احذروا أهل البصائر
أبو الهيثم محمد درويش
ولا يدري هؤلاء أن أهل البصائر هم الأذكى فإنهم فوضوا أمرهم إلى الله وعلموا أن القصاص العادل إن لم يتحقق هاهنا فسيتحقق في دار أخرى
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
مجتمعاتنا المعاصرة وللأسف تغلب عليها المادية كما يسيطر على معظمها البعد عن الدين, حتى أضحى الميزان منتكساً, فأهل الهوى والنفاق يشار إليهم بالبنان وأهل المعروف والصلاح مضطهدون محتقرون في معظم الأحيان.
مشاهد :
معظم أهل (الفهلوة) والنفاق ينظرون إلى الرجل الصالح على أنه (غلبان) حتى أضحى مصطلح (طيب) في معظم مجتمعاتنا يعني (أبله) أو لا حيلة له ... ويغفل هؤلاء الذين كساهم الغباء وأعمتهم دنياهم أن الله طيباً ولا يقبل إلا كل طيب.
يتذاكون على الصالحين ويعاملونهم باستعلاء لمجرد أنهم يأمنون جانبهم ويعلمون بعدهم عن الأذى ويظنون ذلك ضعفاً ولا يدري هؤلاء أن العبد الصالح يجعل الله له من البصيرة والفرقان ما يميز به بين الخبيت والطيب وأنه يفهم تماماً معاني نظراتهم ومكنون قلوبهم ولكنه لتقواه ولصلاحه يشفق عليهم ويشفق على غبائهم كما يعلم يقيناً من سنن الله أنهم إن لم يرجعوا إلى الله وينخلعوا من الكبر والإعراض هلكوا وتاهوا وضاعوا في مفازات الدنيا المهلكة قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال (29)]
قال السعدي في تفسيره :
من اتقى اللّه حصل له أربعة أشياء، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها: الأول: الفرقان: وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام، وأهل السعادة من أهل الشقاوة. الثاني والثالث: تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر. الرابع: الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه على هوى نفسه. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
والمشهد الأكثر إيلاما وهو وللأسف متكرر نراه من بعض الأقارب الذين يعاملون من يصلهم ويأبى أن يقطعم أسوأ معاملة حتى يشعرونه بثقل عبادة الصلة وكأنه يحمل جبلاً على عاتقه ولا يدري هؤلاء أنهم مسؤولون أمام الله عن هذه الرحم مثلهم مثل صاحبهم, وإن ظنوا بسوء طويتهم أنهم الأذكى أو أنهم يتسلون بإيذاء الغير أو يثأرون لما في قلوبهم من حسد أو أحقاد فوالله الأذكى هو الواصل الذي يتقي الله ولا يأبه بسوء طويتهم.
روى [مسلم] عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ لي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إليهِم وَيُسِيؤُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عنْهمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقالَ: لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ وَلَا يَزَالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ علَى ذلكَ» .
أعرف رجلاً كنت أراه في صباي واصلاً لرحمه مع ما يتحمله من إيذاء أو للأسف بعض الازدراء رغم أنه كان مستوراً من الناحية المادية والاجتماعية فهو من طبقة (الموظف المستور في هذا الوقت) ولم يكن يأبه وكان يصر على الصلة وكأنهم كانوا يتعجبون لغبائه, مات فجأة واصلاً لرحمه كما عهدته...وتمر السنوات وعندما كبرت علمت أنه كان أذكاهم.
ومشاهد متنوعة نراها في محاولات بخس الصالحين مكانتهم الاجتماعية أو بخسهم في بيع وشراء بحجة أنهم (طيبون) ويسهل خداعهم, أو أكل حقوقهم وانتقاصها.
ولا يدري هؤلاء أن أهل البصائر هم الأذكى فإنهم فوضوا أمرهم إلى الله وعلموا أن القصاص العادل إن لم يتحقق هاهنا فسيتحقق في دار أخرى فيها الجزاء الموفور, وفيها يغمس أهل الشر غمسة في جهنم فينسون معه الدنيا ونعميها, كما يغمس الصالحون غمسة في الجنة فينسون فيها كل بؤس أو ضيق.
اخذروا أهل البصائر فهم أذكى الناس:
* البصيرة في القرآن الكريم:
قال - تعالى - : {أَوَ مَن كَانَ مَيتًا فَأَحيَينَاهُ وَجَعَلنَا لَهُ نُورًا يَمشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظٌّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ, مِّنهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ} [الأنعام: 122].
يعرّفها ابن القيم بقوله: «هي نور يقذفه الله في القلب، يفرّق به بين الحق والباطل، والصادق والكاذب»، وفي تعريف آخر له يقول: «هي نور يقذفه الله في قلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل كأنه يشاهده رأي عين، فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل وتضرره بمخالفتهم، وهذا معنى قول بعض العارفين: (البصيرة تحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به. [ الوابل الصيب]