الطريق إلى الراحة
أجْمع العقلاء على أنَّ الطَّريق إلى الرَّاحة والدَّعة والسُّكون طريقٌ محفوف بالمخاطر، مرصَّع بالعقبات...
أجْمع العقلاء على أنَّ الطَّريق إلى الرَّاحة والدَّعة والسُّكون طريقٌ محفوف بالمخاطر، مرصَّع بالعقبات، يتطلَّب من السَّاعي جهدًا وعزيمةً وصبرًا؛ لكنَّهم اختلفوا معنا - أهْلَ الإسلام - أنَّ الرَّاحة ليست فقط في تحقُّق مطالب النُّفوس الدنيويَّة، وحصول رغباتِها، واكتمال عقْدِ ملذَّاتِها في هذه الدَّار.
فإقْرار المؤمِنِين بأنَّ الجنَّة دار راحتِهم وتحقق رغْبَتهم.
كيف لا، والجنة دارٌ لا تُخالط صفْوَها الأكدار، ولا تنغِّص طِيب عيشِها الأقْذار؟!
فلا انْقِطاع للذَّتِها، ولا تحوُّل لعافيتِها، نعيمُها باقٍ، وأُنْسُها مستمرّ، فالطريق إليْها أوْلى بالصُّعوبات من غيره؛ لذلِك فإنَّه تُحيط به الأخْطار من جميع جهاتِه.
والدُّنيا كلُّها طريق للجنَّة، ومعبر لا مفكَّ عنْه ولا مهرب، وهي الفُرْصة التي لا تعقبها الفرص، فواتها فوات أبدي، وكسْبها كسب سرمدي، يعرِفها من آمن وعمِل، ويغترُّ بها من كفر وجهِل.
ودار الدنيا دار البلاء قبل الفوْز، مَن رَكَنَ إليْها خسِرها وخسِر ما وراءها من نعيم، ومَن أعْرض عنْها فاز فيها، وفاز بِما وراءَها من نعيم، والفِتَن فيها تتلبَّس بلِباس اللَّذائِذ والمُتَع؛ ليَميزَ اللهُ فيها أهْل الإيمان عمَّن سواهُم بالبلايا والممحِّصات، فهُم فيها على مضَض، وعيشُهم فيها نغصٌ وغصَص، فلا تكاد تنفرِج مُصيبةٌ حتَّى تحلَّ بهم أُخْرى، تتلاطَم أمْواج البلايا بين أعْيُنهم، ومَخالب الفتن والأهواء تمتدُّ إلى أجسادِهِم من كلِّ جهة، الواحدة منها كفيلةٌ بأن تصْرِف أحَدَهم عن الهدى، وتقتلِع منْه ما تزيَّن به صدرُه وتنوَّر به قلبه، وتحرَّكتْ به أطرافه تبعًا لما حواه القَلب من الإيمان والتَّقْوى.
وهم كذلِك، ولا يزالون على ذلِك ما داموا بِحبل الله مسْتَمْسكين، ومن الوحْيَين ناهِلِين، وبربِّهم معْتَصمين، يرْجون رحْمَته ويخافون عذابَه.
فمَن كانت هذه حالَه، فإنَّ حليفَه عونُ الله له وتأييدُه، ونصرتُه وتسديدُه، يثبِّتُه في الدنيا على الحقِّ، قولاً وعملاً واعتِقادًا، وعند الموت على قولِ كلِمة الحقِّ، وفي القَبر على إجابة الملَكين صدعًا بالحق، وفي الآخِرة على الصِّراط بألاَّ تزيغ منه القدَم، وألا تتخطَّفه الكلاليب، وألاَّ تنطفِئ أنْوار عمله التي تُعِينُه على السَّير على متْنِ جهنَّم.
وهكذا أهْل الحقِّ في الدنيا، يُفْتَنون لكي لا تتحوَّل أبصارهم عن (راحتِهم)، من بعد ما عزَموا إليْها المسير، وشمَّروا قاصدين الفوْز بِها؛ لأنَّ الله حكمَ ولا معقِّب لحكمه، وقضى ولا رادَّ لقضائه؛ فقال جلَّ مِن قائل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2].
فيا أيُّها السَّالكون:
تلك هي الدَّار، ويا أيُّها العازمون، هذا هو الطريق، فهل من جادٍّ ليصل لمراده؟! وهل من مشمِّر لدار القرار فينالَ غايته ومبتغاه؟!
اللَّهُمَّ احفَظ لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا، واحفَظْ لنا دُنْيانا التي فيها معاشُنا، واحفظْ لنا آخِرَتنا الَّتي إليْها معادُنا، واجْعل الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خير، والموت راحة لنا من كلِّ شرٍّ.
________________________________________________
الكاتب: حمدان بن راشد البقمي
- التصنيف:
- المصدر: