ثراء الفكر وفكر الثراء

منذ 2021-09-07

تستبطن مُخيلتنا الاجتماعيَّة نوعًا من التَّنافُر والتباعد، قد يصِل أحيانًا حدَّ التَّناقُض والتَّضادِّ، بين عالم الفكر والعلم والثقافة، وبين عالَم المال والأعمال والغِنى والجِدة، بين العلماء ورجال الفكر والأدب، وبين الأغنياء والموسرين وكبار الملاك.

تستبطن مُخيلتنا الاجتماعيَّة نوعًا من التَّنافُر والتباعد، قد يصِل أحيانًا حدَّ التَّناقُض والتَّضادِّ، بين عالم الفكر والعلم والثقافة، وبين عالَم المال والأعمال والغِنى والجِدة، بين العلماء ورجال الفكر والأدب، وبين الأغنياء والموسرين وكبار الملاك.

لعلَّ الشَّكوى القديمة التي تناقلتْها الأجيال عن هذه الظاهرة، والَّتي عبَّر عنْها ابن الجوزي في "صيد الخاطر"، مستفهمًا ومستنكرًا، وهو يقول: "مَن قال إنَّ العلماء قَدَرُهم الفقر؟" ما زالت تتردَّد أصداؤُها في يوميَّاتنا وحياتنا المعاصِرة.

إنَّ المتتبِّع لتداعيات هذه "القناعة"، وآثارِها على واقعِنا المُعاصر، يُدْرِك دون عناءٍ سوءَ تِلْكم التَّداعيات، وسلبيَّة هذه الآثار على الفرْد والأسرة والمجتمع.

المال قوَّة، وهو عصب الحياة كما يقال؛ بل هو "قِيامٌ" للإنسان بالتَّعبير القُرآني، غير أنَّ العولَمة ما فتِئت تعمِّق وتكبِّر دوْرَه، إلى حدِّ الافتِتان والتقديس و"العبادة".

يُمكن القول بلا مبالغة: إنَّ المال دَخَل واقتحم كافَّة ميادين وجوانب الحياة المعاصِرة، فلا سياسةَ دون مال، ولا مرافِقَ اجتماعيةً ولا تنمية اقتصاديَّة، ولا تعليمَ جيدًا ولا تربية جادَّة، ولا إستراتيجيَّة قوميَّة، ولا دَوْرَ محليًّا، جِهَويًّا، أو عالَميًّا ذا شأن - دون مقدَّرات ماليَّة، وسيولة نقْديَّة، ومخصَّصات إنْفاق، ومضخَّات دعْم مالي مُساند، واستِثْمارات وأرْباح متجدِّدة.

إنَّ سطْوة المال وانتفاشته قد طالت كذلِك أضيقَ الدَّوائر الشَّخصيَّة، وأخصَّ خصوصيَّات الإنسان المعاصِر، في بيتِه وبين أهلِه، في خلوته وجلوته، في حلِّه وترْحاله، حتَّى إنَّنا نعيش بحقٍّ عصرًا كثير التَّكاليف، باهظ الثَّمن، لكلِّ راغبٍ في حياة كريمة، ومع كلِّ هذا النُّفوذ والسيْطرة، فإنَّ المال في حقيقةِ أمْرِه، لا يُمكِن أن يتجاوز طبيعة كوْنِه في نِهاية المطاف والمآل وسيلةً لغيْره لا أكثر، ولا غرْو أن نؤكِّد في هذا المقام على عِظَم وأهميَّة - بل وخطورة - هذه الوسيلة، خاصَّة عند خروجِها، أو إخراجها عن هذه الماهيَّة، وتِلْكم الطَّبيعة.

الفِكر والعلم والثقافة ميْدان فسيحٌ لنوع من القوَّة لا يقلُّ أهميَّة عن قوَّة المال؛ الفِكر عصارة ونتيجة أهمِّ وأنبل خصائص الإنسان، وأرْقى أعماله وهو التفكير.

العلم والثقافة هُما فاكِهة ذلكم الفِكْر وثمرتُه، تُسْقَى بِماء التَّفكير الواحد، فتنتظِم تارة في حبَّات متناسقة متناظِرة، وفْقَ مسارٍ صارِم من القوانين، والسُّنَن، والمناهج، فتنتج لنا عِلْمًا، وتتحلَّل وتتخفَّف تارةً أُخرى من تِلْكم الرِّقابة، فتُنْتِج لنا ثقافةً وأدبًا وفنًّا، الفِكْر تربة الاعتِقاد، وسماد القناعات، ومولد المشاعر، وأصل الفعل، وقائد الاهتِمام وصانع الحضارات، العلم زاد الإنسان ودليله في التعامل مع نفسه ومع الكون والحياة، العلم يدْعو إلى الإيمان، ويعرِّف بالخالق، ويصدِّق وحْي السَّماء ويفهمه.

الإنسان كائن مفكِّر بالدَّرجة الأولى، لا يَستطيع وعْيَ ذاتِه، ولا وجودِه، ولا ما حوله، إلاَّ من خلال التفكُّر والنَّظر في الأنفُس والآفاق، وإعْمال عقلِه أعزُّ وأشْرف وأخْطر منحةٍ وهَبَها إيَّاه اللهُ - جلَّ وعلا - ولِذَا قرَّر عُلماؤُنا أنَّ العقل مناط التَّكليف.

