثلثي الأصوات. وفي ابريل الماضي قد البرلمان مقترح مشروع جديد يهدف إلى تقليص عدد الأصوات المطلوبة لترشيح القضاة لكن قيس سعيد رفض المصادقة على هذا التشريع، وفسرت تلك الخطوة على أنها محاولة من سعيد لإستغلال عدم وجود أغلبية مطلقة في البرلمان يمكنها تبرير فشل الكتل السياسية في تقديم أي نجاح سياسي على المدى القريب وبالتالي توفير حاضنة شعبية لخطواته التي نفذها لاحقاً.
ويعقب على ذلك القانوني والمحلل السياسي، عبد اللطيف دربالة، قائلاً" إن الرئيس سعيد ألغى أي إمكانية لتأسيس محكمة دستورية على الأقل في عهده، وهي كانت كفيلة بإخراج البلاد من الأزمة السياسية التي تعيشها حاليا".على المستوى الشعبي كان هناك تفاعلاً كبيراً مع الخطوة التي قام بها قيس سعيد، وفسر هذا السلوك على أن الشارع لديه علاقة متناقضة مع الديمقراطية، فهم ينظرون إلى الدولة من جانب واحد وهو الجانب المتعلق بفاعليتها وقدرتها على توفير الوظائف وشبكة الأمان الاجتماعي دون النظر إلى الجانب الآخر وهو الخطوات القانونية التي تتبعها الدولة في صنع قراراتها الاقتصادية والسياسية، ونوعية الحاضنة الشرعية التي يتمتع بها صانع القرار السياسي في الدولة وعدم وجود هوية دستورية للدولة تحد من تحول الحالة الديمقراطية إلى أوتقراطية مطلقة لايمكن السيطرة عليها.
لذلك ولكون تونس لديها تجربة ديمقراطية محدودة التأثير على محيطها فإن الغرب لم يهتم كثيراً في تقييم تجربة قيس سعيد وركزت البيانات السياسية الصادرة من فرنسا والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية على ضمان إستمرار الدولة في تأدية وظيفتها المتعلقة بالمسار الديمقراطي لكن سعيد إختار في مخاطبة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مصطلح "الشرعية الشعبية" وهو مصطلح فضاض يعتمد على الصخب الإعلامي بدرجة كبيرة وليس على صندوق الانتخابات، وهذا يؤكد أن الديمقراطية التي يريدها الغرب دائماً ينظر إليها على أنها ديمقراطية تتمتع بتصالح كبير مع العلمانية وتتصادم بشكل حاد مع أي محاولات لإضفاء إستقلالية على صنع القرار السياسي، فالولايات المتحدة استبدلت النظام العراقي الاوتقراطي في عهد صدام بنظام ديمقراطي تم إنتقاءه بعناية من الأقلية الشيعية في العراق، وتم كذلك إسقاط القذافي في ليبيا واستبدل بديمقراطية الفوضى التي يقودها خليفة حفتر. وعلى سبيل المثال لا الحصر فالشعب الصيني لديه نسبة رضى كبيرة عن حكم الحزب الشيوعي لكن المنظومة الغربية بكاملها لم تعد راضية عن نظام الحكم هناك لأنه يهدد مصالحها، فبالنسبة للشعب الصيني الديمقراطية لا تتعلق بالإنتخابات وما تفرزه من حالة سياسية بل ما تفرزه الحالة السياسية من خدمة مصالح الشعب، وهكذا الأمر بالنسبة للرئيس بوتين في روسيا فهو يتمتع بشعبية عالية في بلاده لكن هذه الشعبية لا تزال غير مؤثرة في إقناع الولايات المتحدة بأن الديمقراطية لا تصلح للروس.
هناك نظرية سياسية واحدة أصبح الكثير يؤمنون بها وهي أن توفير الأمن والخدمات الصحية والأساسية والطعام والشراب وتأمين الوظائف يمكن أن يجعل الناس أقل إقتناعاً بالديمقراطية الغربية، وهنا يمكن الإدراك أن الديمقراطية بالنسبة للشعوب هي وسيلة إبتزاز وضغط على النظم السياسية لتوفير إحتياجاتها، فالكثير من الشعوب اللاتينية لديها وسائل ديمقراطية جيدة لكنها تعيش في أوضاع إقتصادية سيئة جداً.
_____________________________________________
الكاتب: . أحمد الفقي
- التصنيف:
- المصدر: