وقفات مع نتائج الثانوية العامة
بالطبع ولدكما أغلى وأثمن فلماذا كل هذا الحزن والألم؟! لماذا لا تحمدان الله على نعمة وجوده بينكما
يطل علينا كل عام شبح اسمه نتيجة الثانوية العامة، ومجموعها، وما يترتب عليها من تنسيق، ودخول كلية إما باختيارك أو مجبر عليها بحسب ما يجود به عليك المجموع، وتعيش البيوت قبله أياما من الخوف والترقب في انتظار هذا اليوم الموعود، بل هو عام طويل من الجهد المضني والعمل الشاق عند كثير من الطلاب، وبذل الاهتمام والمال الكثير من الآباء، على أمل أن يحصل المراد في هذا اليوم المشهود، وينتهي كل هذا إما بفرحة عارمة أو كلمات جارحة، وتبيت البيوت بين دموع الفرح أو قهرة الحزن وخيبة الأمل.
والسؤال: لم كل هذا؟! لم يعتقد الناس أن مجرد رقم هو ما يحدد مصيرك، ويُعَدُّ مقياس نجاحك أو فشلك وسعة رزقك؟! لماذا رسخ في الأذهان أن قيمة الإنسان إنما تأتي من أرقام؟! ومن صنَّف الكليات لكلية قمة أو قاع؟!
ولهذا كان لابد لنا من وقفات نراجع فيها أنفسنا، وأفكارنا، ونظرتنا للأمور، ونعيد حساباتنا، نتدبر بتمعن حال من حولنا وإلى ما وصل بهم المآل:
- قبل كل شيء علينا أن نسأل أنفسنا هل امتحان المرحلة الثانوية هو أهم امتحان بالفعل؟ ماذا لو حصلت على نسبة ١٠٠% ثم مت في الحال؟
لم يمر عام من الأعوام إلا وقرأنا أو سمعنا على وفاة طالب مجتهد حصل على أعلى الدرجات ومات مباشرة أو حتى قبل أن يعرف نتيجته ويفرح، فماذا استفاد؟ هل سيسأل في قبره عن مجموعه؟!
كثير من الناس صبَّ جُلَّ بل كُلَّ اهتمامه على هذا الامتحان ونسي الامتحان الأعظم، نسي امتحانا لا ملاحق فيه ولا فرصة لأي تحسين بعد تسليم ورقة الإجابة، بل هو نجاح أو رسوب يعقبه جنة أو نار، فشتان بين الامتحانين، فأي رسوب دنيوي لا معنى له أمام النجاح الأخروي العظيم، حين يؤتى كتابه بيمينه وتزفه الملائكة - وليس الوزير ولا أحد من البشر - وهو فرح ويقول: { {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} } [الحاقة: 19 - 24].
إنه النجاح الحقيقي يا سادة فلم البكاء والحسرة على لا شيء؟!
- إذا اتفقنا أن امتحان الآخرة هو الأهم فاحذر أيها الأب! قد تكون نظرتك وضغطك على أبنائك للحصول على ما هو فوق طاقتهم وقدراتهم سببا للوصول إليه بطرق غير مشروعة كالغش، فيحقق لك نجاح الدنيا، ويخسر هو أخراه، فهل هذا ما تتمناه وترضاه؟
- هذا الأب وتلك الأم اللذان فقدا ولدهما فمات وبقي مجموعه، ما كان حالهما لو خيروهما بين بقاء الابن وقلة المجموع، أو وفاته وحصوله على المجموع الذي تمنياه، ترى ماذا كانا سيختاران؟
بالطبع ولدكما أغلى وأثمن فلماذا كل هذا الحزن والألم؟! لماذا لا تحمدان الله على نعمة وجوده بينكما، وأن مصابكما أو ابتلاؤكما - كما تعتقدان أنه ابتلاء- لم يكن في صحته ونفسه؟!
- لماذا نعتقد أن قلة المجموع بلاء ومصيبة؟! وما أدراك لعله الخير كله! فرب الخير لا يأتي إلا بخير، وما قد تراه الآن شرا سترى بأم عينك كيف كان هو عين الخير؛ فلولا أن أخوة يوسف ألقوه في البئر ما كان ليتربى في بيت عزيز مصر، ولولا دخوله للسجن لما أصبح هو عزيز مصر.
انظر حولك وتذكر كيف دبر الله لك الأمر من قبل، وسيدبره لك حتى توضع في القبر، فلم الهم والحزن؟! فوض أمرك لله وتوكل عليه وانتظر الخير كل الخير، قال تعالى: { {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} } [البقرة: 216]
- هل تظن أن الله قد يضيع جهدك وتعبك وسهرك؟ لا والله، فربك كريم لا يضيع أجر من أحسن عملا، إذا أيقنت ذلك عرفت أنه سيعطيك ما لا يخطر على بالك يوما ويرضيك، قال تعالى: { {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} } [الضحى:5]، فواصل طريقك ولا تيأس واستبشر، فأنت لا تعرف كيف سيكون شكل الأجر على هذا العمل، ولا كيف سيرضيك، ليس شرطا أن يكون بالدرجات، وإنما قد يكون بإزالة العقبات، فمشوارك مازال طويلا في الحياة، ولا تدري ما قد خبأ لك من خيرات.
- هل مازلت مصرا على أنه ابتلاء وشر؟! لا بأس قد يكون بالفعل ابتلاء، فما أنت فاعل لتنجح في هذا الاختبار؟ أتراك قررت الرسوب؟! أفق لنفسك يا مسكين، فالصبر هو سبيلك الوحيد لتفوز في هذا الاختبار الذي تظنه عسيرا، وبمقدار صبرك يكون فوزك وتعويض الله لك كبيرا، قال تعالى: { {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} } [الزمر: 10].
- انظر حولك وتمعن وتدبر في أحوال البشر وأرزاقهم هل ارتبط الرزق يوما بمستوى التعليم؟
كم من إنسان لم يكمل تعليمه أو حصل تعليم متوسط، يعيش عيشة رغيدة يملك القصور والأموال، وكم من متعلم بلغ أعلى الدرجات العلمية يعيش على الكفاف، راجع نفس ولا تخدعها وتذكر فلان وفلان من حولك ألا ترى ذلك بنفسك؟ فلم المكابرة والعناد وسوء الظن بالله؟ لماذا تظن أن رزقك أو رزق ولدك مربوط بورقة أو شهادة، وتنسى الرزَّاق وما كتب لعباده من أرزاق؟!
- هل ترى أن قيمتك واحترام الناس لك، إنما تأتي من لقب تحمله قبل اسمك؟ يا لك من مسكين!
كم من عامل أو بائع بسيط كسب قلوب الناس بأخلاقه، وطيب أفعاله، وارتفعت منزلته في القلوب، ولهجت ألسنة الناس له بالحب والقبول، وكم من طبيب أو عالم - أو اختر ما شئت ممن تراه في نظرك بلغ أرفع الدرجات - وانظر كيف يبغضه ويذمه ويحتقره الناس!
- انظر حولك واحصر من عمل في مجاله تخصصه تجدهم قليل، بل راجع أسماء من تعرف أو سمعت عنهم من الناجحين في أعمالهم هل تعرف ما هي كلياتهم وما هي شهاداتهم؟ بالطبع لا نعرف أغلبهم بل قد نتعجب إذا عرفنا، فالكلية ماهي إلا مجرد خطوة على الطريق وليست نهاية الطريق.
- من العجب العجاب تصنيف الكليات إلى طبقات، فهذه كلية قمة، وتلك هي من كليات القاع!
والسؤال من علَّم الطالب حتى وصل إلى كلية الطب؟ أليس هو المعلم الذي تزدري كليته؟! وبالمثل نجد جميع التخصصات في كل الكليات لا غنى لأحد عنها، فلم التكبر والعناد؟! إنما خلقنا الله لنتكامل وهذا التعاون لا يقلل من شأن أحد منا.
بل قل لي بربك هل يستغني الطبيب عن عامل النظافة في الشارع؟ وعن السباك وعن النجار وجميع المهن الحرفية؟ إذا يا من تزدري كل هؤلاء، استغن عنهم وقم بنفسك بكل أعمالهم يا همام.
فإنما التفاضل بالتقوى يا عباد الله، ولا يوجد كليات قمة بل كل إنسان يستطيع أن يكون قمة في كليته أو مجاله.
هل بعد كل هذا مازلت تشعر بالحزن؟ لا بأس فأنت بشر قد تحزن ولكن لا تجزع، وعليك بالرضا والصبر وحسن الظن ولا تستسلم للأحزان، وخذ بالأسباب، وسترى عطاء الله لك، وتعويضه بأضعاف ما كنت تظن، أما السخط فكله خسران وبه تغضب رب الأكوان.
كفانا خداعا لأنفسنا، وتحطيما لأبنائنا، وسخطا على أقدار مدبر أمرنا، ولنبدأ في تغيير نظرتنا وتوجيهها للمسار الصحيح، وفقنا الله جميعا لما يحب ويرضاه وجعل أبناءنا قرة عين لنا.
- التصنيف:
رتيبة ديدوش
منذ