غيْبوبة المال:
إنَّ حِرْمان دوائر المال والأعمال من "غشيان" عالِم الفكر والعلم والثقافة والأدب، والإفادة من "سلطته" المعنويَّة، وحكمتِه التي تعطي الرُّوح، والمعنى، واللَّمسة الجماليَّة، والشفافية لحياة الإنسان، وكدْحه، ودأبِه على هذه البسيطة، هذا الحِرْمان والنَّأْي جرَّاء "التَّنافُر" المذْكور آنِفًا، ليْس في مصلحةِ أحد؛ بل هو خسارة محقَّقة للجميع، ولا يَجني المجتمَع برمَّته من وراء ذلك إلاَّ التشتُّت والتَّشرذُم، والصِّراع الجلي والخفي بين مقدَّرات الأمَّة وطاقاتِها، ومصادر قوَّتها وفعاليتها؛ قال الله - جلَّ وعلا - في سورة العلق: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]، وقديمًا قال أبو العتاهية:

إِنَّ الـشَّـبَـابَ  وَالـفَـرَاغَ  وَالـجِـدَهْ        مَـفْـسَـدَةٌ لِـلـمَـرْءِ أَيُّ مَـفْـسَـدَهْ

 

النَّفس غير المزكَّاة، ذات الغرائز غير المهذَّبة، تَميل بطبْعِها إلى الدَّعة والرَّخاء والفجاجة، وتبْديد المقدَّرات، واستِنْفاد الموارد المتاحة الَّتي لا تعرف لها مصارِفَها، ولا تريد تحمُّل تبعات ترشيدِها وتنمِيتها والمحافظة عليْها؛ لهذا نرى القُرآن العظيم اشترط "الرُّشد" حتى يتأهَّل اليتيم لاستِرْداد ماله؛ في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، ونَهى عن إتْيان السُّفهاء المال؛ في قولِه تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5].

لقد وصف بعضُ الفضلاء اليَسار والغِنى، الذي يجِده الفرد أو الوطن أو تَعيشه الأمَّة، دون وجود رشادة وعلم وفكر مواكب ومكافئ، وكافٍ لحُسن إدارته وتصريفه - بِـ "خيانة الرخاء"؛ بمعنى: أنَّ المال وحْده لا يَكْفِي لإيجاد الشَّخصيَّة السويَّة، الناجحة السعيدة، المؤهَّلة لنشر الخير والصلاح، وتوريثه الأجيالَ القادمة.

المُوسِر غير المتعلم، أو غير المثقف، أو المتعالي على العِلم أو الثقافة أو الفِكْر - لا يستطيع أن يكتشف أو أن يعبِّر عن حاجتِه الإنسانيَّة الأصيلة للتَّسامي وتحقيق الذَّات، وإشباع الأشواق المعنويَّة اللطيفة، التي تبحث عنها نفسُه في دنيا المتاع المادِّي والإشباع الحسي، ولا تَجِد لها تصريفًا؛ بل إنَّنا نكاد القوْل: إنَّ وضعه لا يُسْعِفه في إدراك سرِّ تلك "الجَوْعة"، والمعاناة الَّتي يتلظّى بنارها، رغْم سَعة عيشه المادي، ورفاهيته الاجتماعية.

إنَّ الكثافة الحسِّيَّة الَّتي تكاد تخنق نفس الموسِر النَّافرة عن ميدان الفكر، والزاهدة فيه - تحجب عنه ميدان الرُّؤية الصحيحة، والتَّأمُّل الحصيف؛ لما يُمْكن أن ينطوي عليه عالم الفِكْر والثقافة والعلم، من أفراح، وأشواق، تملأ كيان الإنسان، وتغذِّي عقْله ووجدانه، وتهذِّب طبعَه، وتُرهف إحْساسه، وتفتح آفاقَه، وتثقِّف فؤادَه، وتوسِّع مجالات النظر والتأمل والبديهة، في كافة الميادين الرحبة لمادَّة التفكير والتعقُّل والاستبصار.

ما يقالُ عن الفرد في هذا المقام يتعاظم أثرُه، ويستفحِل خطره أكثر فأكْثر، على مستوى الأسرة والمدينة والقبيلة، فالوطن والمجتمع بأكمله، نرى ذلك في عادات الاستِهْلاك، وتَجزئة أوقات الفراغ وقضاء العطل، والتَّركيز على المقتنيات والمرفِّهات على حساب ميادين العمل والدَّأب، والاقتصاد والاستثمار في المجالات الأدبيَّة والفِكْريَّة والعِلْميَّة والثَّقافيَّة، نَلْمَس ذلك في استِحْداث نوعٍ من الوجاهة والصَّدارة الاجتماعيَّة الجوفاء المبنيَّة على أشْكال وألوان من المظهريَّة والشكليَّة الفارغة، يتعمَّق ذلك ويتعاضد مع موْجات العولمة العاتية، الهادفة لهيْمنة عقليَّة السُّوق المسطَّحة، السَّاعية بدَأَب إلى مسْخِ الإنسان والمجتمعات البشريَّة، حتَّى تغْدو كياناتٍ هلاميَّة غرائزيَّة استهلاكيَّة، لا تعرف وسيلة لتحقيق ذاتِها إلا من خِلال إدْمان الاستِهْلاك الدَّائم، الذي لا يحقق شيئًا سوى الاستِعْداد لمزيدٍ من الاستِهْلاك لسِلَع متدفِّقة، سريعة التبدُّل والتَّلف ونِهاية الصلاحيَّة، نُعاين ذلك كذلِك من خلال الزَّحْف المتواصل المجنون لعالَم الكماليات والمرفِّهات، لتصير - وبسرعة مذهلة - حاجاتٍ بل ضرورات لازمة، لا مفرَّ منها ولا مهرب.

كلُّ ذلك وغيره يقودُنا إلى القول: إنَّ المال والثراء البعيد أو المُبعد، أو المستغني أو المتعالي، عن عالم الفكر والعلم والثقافة والأدب - ليس إلا قوَّة مَجنونة أو طاقة معطلة مُهدرة، ضررُها أكبر من نفعِها، وخطرُها كامنٌ وشيك، لا شكَّ أنَّ هذه الآثار السلبيَّة ليستْ وليدةَ هذه الظَّاهرة - موضوع حديثنا - فقط، فالأسباب كثيرةٌ مُتضافِرة، مُتشابِكة مركَّبة، بعيدة الغوْر، ومتراكِمة متفاعلة، وليس المقام مقامَ ذِكْرها الآن؛ بل إنَّنا نُشير إلى أنَّ ظاهرة التَّنافُر والاستقطاب بين المال والفكر، لها نصيب لا يُستهان به في ظهور تِلْكم التَّداعيات المدمِّرة.

فكر عائل:
إنَّ الحديث عن ميدان الفكر والعلم والثقافة، المحروم والمعزول والمُهمَّش عن دنيا المال - حديثٌ ذو شجون، إذا كان صحيحًا أنَّ الأفكار لا تدبُّ فيها الحياة إلاَّ إذا "اقتاتتْ" قلْبَ إنسان، وأنَّ العلوم لا تغيِّر من حياة البشَر حتى تتمثَّل تطبيقات تكنولوجيَّة ميدانيَّة، وأنَّ المعارف لا تُجدي نفعًا ما لم تُترجم إلى مهارات وقدرات مؤهِّلة لحياة أفضل - فإنَّ هذه الميادين جميعها - ومعها الثقافة والآداب والفنون - لا تفعل مفعولَها، ولا تؤتي أكُلها فتنتشر في حياة الناس، وتَشْغَل حيِّزًا ذا شأن من اهتماماتِهم، وتسري في قلوب وعقول النَّاشئة، وتُرَشِّد مسيرة الفرد والأسرة والمجتمع، والمؤسَّسات الأهليَّة والحكوميَّة، وتصنع لها موقعًا بارزًا في دنيا الإعلام، ووسائل النَّشر الحديثة، والمتجددة، وتُرسِّخ عادة القِراءة المثمرة، وطبع "الفضول" المعرفي الطَّموح، وثقافة السؤال والتساؤل، و"متعة" الحوار الراقي المفيد، إلاَّ إذا - وفقط إذا- احتضنتْها دوائر المال، ودعمتْها وغيّرت من نظرتِها إليها، وقديمًا قال الشاعر متحسِّرًا:

تَمُوتُ الأُسْدُ فِي الغَابَاتِ جُوعًا   ***   وَلَحْمُ الضَّأْنِ يُرْمَى لِلكِلابِ 

فَذُو جَهْلٍ يَنَامُ عَلَى حَرِيــــــــرٍ   ***   وَذُو عِلْمٍ يَنَامُ عَلَى التُّرَابِ 

 

المفكِّر الفقير المُعْدم المحتاج لغيره يُكذِّب حالُه مقالَه، وتهتَزُّ مكانته بين النَّاس بقدر فاقته، وتتشوَّش معاني القدْوة، والقيادة المعنويَّة في شخْصِه، بحسب حجم التَّناقض والاختلال المُلاحَظ بين سَمْته ورسالته، وبين شظف عيشه وقلَّة ذات يده.

العالم المُعسِر دائمًا والمثقَّف المحروم من تلبية حاجياته الأساسيَّة لعيْشٍ كريم، والفنَّان المتعثِّر في إيجاد نمط حياة مُحترمة، لا تَؤول أحوالهم ولا يتسنَّى لهم تبوُّؤ ولا استشراف موقع اجتماعي أحسن حالاً ومآلاً من وضع "مفكِّرنا" آنف الذكر.

لا تستطيع المجتمعات البشريَّة - في الغالب - فصلَ الفِكْر عن المفكر، ولا تَجريد المعاني عن الواقع، ولا عن يوميَّات كدحِها ومشكلات معيشتها، إنَّ حاجتَها لنماذج قدْوات ميدانيَّة، وتطبيقات واقعيَّة عيانيَّة أكثر بكثيرٍ من العطاء الفِكْري والعلمي والثقافي، مهما علا كعبه، وصفا مشربه، وتأصَّل إبداعه؛ لعلَّ هذا هو بعض السِّرِّ وراء افتِتان الشعوب والأفراد والمجتمعات بالنموذج الغرْبي الغالب الطَّاغي الآن، وسرعة تمثُّلها وتبعيَّتها وانبهارها بنمط العيْش، والسلع والخدمات والمغريات، أكثر بكثيرٍ منها بالأفكار والرؤى والفلسفات.

البيئات الفقيرة، محدودة الآفاق، وشحيحة الموارد لا تساعد - في الغالب - على بلورة وإبداع فكر راشد مؤثِّر رائد ومحلِّّق في ملكوت الأنفس والآفاق، جسور مُنقِّبٍ وصائدٍ لمفردات سنن الله في الكون والإنسان والحياة.

لفتة حانية:
إنَّ الدَّعم المالي والاحتضان المادي لميادين ورجالات الفكر والعلم والثقافة، وتغيير النظرة، وإعادة بلورة الموقف الجماعي الواعي، و"اللاواعي"، تجاه طبيعة العلاقة بين المال، وبين العلم والفكر والثقافة أمرٌ في غاية الأهميَّة، وشرط أساس في أي نهضة مرتقبة ومأمولة.

إنَّ شيوع الفكر، وتحفيز التفكير، وتكثير المفكِّرين الأُصَلاء - يَحتاج إلى المال السخِيِّ لدَعْم تعليم جيِّد، وتعلُّم جاد، إنَّ صبغ الثقافة العامَّة الشعبيَّة بالرُّوح العلميَّة، ورفع سويّتها وانفتاحها على ميادين العلوم والمعارف، وقدح زناد "الشعلة" الاجتماعية لدفْع خيرة أبناء الأمَّة لاقتِحام مُختلف التخصصات العلمية والتكنولوجيَّة، وارتياد أعْلى مستوياتها - يتطلَّب كثيرًا من المال دون منٍّ ولا أذى، لتوفير المؤسسات والمدارس والجامعات والنَّوادي العلمية "الهاوية" والمحترفة، ورابطات المخترعين وجمعيات "العلماء" الصغار، وورشات "الشُطّار".

إنَّ تهيئة المنابر، وخفض الأجنحة، وتوطئة الأكناف للمثقَّفين النجباء والأدباء والشُّعراء البلغاء، والفنَّانين المبدعين، وتوفير التربة الصالحة والبيئة المواتية لذلك - يتطلَّب الكثير من المال، والصبر والأناة والعمل الدؤوب، ورحابة الصدر النَّابعة من الإيمان بأهميَّة المشْروع، وجدوى المثابرة والمرابطة حتى النهاية.


إنَّ ذلك كلَّه يشبه - إلى حدٍّ ما - مشروع تربية طفْل صغير، والتَّحضير لذلك من قبل ولادَتِه حتَّى يشبَّ عن الطَوْق ويبلغ السعي، أو مشروع تأسيس أسرة ناجحة، أو بناء مدينة جديدة، إنَّنا أمام مشاريع من النَّوع الثقيل، بعيدة المدى، عميقة الغور، كبيرة الكُلفة، شاقة المُؤنة، كثيرة التَّكاليف وشحيحة المحصول، تعمل في أنظِمة مفتوحة، لا نملك فيها إلا قليلاً من الضمانات والوعود؛ لكنَّها ضروريَّة مهمَّة ومؤسِّسة بانية، وراعية مؤثِّرة، وشرط في أي عمل جاد يأتي بعدها في سبيل نهوض أمتنا، أو استفاقة "عملاقنا النائم".

دور المال في هذه المشاريع جوهري أكيد، وحاسم فارق، يُذكِّرنا بحادثة تجهيز جيش العُسرة في السيرة النبويَّة العطِرة، يوم فاز سيدنا عثمان - رضي الله عنه - بالشَّرف السامق، والبُشرى النبويَّة المباركة، والثناء الجميل، يوم أعطى وأعطى وأعطى، طيِّبة بذلك نفسُه، مُبتغيةً وجه الله، مُدرِكةً لدَوْر المال في المهمَّات الكبرى، والمشاريع العِظام، ومستشْعِرًا مسؤولية الغني الشَّاكر، وبركة باب الخير والأجر العظيم الذي فُتح له، فاستحقَّ بجدارة قولَ النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما ضرَّ عُثْمانَ ما عمل بعد اليوم)).

سوابق سوامق:
لقد ضربت أُمَّة الإسلام طيلةَ تاريخ ازدِهارها أروعَ الأمثلة وأسمى الإبداعات، وتفتَّقت عبقريتها عن مختلف النَّماذج والصيغ، والإجراءات العمليَّة المتطوِّرة، وتفاعلت عقول علمائها وفقهائِها، وخيِّرِيها وأغنيائها وأُمَرائِها، مع نصوص الكتاب والسنَّة، ومتطلَّبات مختلف عصورها وشعوبها وأمصارها، في سبيل احتِضان كافَّة ميادين الفكر والعلم والثقافة والأدب، ودعم وتحفيز وتفريغ كل راغب جاد في ارتِياد ساحات طلب العلم والتفكير والإبداع الثقافي والأدبي.

لقد كان استِحْداث نظام الوقف، ورعايته وتوسيعه وتطويره ومرونته وتنويع أشكاله، وفتح الباب لكافَّة شرائح المجتمع للمساهمة فيه، وتدعيمه وتأطيره من خلال إدارة مستقلَّة إلى حدٍّ كبير عن هيمنة الدَّولة، و"مزاجيات" عموم الناس من جهة، وتحظى بترشيد الأكابر، والصُّلحاء والوجهاء في الأمَّة من جهة أخرى - يعبِّر عن قفزة حضاريَّة كبيرة في طريق التأسيس لما يمكن وَسْمه بالطريق الثالث للتنمية والنهضة، المساند والمعاضد لجهود الدولة، والقِطاع العام من جهة، وحركة السوق والخواص من جهة أخرى.

إنَّ توجيهاتِ النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم – ودعوتَه - كما صح عنه - إلى مفهوم الصَّدقة الجارية، وتركيزه على أهمية دوام الأعمال، وأفضلية تجدُّدها - كان الأساس الذي بنَى عليه العلماء نظام الوقف، وفكْرة حبس الأصل والعين، من مال أو عقار أو حائط وغيره، والقيام على استثماره، ووقف ريعه لدعْم ميدان من الميادين، أو خدمة اجتماعية بعينها.

لقد كانت الآثار إيجابيَّة مشجِّعة إلى حدٍّ كبير جدًّا، وعلى أكثر من مستوى وصعيد، على الرغم من كوْن مصارف الوقْف الإسلامي لم تكن - تاريخيًّا - قاصرةً على دعْم دوائر العلم والفكر والثقافة؛ بل تجاوزتْها إلى مختلف الميادين والخِدْمات، فإنَّ القسم الأكبر من الدَّعم الدائم المتجدد، والحافظ للكرامة وماء الوجه، والمُمَكِّن لاستمداد هيْبة ذاتيَّة ومرجعيَّة محترمة لمختلف ميادين العلوم والآداب، ودُور ومساجد، وجوامع ومكتبات طلب العلم، والانقطاع الجزئي أو الكلي للطلب - قد ناء بحِمْلِه هذا النظام العجيب اللطيف، خالص "الإسلاميَّة"، لقد خرَّجتْ هذه الرعاية الرَّاقية أجيالاً وطبقاتٍ من العُلماء والمفكرين، والمثقفين والمبدعين، طول الزمن الإسلامي الذَّهبي، وعرض الرُّقعة الإسلاميَّة مترامية الأطراف ساعتئذ، وعمق شعوب وأعراق انصهرت في بوتقة العقيدة الواحدة الموحِّدة، أجيالاً تصدَّت لفروض الكفايات، ونابت عن الأمَّة، ورفعت التحدِّي، وسدَّت الحاجات المتنوِّعة المتجدِّدة لمسيرة أمَّة تبوَّأت مركز الصدارة، وقيادة البشرية ردحًا من الزمن.

هناك ظاهِرة مُواكبة لهذا الجهد المؤسِّس، ومكمِّلة لجهود احتِضان دوائر العلم والفكر والثقافة، ورعايتها تمثَّلت في مبادرة طلبة العلم أنفسهم في تعلُّم وممارسة كثيرٍ من الحرف والمهن، واعتمادهم على أنفسهم في التكسُّب والاستغناء عن الناس، وضرب المثال والاحتكاك بالناس، ومعرفة مشاكلهم وهمومهم اليوميَّة، واستلهام حاجياتهم لمعرفة كيفيَّة تنزيل الحكم الشَّرعي على واقع الأمة، والأخذ بيدها على طريق الاستقامة على منهج الله - عزَّ وجلَّ - واصطِياد خواطر وشوارد سياحات الفِكْر الإنساني، ولطائف الأدب والشعر، وبدائع مسموع ومنظور الفنون الهادفة، التي تدفع الملل عن النفوس، وتروِّح عن القلوب، وتبعث على النشاط والعمل والمثابرة.

من هنا؛ حفظ لنا تاريخ الأمَّة أسماء خالدة عن علماء ومفكرين، كانوا بزَّازين وزجَّاجين وخرَّازين، وغيرها من المِهَن، وورَّثوا لنا علمًا وفكرًا وأدبًا وفنًّا، وخيرًا وفيرًا، يُضاف إلى ذلك اشتغال لفيف من العلماء والمفكرين الأكابر بالتجارة، وإغناء أنفسهم والمساهَمَة في التكفُّل بإخْوان لهم أثناء الطَّلب وبَعده، وليس بخافٍ عنَّا خبر الإمام أبي حنيفة الفقيه التَّاجر، ولا قصَّة الإمام الليث بن سعد وتكفُّله الطَّويل بالنفقة السنويَّة لأخيه في العلم الإمام مالك بن أنس؛ حفاظًا على قَدْره، وإسهامًا في إغنائه عن الحاجة والناس والسلطان، على ما كان بيْنهما من جدال علمي طويل، حفِظَتْه لنا مراسلاتُهما الشهيرة.

هذه بعض السَّوابق السوامق التي تفتَّقت عنها التجربة التَّاريخية لأمَّة الإسلام، من خلال نماذج فردية وجماعية وعملية ونظريَّة ومؤسسية؛ لتلافي ظاهرة التنافر والاستقطاب الذي نتكلم عنها في هذا المقال.

عندما يصير العلم أوسع أبواب المال والثراء:
لأوَّل مرة في تاريخ البشر، يغدو العلم وبدائع بُنيَّات الأفكار البابَ الأوْسع والأقرب إلى الغنى والثروة، ذلك أنَّ أهمَّ ما يُميِّز القرن الحادي والعشرين، وبداية الألْفيَّة الثالثة: هو أنَّه عصر المعلومة أو المعلوماتية، حتَّى شاع عند الاقتصاديين مصطلح "اقتصاد المعرفة"، وتقهقُر دور الموارد الطبيعيَّة الخام، والأراضي الشَّاسعة والمعادن؛ بل وحتَّى قوَّة الإنتاج واليد العاملة في استنبات المال والمحافظة على الثروات، وأصبحت المعلومة والمعرفة والمهارات العقليَّة والذهنيَّة والإبداعية، واليد العاملة عالية التدريب، والكفاءة والتخصص - هي المصادر الأولى والأسباب الرئيسة في إخراج طبقة من الأثْرياء والأغنياء والموسرين، الشباب منهم والكهول.

إنَّ "اقتِصاد المعرفة"، وثورة تكنولوجيا الاتِّصال والمعلوماتيَّة - يعبِّران عن وجه جديد غير مسبوق من أوْجُه اللقاء بين العلم والمال، ممَّا فتح آفاقًا معتبرة لكثيرٍ من الدول والجماعات - بل حتى بعض الأفراد - لتبوُّؤ مكانة متقدِّمة من حيازة المال، واستِحْداث نوْعٍ من الحراك الاقتِصادي والاجتماعي الملاحَظ، كالذي يحصل في بعض دول آسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها.

ليس المهم الآن كثيرًا: من تكون؟ وماذا تَملك الآن؟ ومَن هو أبوك؟ إذا استطعتَ أن تحظى بتعليم جيد، وتعلُّم جاد طموح، وشجاعةِ فؤادٍ وقدرة إبداعيَّة، وجهد متواصل ذكِي أن تتصدَّر قائمة النَّاجحين ماليًّا، بعد العكوف على مشروع يقدم خدمة طريفة، أو يستجيب لحاجة غير معبَّرٍ عنْها، تنتظر اكتشافًا وسَدًّا وإشباعًا.

إنَّ دولة صغيرة مثل سنغافورة ما كان لها أن تجِد لها موقعًا اقتصاديًّا كالذي تحظى به اليوم، لولا الاستِثْمار في تكنولوجيا المعلومات والاتِّصالات، ولولا قدوم اقتصاد المعرفة، إنَّ الشَّركات العملاقة الكبرى تُواجِه اليوم تحدِّيا ضاغطًا يضعُها على المحكّ، ويدعوها إلى تقْييم عطائها، وبلورة وتثمين إنتاجها، والاتجاه إلى خدمات معلوماتية معرفيَّة بالدرجة الأولى، مهْما كانت السلع والخدمات التي كانت تقدّمها، إنَّ الدراساتِ والمُسوحَ الإحصائيَّة تؤكِّد - وتكاد تُجمع - على أنَّ أغلى خدمة وأنفس سلعة تتمثّل اليوم أساسًا - وفي المقام الأوَّل - في خدمات التكوين والتأهيل المتخصِّصة عالية المستوى، وبالخصوص من خلال استعمال آليات التواصُل السلكيَّة واللاسلكية، وما تُتيحه شبكة الإنترنت، وما فَتَحَتْه وتفتحُه من آفاق كبيرة.

هكذا إذن، يصبح العلم والمعرفة أوسع أبواب الثراء والاسترزاق، ويغدو الاستثمار في عقول وأذهان الشَّباب الأذكياء النابهين الطموحين صناعة "ثقيلة"، تتنافس عليها الدول والشعوب الطامحة إلى تسنُّم مراقي التنمية المتكاملة الحقَّة، والعازمة على كسب "رهان" النهضة في هذا الواقع الجديد، وفي المستقبل القريب والبعيد، كثير التغيّر والتبدُّل.

إنَّ الاستثمار في هذه "الصناعة" الجديدة لا يتطلَّب مقدَّرات وخصائص جغرافيَّة نادرة، ولا ثروات طبيعيَّة كبيرة، ولا تراكُمًا زمنيًّا طويلاً نسبيًّا؛ بل يتطلَّب - بدَل ذلك كلِّه - وعيًا كافيًا بهذا التحوُّل في أساسيات الاقتِصاد الدولي، وإدراكًا جيِّدًا لجملة التحدِّيات الَّتي يطرحها، ومواجهتها والتكفّل بها من جهة، ولمختلف "الفرص" التاريخيَّة التي يتيحها وما يستتبعه من التهيُّؤ لاهتبالها والإفادة منها من جهة أخرى.

إنَّ من أبجديَّات ذلك الوعي والإدراك، ومن حروفه البارزة: فكَّ رموز معادلة التَّنافُر بين العلم والمال في أذهان وواقع الأمة بِرُمَّتها، شِيبًا وشُبَّانًا، أفرادًا وأُسَرًا وجماعاتٍ، مسؤولين وساسة، علماء ومفكرين ومثقفين، أغنياء وأثرياء وغيرهم، ونزع "فتيل" الاستِقْطاب الموروث وقطع دابره، ودواعي وأسباب استمراره، وإعادة إنتاجه.

مشاريع حلول:
هل من سبيل لتلافي وتجاوز هذا التنافر وآثاره وآفاته، والدخول بحق أبوابَ اقتصاد المعرفة، وعصر المعلوماتية "الفسيحة" الجديدة، والتصالُح مع تراثنا العالي، والارتِقاء بمفاهيم الوقْف الإسلامي، وتجديده وتثمينه، وبلورة حلول جديدة لنا ولغيرنا، على ضوء عقيدتنا وهويّتنا، وواقعنا وعصرنا وزمانه الصعب؟

ما أسهلَ الجوابَ والاقتراح! لا بل ما أصعبه! الله يعلم أني لم أقل فَنَدًا.

ما أسهل الجوابَ السريع، والاقتِراح غير المُلزِم، وردّ الفعل الغيور غير الناضج وغير المدرك لأبعاد الأمراض الاجتماعية وطبيعتها، وصعوبة تغيير الطباع الفردية والجماعية، ومحاولة استبدالها بما هو أجدى وأنفع! لكن ما أصعب التفكير العميق الجادَّ المسؤول، المستشعِر لمستلزمات ومتطلبات الإصلاح الاجتماعي والتربوي والنفسي وحيثياته!

إنَّ مراحل بلْورة اقتِراحات عمليَّة سهلة وممكنة التطبيق والمتابعة - دون سذاجة التبسيط والتسطيح ومداواة الأعْراض دون الأمراض - وإمكانية قياس أثَر ذلك على واقع الناس وأدائهم - أمر يتطلب كثيرًا من الجهد الفكري الفردي والجماعي، والإجرائي والميداني التطبيقي، الذي تنوء به طاقة هذه الكلِمات وصاحبها.

غاية ما يمكن تسويده في هذا المقام إشارات ترجو أن تكون هاديةً، ومعالم تحسَب نفْسَها مضيئة، في طريق الحلول الممكنة المفيدة في سبيل علاج ظاهرة التنافر والاستقطاب، إذا كان الأمر في واقعه على نحو ما ذكرنا وشرحنا في هذا المقال، إشارات تحتاج إلى إشارات تُقوِّم وتُسدِّد، ومعالم تحتاج إلى معالم تحدوها وتهديها سواء السبيل؛ من هذا المنطلق وفي هذا الإطار وبهذا الاعتبار، نقول - وبالله التوفيق -: يمكننا طرح ما يلي:


بلورة عمل متواصل منوَّع؛ لتأسيس قناعات وتوجُّهات فكرية جديدة إيجابية نحو المال، والأعمال الحرة الجالبة للثروة، والتَّمكين لها بكافَّة الوسائل الناجعة حتى تحلَّ محلَّ القناعات السلبيَّة، والمثبطة والمشككة، والمتَّهمة لدنيا المال والأغنياء واليَسار.

تطعيم وتضمين مُختلف المنظومات التربويَّة والتوجيهية والإعلاميَّة، بالوسائل والأساليب والأدوات الضَّرورية؛ لصبغ وترسيخ وتأسيس ثقافة علميَّة مُشاعةً شعبيًّا، بالقدر الكافي لتحفيز واحتضان الطَّاقات الشابَّة، وتوجيهها نحو ميادين العلوم والمعارف عالية المردوديَّة الاجتِماعيَّة والاقتصاديَّة الموائمة لاقتِصاد المعرفة.

بذْل الجهود والمساهَمات، وإشراك وتجنيد كافَّة وسائل الدَّعوة والإرشاد، ومؤسَّسات التوجيه، وتشكيل الرَّأي العام، وتربية النشْء على إزالة أكبر قدر ممكن من ترسُّبات وبقايا قناعات التنافر والاستقطاب بين المال وبين الفكر والعلم، وتنويع المناسبات والورشات والمشاريع؛ لإزالة الفجْوة، وتضْييق الشقَّة بين العلم والمال، في وقت لم يبقَ لهذا الأمر أدْنى مبرر في عصر "اقتصاد المعرفة"، وعصر المعلوماتيَّة.

تسخير جهود معتبرة مدروسة النجاعة؛ لإشاعة حبِّ العلم والعلماء، والفكر والمفكِّرين، والثقافة والمثقفين، في أوساط الأغنياء والأثرياء، وبالخصوص في صفوف أبنائهم وورثتهم، والأخذ بأيديهم لاكتِشاف اللطائف والدُّرَر، والمعاني السَّامية التي تطفح بها أروِقة العلم والفكر والثقافة، مما هو مُفتَقَدٌ ونادر في دنيا المال، والشَّهوات الحسيَّة المحرومة أو المترفِّعة عن هذه الأجواء.

تكثيف مشاريع التَّوعيَّة والتَّأهيل؛ حتَّى يتمثَّل العقل الفردي والوعي الجماعي النقلةَ النوعية العميقة، التي أحدثها ما يسمَّى "اقتصاد المعرفة"، في البنية الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة لواقعنا المعاصر.

هذا التمثُّل الذي يُمكِّننا من إدراك واكتشاف واهتبال مختلف الفرص التَّاريخية التي أنشأها، وأنتجها هذا التحوُّل، ويساعدنا كثيرًا على اقتلاع جذور هذا التنافُر والاستقطاب الموروث، وإبرام القضاء على آثاره، وثماره الخبيثة.

لقد تردَّد على ألسنة بعض من الملاحظين والمتتبِّعين لتطوُّر تكنولوجيا المعلومات قولُهم: إنَّ مَن يَملك الآن حاسوبًا (كمبيوتر) وطابعة ووَصْلة إنترنت، فإنَّه يملك من القوَّة والنفوذ ما قد يُضاهي قوَّة ونفوذ قائد عسكري لفيلق من مئات الجنود، والمعدَّات العسكريَّة إبَّان الحرب العالمية الأولى! إنَّه نوع من التَّعبير التحفيزي، الَّذي حاول أن يقرِّب المعنى لحجم وطرافة وكِبَر الفرصة المتاحة، جرَّاء هذا التحوُّل التكنولوجي الكبير.

بعث واستئناف الجهود العلمية والعملية، ونفخ الروح في ميدان الوقف الإسلامي المُوَجَّه لرعاية واحتضان العلم والعلماء، والفكر والمفكرين، والثقافة والمثقفين، تتضمن هذه الجهود توجيه أعداد كافية من طلبة العلم الشرعي النابهين النابغين، إلى مختلف البحوث والدراسات والاجتهادات اللازمة لتنظيم وتفعيل وترشيد هذا القطاع، من خلال استحداث الاختصاصات ومراكز البحث، وتطوير وتحديث الموجود منها، وربطه وتزويده بأحدث النتائج والوسائل القادرة على توصيف الواقع، وتحسّس احتياجات المجتمع المتجددة، والوقوف على جملة التحديات والصعوبات الميدانيَّة، التي تواجه مسيرة إنجاح مشروع مساهمة الوقف في الرعاية والاحتضان المأمولَيْن.

أوَّل الغيث قطرة ثمَّ ينهمر:
ما سبق من مقترحات وأفكار نحو علاج المرض "المزعوم"، تتجه بالأساس نحو الجهود الجماعية والمؤسسية الأهلية والحكومية، على مختلف المستويات وكافة المجالات.

ما دور الفرد إذًا، وما هي المبادرات العمليَّة الميدانيَّة المحلية على المستوى الشخصي وفي الأسرة، ومن خلال الحي والنادي والمسجد وغيرها، ممَّا يمكن أن يحدِث نوعًا من القابلية والتهيئة، واستحداث البيئة المواتية لتطبيق والاستفادة من الاقتراحات والحلول سابقة الذكر؟

هنا يمكن الإشارة إلى النقاط المباشرة التَّالية:
اتخاذ القرار الجازم بتأسيس وترسيخ عادة القراءة المثمرة، وتعويد النفس والعقل والفؤاد والروح على وجبة القراءة اليومية الثابتة، التي لا تتأثر بظروف العيش المختلفة، ولا تنقطع بالانشغالات المتنوعة، كذا الإفادة من كل جديد نافع، في سبيل التمكُّن من هذا العادة وتطويرها ورفع نجاعتها، من أمثال تقنيات تنمية الاستيعاب، وتسريع القراءة وتدريب الذاكرة، وتحفيز الإبداع، وترشيد وتقويم التفكير، وملكات التحليل والتركيب، وتوليد المعاني والأفكار وغيرها.

يُقال: إنَّ التِّجارة من أقْوى الأنظِمة التي استحدَثَها الإنسان في تاريخه الطَّويل؛ وعليه فإنَّ على تجَّارنا الجدُد - وبخاصَّة الشَّباب منهم - إدراك أهميَّة وضعهم الحسَّاس، في دعْم أنفُسِهم، ورعاية أرواحهم، وتغذية عقولِهِم بما يروق لهم من ثِمار العلم والفكر والثَّقافة، واستشعار المسؤوليَّة تجاه هذه الميادين، واستلهام سيرة التجَّار الصُّلَحاء، الذين ساهموا بقوَّة في مسيرة الإسلام وأمته، بدءًا من الصَّحْب الكرام حتَّى طريق الحرير، حيث دخلت أقوام وشعوب وأمم كثيرة في هذا الدين، بسبب سماحة وأخلاق التجار المسلمين الصادقين الأمناء.

على كل طالب علم أن يرفع شعار العالِم المحترف، أو على الأقل تشجيع وتدعيم وتحفيز هذا الاتجاه في إخوانه، إذا تعذَّر عليه هو ذلك، إنَّنا أمام سنَّة ثابتة من سنن الأنبياء، حيث كان معظمهم يحترف حرفة يتكسَّب بها قوت يومه، ويعيش من خلالها هموم قومِه، ويقف على حاجاتهم وآمالهم، مما يؤهِّله لإصلاح حقيقي، وإلى إتقان مسؤولية "البلاغ المبين"، بتعبير القرآن. 

إشاعة روح الاعتزاز، وتسهيل وتذليل طرق تذوُّق لغة القرآن والثقافة والآداب، وتنويع الفرص، واستغلال المناسبات الكثيرة لإحياء مكانة العربية في النفوس، وصقل الحاسة الأدبية والذوق الفني العالي لمختلف علومها وآثارها، على مستوى كافَّة شرائح المجتمَع وفي كل المجالس والنوادي واللقاءات.

إنَّ التمكُّن والتذوُّق والاعتِزاز باللسان العربي الفصيح، وإشاعة ذلك إلى أكبَرِ مدى مُمكن في الأمَّة - شرط أساس عاصم لرفع سويَّة الثقافة الشعبيَّة إلى مصافِّ الفِكْر الأصيل، والعلم النَّافع، والثَّقافة الجامعة، والفن الهادف، والالتفاف حول هذه المعاني، بما يلاحق دابر مرض التنافر والاستقطاب بين العلم والمال.

إذا كان حقًّا أنَّ القارئ الجيِّد هو كاتب "تحت الإنشاء"، فإنَّ استهداف تكوين وتجويد عادة الكتابة، والتفكير بصوت "مقروء" - يُعتبر أمرًا مرغوبًا فيه، ومحبَّذًا من كل قارئ جاد، إنَّ انتِقال ثقافتِنا الشعبيَّة العامَّة من طور الشفويَّة والكلاميَّة، الَّذي ارتكست إليْه في تاريخها القريب، وأطالت مُكثها غير المحمود فيه، هذا الانتقال منوطٌ إلى حد كبير بترْسيخ وتطوير وإشاعة وتوسيع دائرة الكتابة في حياتِنا، وحياة الأجيال الصَّاعدة بالخصوص.

تمكين النفس ومساعدة الغير على إدراك الفرص التي يتيحُها الإنترنت أمام مواطن اليوم وشباب المستقبل، إنَّ دفع الثَّمن اللازم من مال وجُهد ووقت، وتأهيل وتكوين واستيعاب وتكوين حاسَّة نقديَّة مُكافِئة؛ لرفع مستوى الوعي والأداء لحسن استعمال واستغلال هذه الوسيلة العجيبة - هو المدخل الحقيقي لهذا التَّمكين، يتمثَّل هذا الاستِغْلال أوَّلاً في البحث عن المعلومة، والاطلاع على المستجدَّات، والإحاطة والإفادة من مختلف الأشكال والأساليب والطرق الجديدة للتَّعبير والبلاغ والحوار والإقناع، وعرض الأفكار ونشر القيم والتبشير بالخير؛ مثل المدوَّنات الشخصيَّة، ومواقع الشَّبكات الاجتماعيَّة، ووسائل الاحتِجاج السلميَّة، وغيرها من أشْكال التفاعُل والتَّواصُل المفتوح.

ثانيًا: يُمكن اغتِنام الفرص المتجدِّدة المتنامية للتَّكوين عن بُعْد، والانتظام في برامج تدريبية متخصِّصة "على الخط"، والانتساب لأرْقى المؤسَّسات التعليميَّة والتأهيليَّة، والجامعات "العريقة" في مختلف المعارف والتخصصات والمهارات.

هناك معنى ثالث لا يقلُّ أهميَّة، وهو الاطِّلاع والإفادة من المجالات الجديدة والمثيرة في ميادين الأسواق الرقمية الناشئة، ودراسة إمكانية مباشرة عمليَّات تجاريَّة وتسويقية واستثمارية عبر الإنترنت.

هذا كله في ظل استصحاب وتصوُّر واستبطان وتنمية وتفعيل حاسة الحذَر، والحيطة واليقظة، والوعي الكافي بمختلف التحدِّيات، والأخطار المحيطة المحدقة، والمتجدِّدة والمتنامية، الواردة في غمرة استعمال هذه الوسيلة العجيبة المثيرة، التي غيَّرت وجْه التواصل البشري، تتنوَّع ميادين ومستويات هذه التَّحديَّات والأخطار، بدءًا من خطر الفيروسات المدمِّرة للحواسيب والمعطيات وقواعد البيانات، إلى الأضرار الصحيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة، التي أفرزتها وتُفْرِزها هذه الوسيلة، مثل ظاهرة إدمان الإنترنت، وآلام العيون والظَّهر والمفاصل، المصاحِبة لطول مدَّة الجلوس السلبي غير الصحي أمام شاشة الحاسوب، يُضاف إليْها معضلة توْثيق المعلومة، والوقوع في السرقات الأدبيَّة، وانتهاك حقوق التَّأليف والملكية الفكريَّة، وما يقابلها من احتكار المعرفة وغلبة الطابع التجاري والتسويقي، وإمكانية تمرير شتَّى أنواع الغرر والتدليس، والغش والاحتيال والكذب، وغيرها من طرق أكْل أموال النَّاس بالباطل.

الإنترنت منجم حقيقي، يشتمل على دُرر كثيرة جديدة ومتنوعة، وهو إلى جانب ذلك - وقبله وبعده كذلك - "زبالة" كبيرة جدًّا، تفوح بنتَن رائحة مختلف "القاذورات" الأخلاقيَّة، و"الجرائم" الإلكترونيَّة، والدعاوى الهدَّامة إلى الإلْحاد والإباحيَّة والخلاعة، و"نسبية" القيم والمعتقدات، وتحريف الأديان، وغير ذلك من السموم الفتَّاكة، التي ينبغي التفطُّن لها، والاحتِراز من شرورِها وآثارها على النَّشْء خصوصًا، لا ننسى كذلك هيمنة الرُّوح الغربيَّة، وطغيان اللُّغة الإنجليزيَّة، ومُحاولة "فرض" نموذج حياة استِهْلاكي بحت على الجميع.
والله يقول الحقَّ وهو يهدي السبيل.
والسَّلام عليكم ورحْمة الله وبركاته.

______________________________________________

الكاتب: عبدالباقي عمر دعماش

  • 1
  • 0
  • 4,513

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً