أبناء جلدتنا ومخطط هدم الفصحى
وكان عراب هذه الدعوى سلامة موسى، وقد ضمن كتابه «الأدب للشعب» آراءه في الأدب القديم الذي يريد أن يقضي عليه، والأدب الجديد الذي يدعو إليه.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
الدعوة إلى العامية انتشرت ابتداء عقب الحملات التي شنها الأجانب على الفصحى إبان فترة الاحتلال الغربي للشرق الإسلامي، وذلك لتمكين العامية من احتلال الميدان الأدبي والعلمي والتدوين عامة، وأخذت تواصل طريقها بعد ذلك على أيدي أبناء جلدتنا متسللة من خلال حركات التجديد والإصلاح المزعومة والتي تناولت بالتجريح اللغة الفصحى وآدابها، فاقترنت بحركة التمصير، وحركة إصلاح نحو العربية وكتابتها ومتنها، واقترنت بحركة التجديد المتطرفة في الأدب التي تريد أن تقطع صلتنا بالأدب القديم شكلا وموضوعا.
** يلخص الأديب المصري مصطفى صادق الرافعي معالم المخطط بقوله: على أني لا أعرف من السبب في ضعف الأساليب الكتابية والنزول باللغة دون منزلتها إلا واحدا من ثلاثة: فإما مستعمرون يهدمون الأمة في لغتها وآدابها لتتحول عن أساس تاريخها الذي هي أمه به ولن تكون أمة إلا به، وإما النشأة في الأدب على مثل منهج الترجمة في الجملة الإنجليزية والانطباع عليها وتعويج اللسان بها، وإما الجهل من حيث هو الجهل أو من حيث هو الضعف.
** كان رفاعة الطهطاوي من أوائل المصريين الذين قالوا بضبط العامية ودعوا إلى التصنيف بها على أن يكون ذلك في مواضيع معينة تتعلق بمصالح العامة. ولقد بث فكرته هذه في حرص شديد في كتابه «أنوار توفيق الخليل» بعد تهميد طويل أشاد فيه بالعربية الفصحى مبينا أهمية تعلمها، ووجوب إحيائها، ومآثر الأوربيين في هذا الإحياء، ووسائل تقدمها ونشرها، وطرق تدريسها، وسهولة اكتساب ملكتها مفندا مزاعم القائلين بصعوبتها.
** وهذا التحرج من الجهر بالدعوة إلى ضبط العامية عند رفاعة تلمسه عند الكتاب الذين كتبوا بالعامية في ذلك الوقت أي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر.
فلم يكونوا معنيين بالعامية لذاتها، وإنما كانوا يلجؤون إلى استخدامها –كما يتضح من كتاباتهم- رغبة في أن تكون عنصرا من عناصر التفكه والإضحاك الذي يخفي وراءه نقدا لاذعا لحياتنا الاجتماعية والسياسية، ووسيلة لتهذيب العامة وتثقيفهم، كما فعل يعقوب بن صنوع صاحب مجلة «أبو نضارة» وج. زنانيري صاحب مجلة «الغزالة» ومحمد النجار صاحب مجلة «الأرغول»
** ثم بدأ صدى الدعوة الأوروبية بنصرة العامية على الفصحى يجد صدى أكبر في مصر ومختلف البلاد العربية حيث هاجمها البعض وأيدها البعض الآخر، وأصبح لكل من الفصحى والعامية أنصار وخصوم يحتدم الصراع بينهما.
** فممن ناصر العامية «جريدة المقتطف» لصاحبها أحمد لطفي السيد التي شنت دعوة رعناء على الفصحى دون ذكر لأي من أسماء الغربيين أصحاب هذه الدعوة سلفا، وذلك لتوهم أبناء العربية أن الشعور بقصور العربية الفصحى وعجزها عن تأدية أغراضنا الأدبية والعلمية هو شعور عربي خالص.
ونصحت بضبط العامية اقتداء بالأمم الأوروبية التي ضبطت لهجتها وهذبتها، وكتبت بها وجرت بذلك المجرى الطبيعي القاضي على اللغات أن تتغير بتغير الأزمان، ودعا لطفي رجال الفكر إلى بحث اقتراحه ومناقشته
** ولقد لبى دعوته كثير: منهم المعارضون مثل الشيخ خليل اليازجي والجمعية الأدبية الدمشقية،، ومنهم المؤيدون مثل أسعد داغر وكاتب آخر لم يصرح باسمه وسمى نفسه «الممكن» خوفا من سخط الرأي العام
** ومنهم سلامة موسى الذي أشار إلى أن التأفف من اللغة العربية الفصحى التي نكتب بها والذي شعر به ولكوكس ليس حديثا، وإنما يرجع إلى ما قبل ثلاثين سنة حين نعى قاسم أمين على اللغة الفصحى صعوبتها وقال كلمته المشهورة «إن الأوروبي يقرأ لكي يفهم، أما نحن فنفهم لكي نقرأ» واقترح أن يلغى الإعراب فنسكن أواخر الكلمات.
ولكنه لما رأى الظروف لم تتهيأ بعد لتحقيق تلك الدعوة قام هو نفسه بطريقة أخرى لتحقيقها، هي طريقة التسوية بين الفصحى والعامية كنوع من الاحتيال لإفساح المجال أمام العامية، وأوجه التسوية في اعتقاده هي:
- إلغاء الألف والنون من المثنى، والواو والنون من جمع المذكر السالم
- إلغاء التصغير
- إلغاء جمع التكسير كله والاكتفاء بالألف والتاء لغير المذكر السالم
- إلغاء الإعراب والاكتفاء بتسكين آخر الكلمات
- إيجاد حرف كبير عند ابتداء الجمل
- عدم ترجمة الألفاظ الأوروبية والاكتفاء بتعريبها كأن نقول «بسكليت» ولا نقول دراجة.
وختاما يقول عن الفصحى: اللغة التي لا نزال نرطنها رطانة ولم تشربها بعد نفوسنا، ولا أمل في أن تشربها لأنها غريبة عن مزاجنا، وذلك لأن هذه اللغة الفصحى هي لغة بدوية، والثقافة هي بنت الحضارة وليست بنت البداوة، ولذلك فإنه يشق علينا جدا أن نضع معاني الثقافة في هذه اللغة سواء بالترجمة أم بالتأليف.
** ظهرت «حركة التمصير» بظهور القومية المصرية في أواخر القرن التاسع عشر وتبعتها في أطوار نموها حتى بلغت أشدها بعد ثورة 1919، والقومية المصرية من النزعات الانفصالية التي خلفتها السياسة الاستعمارية لا في مصر وحدها، بل في مختلف البلاد العربية، ولقد أثرت هذه النزعة في عقول المصريين وقلوبهم حتى أدت ببعضهم إلى نوع من التعصب الممقوت، والانطواء المذموم داخل حدود مصر الجغرافية، فقاموا ينادون بوضع آمالنا في مصر وحدها وتكريس جهودنا لها والعمل على حفظ مشخصاتها بإبراز الطابع المميز لها في كل ما يتعلق بنتاج أهلها.
ومن هنا نشأت حركة تمصير الأدب والفن بمختلف أنواعه، وكان مما تناولته أيضا اللغة العربية الفصحى، فقام دعاة التمصير يقترحون الأساليب التي تعين على تحقيق ما يدعون إليه، وكان من أبرز رواد هذه الحركة أحمد لطفي السيد، منشئ الوطنية الحديثة كما كانوا يسمونه، فجاءت فكرته في تمصير اللغة متسقة مع فكرته الرئيسية التي عالج بها مشاكل مصر السياسية والاجتماعية والتربوية وهي «المصرية».
وكان من أكثر الأدباء تحمسا لفكرة «تمصير الأدب» لغة وموضوعا محمد تيمور، وشقيقه محمود تيمور وحسين هيكل وتوفيق الحكيم
ومنهم أيضا عبد العزيز عبد الحق الذي شبه المرحلة التي نجتازها في اللغة والأدب في الوقت الحاضر بالمرحلة التي اجتازتها ولايات الدولة الرومانية والتي انتهت بإقصاء اللاتينية لغة الكُتاب وإحلال لغات الحديث محلها. وأشار إلى أن الفرق بيننا وبينهم هو أن كتابهم كانوا أكثر منا تحررا، فداسوا على الأرستقراطية العلمية التي كانت تتمثل في استعمال اللغة اللاتينية وكتبوا باللغات التي يفهمها العامة لا اللغات التي يفهمها الخاصة، وأنشئوا بذلك أدبيات قوية صارت من أهم أركان النهضة الأوروبية، أما نحن فعلتنا في عدم التحرر من العربية الفصحى هي تشبث رجال الثقافة الأزهرية بالعرب وحرصهم على اللغة العربية وآدابها .. بل تصل دهشتنا منه إلى الشك حيث يتساءل: هل هؤلاء أعراب أو مصريون؟ ولا يتوهم من هذا الكلام تحامل على العرب أو غيرهم فغايتي المقدسة هي «القومية المصرية» ويعز على الإنسان تحطيمها في سبيل العرب.
وكان ممن عارض وبين عوار فكرة التمصير تلك الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي في مقال شهير له بعنوان «تمصير اللغة»
** ومن أقوى الطعنات التي وجهت للفصحى كانت من قبل «عبد العزيز فهمي» أحد شيوخ مجمع اللغة العربية، وذلك في الاقتراح الذي قدمه إلى المجمع في جلسة 3/5/1943 بشأن تيسير الكتابة العربية، واستبدال حروفها بالحروف اللاتينية، وكان مما قال: "إن أهل اللغة العربية مستكرهون على أن تكون العربية الفصحى هي لغة الكتابة عند الجميع، وأن يجعلوا على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا، وأن يردعوا عقولهم من التأثر بقانون التطور الحتمي الآخذ مجراه بالضرورة –رغم أنوفهم- في لهجات الجماهير، تلك اللهجات التي تتفرع فروعا لا حد لها ولا حصر، والتي تتسع كل يوم مسافة الخلف بينها وبين الفصيحة جدة جداتها اتساعا بعيدا".
** أيضا ظهرت دعوة «تجديد الأدب العربي»، والتي رأى منظروها أن يقطعوا كل صلة بين الأدب العربي القديم الذي أصبح في نظرهم لا يتصل بحياتنا ولا يلائم أذواق شبابنا، وبين الأدب الجديد الذي يدعون إليه ويريدون أن يوجهوه وجهة غربية تلائم حياتنا العصرية. فذهبوا لتعزيز دعوتهم وترويجها يطعنون في الأدب العربي القديم لغة وموضوعا.
وكان عراب هذه الدعوى سلامة موسى، وقد ضمن كتابه «الأدب للشعب» آراءه في الأدب القديم الذي يريد أن يقضي عليه، والأدب الجديد الذي يدعو إليه.
المصادر:
- تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر .. د. نفوسه زكريا
تقريظ أبو فهر محمود محمد شاكر
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: