الأم الحنون والمباراة
خافت الأم على ولدها من لسعات البرد فجاءت بلحاف غليظ فغطَّتْ به ريحانة قلبها، وثمرة فؤادها...
كان البرد قارساً، الشوارع خالية من المارة تقريباً، إلا أصوات بعض السيارات، سعيد في بيته، عينه تتنقل من شاشة التلفاز إلى شاشة الجوال مرة ينظر إلى المباراة ومرة يراسل صديقة على الواتسآب: ما هو عشاءكم الليلة؟ هل عندكم برد مثل الذي عندنا؟ هل تتوقع أن نكسب المباراة الليلة، الحكم ظلمنا في ضربة جزاء فعليه وعلى من أتى به.... وغير ذلك من الكلام الذي يدور بين الأصدقاء حين لا يجدون كلاماً يقولونه...
بدء الوقت يمر سريعاً...
يا سعيد ألم تنم بعد؟ ... صلاة الفجر، وأيضاً مدرسة غداً ...( تنادي أم سعيد ابنها)
يتجاهل سعيد كلام الأم فالمباراة اشتدت في نهايتها وفريقه المفضَّل يتقدم بفارق هدف ويتراجع مدافعا...
يضع سعيد يده على قلبه خوفاً من أن يفاجئه الفريق الآخر بهدف...
هل سيحرز فريقي هدف الاطمئنان أم أن الكارثة ستحل في الدقائق الحاسمة ...
يَتمنَّى سعيد أن تُصْبح الثانيةُ دقيقةً حتى يطمئن أَنَّ فريقه قد ضمن الثلاث النقاط الغالية التي تبعده من خطر الهبوط وتُقرِّبُه من المنطقة الدافئة....
صوت صراخ يأتي من غرفة سعيد ...
تهرول الأم إلى غرفته لترى ما جرى ..
نعم انتهت المباراة يكاد سعيد يطير من الفرح ...
انقلب الخوف إلى فرح عارم، والتوجُّس إلى سعادة بالغة ..
(مبرووووووووك) يرسل سعيد إلى المجموعات المشترك فيها...فرحاً بهذا الانتصار التافه.
يضع سعيد حالته على الواتسآب: انتصرنا ... انتصرنا .. رغم أنوف الحاسدين.
يمكنني الآن النوم مرتاح البال والثلاث النقاط في الكيس .. (سعيد في نفسه)
كان الوقت متأخرا جداً ... نظر سعيد في جواله للتَّأكد من الوقت..
إنها الثانية بعد منتصف الليل...لقد مر الوقت سريعاً.. عليَّ أن أرتاح..
يا سعيد متى ستنام ؟ لا أستطيع النوم .. إلا بعد أن تنام.. (تنادي الأم)
يا أمي: كسبنا التقاط الثلاث...
تردُّ الأم بنصائح تخرج من سويداء قلبها.. يا بُنَيْ: أعمل صالحاً ... تعلَّم علماً ... أنفع نفسك وأمَّتك، بدلاً من التعلُّق بهذه الانتصارات الوهْمية التي ما تَزيدك إلا بعدا من ربك، وتفريطاً في صلاتك وإهمالا لمدرستك، وإرهاقاً لنفسك وعقلك... يا بُنَيْ «اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ» .
يا بُنَيْ «اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ : شبابَك قبل هِرَمِك ، وصِحَّتَك قبل سِقَمِك ، وغناك قبل فقرِك ، وفراغَك قبل شُغلِك ، وحياتَك قبل موتِك»
كانت نصائح الأم تنهال على سعيد كالسياط على ظهره، وكالنبال في صدره ...
- يطأطئ سعيد رأسه ويقول يا أمَّاه .. إن الإدمان أنواع ومنه الشغف والتعلق بمشاهدة المباريات والحب الأعمى للفريق المفضل.
يا بُنَيْ: استعن بالله ولا تعجز، وابدأ بالأخذ بالأسباب، واعلم يا بُنَيْ: أن النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، وإن لم تملئ وقتك بالنافع انصرم في الضار والتافه من الأمور.
- يا بُنَيْ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله.
- يا بُنَيْ: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.
- يا بُنَيْ: بادر إلى التوبة من كل ذنب وأتبع السيئة الحسنة تمحها، واحذر التسويف.
وهكذا استمر حوار هادئ ولطيف وممزوج بالحب والحنان والشفقة والرحمة بين الأم المشفقة والشاب اليافع ...
...
...
قرر سعيد أن يأخذ بنصائح أُمَّه بما فيها البعد أو على الأقل التقليل من التعلق الجنوني بمتابعة كرة القدم، ولكن سعيد كان مرهقاً نفسياً وبدنياً، من جرَّاء السهر والخوف على فريقه المفضل.
انصرفت الأم وبعد وقت وجيز عادت وهي غضبى لأن التلفاز ما زال يعمل، وجهاز التحكم عن بعد قد سقط من يدَيْ ابنها ونام مستلقياً على الأريكة.
أخذت الأم توقظ ابنها .. ليس هنا مكان النوم يا بُنَيْ .. اذهب إلى غرفة نومك ولا تنسى أن تنام على وضوء واحرص على قراءة آية الكرسي«فَإِنَّهُ لَن يزَالَ عليْكَ مِنَ اللَّهِ حافِظٌ، وَلاَ يقْربُكَ شيْطَانٌ حتَّى تُصْبِحِ» إذا قرأتها.
لم يُنَفِّذ سعيد ما قالته أمه فرأْسه ثقيل كأنه ثَمِل، وارتمى سعيد على الأريكة وذهب في نوم عميق.
خافت الأم على ولدها من لسعات البرد فجاءت بلحاف غليظ فغطَّتْ به ريحانة قلبها، وثمرة فؤادها...
(الأم في نفسها) الوقت متأخراً ترى هل بإمكانه أن يقوى على الذهاب إلى صلاة الفجر ... لكن سأتدبر الأمر .. فالله تعالى يقول:( {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} )، كما أن (الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).
نظرت الأم في الساعة فإذا هي قد دخلت في ثلث الليل الآخر حيث «ينزلُ اللهُ كلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا ، حين يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ ، فيقولُ: من يدعوني فأستجيبُ له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرُني فأغفرُ له» فرفعت الأم يديها إلى ربِّها قائلة:
-رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي
إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ
يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
سالم محمد
- التصنيف: