رجال بين الأطفال والقرود!

منذ 2021-08-28

بدأت تظهر تيارات التغريب – التي كانت قبلُ منكَرةً - في الثلاثة القرون المتأخرة، ولعل من أعظم أسباب ظهورها: التفوق المادِّي، وخاصة العسكري، فتمكنت ثقافة الغربي المتغلب الآسنةُ من عقول أُشربت قلوبُ أصحابها تلك المادةَ الآسنة.

رجال بين الأطفال والقرود!
بدأت تظهر تيارات التغريب – التي كانت قبلُ منكَرةً - في الثلاثة القرون المتأخرة، ولعل من أعظم أسباب ظهورها: التفوق المادِّي، وخاصة العسكري، فتمكنت ثقافة الغربي المتغلب الآسنةُ من عقول أُشربت قلوبُ أصحابها تلك المادةَ الآسنة. ولايعني ذلك أن تقليد الغرب الكافر لم يكن له وجود في المجتمعات الإسلامية؛ بل كان له وجود لكن على نطاق أفراد يشار إليهم بالشذوذ، ويعرِفون أنهم يقارفون منكَراً، وإنما تابعوا الكافر ظاهراً تبعاً لنزواتهم وشهواتهم.

ولم يكن المسلمون قط ينظرون نظرة إكبار للغربي، ولا إعجاب بواقعه في الجملة، ومع تقلب الأحوال، وتغلب أهل البيئة المسترذلة فعالها بالأمس، تغيرت مفاهيم بعض من لم ترسخ في الدين قدمُه، ويبدو أن نظرية ابن خلدون في تأثُّر المغلوب بالغالب عملت ما قرَّره في نفوس أولئك؛ فطفِقوا يستحسنون ما جاء به الغرب على عجره وبجره.

وهؤلاء - إن أحسنا الظن بمقاصدهم- ظنوا أن التفوق المادِّيَّ قد نجم عن تلك المناهج، والأخلاق، والمبادئ، والصفات المستقدمة، التي لا علاقة لها في حقيقة الأمر بتقدم الغرب المادِّي؛ بل ربما كانت معوِّقاً، فهم مثل طفل طرق باب مِصعَد كَهْرَبائيٍّ فلم يفتح له، فصبر حيناً، ثم أخذ في الصياح، والقفز، والركل، فصادف أن فتح خارجٌ البابَ، فظن أن تلك النوعية من المصاعد إنما تفتح بالقفز أمامها، أو الركل والصياح!
وكأني بك تتبسم من تلك الفَعلة الطفوليَّة، وذلك الفهم الساذج، أليس كذلك؟
حُق لك ذلك، ولكني أنبئك بأعجب من هذا.

للأسف إذا تأملت واقع كثير ممن يُزعَمون مستنيرين وجدتهم ذلك الطفل في أحسن أحوالهم، وانظر إلى دعاة التفسخ، والانحلال، أو الحريات المطلقة، كيف يُلبِسون دعواهم لباس الحضارة، والتقدم، والرقي، بدعوى أنهم يريدوننا أن نتقدم لتصبح حال الدولة كحال الدول المتقدمة!
والعجب من استجابة بعض الناس لهم، فكم من مستقبح في الفطر، والشرائع، والعقول استحسنته فئام؟!

وأكثر بعداً وأشد سذاجة من هؤلاء آخرون رأوا تجارب قد نجحت في الغرب فأبَوا إلاّ تطبيقها بعُجَرها وبُجَرها، وقفزها وصياحها وركلها، مع إغفالهم أن من أسباب نجاحها هناك تلك البيئة، وما شاع فيها من قيم وأخلاقيات لاتتعارض مع بعض ما في ذلك النَّموذَج؛ بل قد يكون النَّموذَج قد وضع لخدمة تلك الأخلاقيات، ورفع تلك القيم لذلك المجتمع.

وهذا الصنف أضاف لخطأ الصنف الأول خطأ آخر؛ إذ أخذ من الغرب ما يخدُم مصالح الغرب، وقيمه، دون مصالح بني جنسه، وسارع لغرسه في أرض قومه؛ فأفسد بذلك قيمهم التي لايعني التقدم والرقي والازدهار شيئاً بغير رفعها، وإظهارها على حضارات الأمم.
وحتى لانظلم صغيرنا صاحب الِمصعد، ينبغي أن يقال: إن هؤلاء في أرقى أطوارهم يمثلون ذلك القرد الذي تحدث عنه "دون آدمز"، (Don Adams) في كتابه "المخططات التعليمية للمجتمعات المعاصرة"، (Educational Patterns In Contemporary Societies) حيث قال: "إن أبلغ مثل يضرب للأضرار التي تلحق بالشعوب بخطأ يصدر من المستشارين التعليميين الأجانب، ما جاء في حكاية شرقية، يصور موقف هؤلاء الماهرين تصويراً دقيقاً.

زعموا أن ناحية من النواحي أصيبت بفيضان عظيم، تورط فيه قرد وسمكة، وكان القرد شاطراً ومحنكاً قد جرب مثل هذه الفيضانات، فتسلق فرع شجرة، وأمِن خطر هذا الفيضان، فوقع بصره على سمكة تكافح تيار الفيضان، وتطفو على سطح البحر، وحمل القرد العطف على هذه السمكة المسكينة، ورق لها قلبه، فنزل من الشجرة، وأنقذ السمكة بكل إخلاص من هذا الخطر، وجاء بها إلى الساحل، وألقاها على الرمل، حيث لاتصل إليها الأمواج، وكانت النتيجة ظاهرة لا تحتاج إلى تفسير"[1]. ومع وضوح النتيجة يصر قرود اليوم من التنويريين - وإن شئت فقل المقلدين - بحسن نية أو بسوء قصد - على إدخالنا جحر ضب لا أظن أنه يناسبنا! بحجة إنقاذ الأمة، وبدعوى القرد نفسها: الإشفاق على السمكة؛ عفواً الأمة!

وإذا تأملت مجال التعليم – مثلاً - وما يحاوله المستغربون من تجريد له عن قيم الأمة، ومبادئها التي أرستها الشريعة؛ لتكون حالها كحال الغرب علمت أن مصيرها سوف يكون مصير تلك السمكة، إذ كيف تعيش حضارة، وتنهض أمة بغير هُويِّة، ولا هدف تعلِّم وتربي؟! 

ولعل هذا يفسر لنا الظاهرة التي عرضها مالك بن نبي بقوله: "حين كان الطالب الياباني يذهب إلى الغرب في أواخر القرن الماضي، كان يذهب ليتعلم التقنية، مع الحفاظ المتشدد على أخلاق بلاده، كما سيذهب بعده التلميذ الصيني المتواضع (نَسْيَانُ هَمَّاسِين)[2] ليتعلم في مختبر "جوليو كوري" بباريس؛ وليعود لبلاده بالمعلومات النووية التي تدهش العالم اليوم، بينما غالب ما يحدث للطالب، الذي يذهب من بلادنا، أن يعود بشهادة، ولكن بعد أن يترك روحه في مقاهي وخمارات الحي اللاتيني، أو النوادي الموجودة بسان حِرمَان!"، والله المستعان.

فرق بين من أخذ ما يحتاج، وعلم ما ينسجم مع دينه، وحضارته، وثقافته، فسخره في رفعتها، بعد أن ميز الغث من السمين، وبين من أخذ السمين، ثم توجه به نحو حضارة القوم.

وكذلك فرق بين من طبق النَّموذَج الغربي بحسناته وسيئاته، وما يناسب واقعه، وما لا يناسبه، وبين من هذَّبه فأخذ الصالح، وطرح غير المناسب أو ما لا عَلاقة لصناعة حضارة قومه به، فالأول يبني مستعمرة – كما يقال - في قعر بلاده، والآخر يصعد بها حتى تكون أرقى الأمم.

فمتى تعي ذلك القرود التي تصر على إحراقنا بنار الغرب؛ من أجل التنوير، ومتى يفهم طريقة الصعود بالأمة أطفال الصحافة؟!
ـــــــــــــــــــــ
[1] الكتاب من تأليف دون آدمز، ومعه ن. ذت، (N. Thut) طبع أول أمره في نيويورك عام (1964م).
[2] لست أدري هل شكلي للكلمات صحيح على حد عبارة مالك أو لا، ولعل المعنى صحيح! فكثير من أولئك هماسون وقد كان كثير من الشرقيين يعرضون عن الموسوسين بالصوارف التوافه.
  • 0
  • 0
  • 1,449

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً