ليست المشكلة في ما أعطاه الله قيصر!
إبراهيم الأزرق
عُرف أن العلمانية مبدأ يقوم على فصل الدين عن الدنيا، أو بتعبير يراه بعضهم أدق: إقامة الحياة على غير الدين، والشعار الشهير لدعاة العلمانية: دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
- التصنيفات: الشرك وأنواعه -
عُرف أن العلمانية مبدأ يقوم على فصل الدين عن الدنيا، أو بتعبير يراه بعضهم أدق: إقامة الحياة على غير الدين، والشعار الشهير لدعاة العلمانية: دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
ومن البدهي أن هذا الفصل، يكون فيما (تدخَّل!) فيه الدين من تشريعات مختلفة، وإن كان التعبير الأدق هو محاولة استئصال قلب الأمة النابض واستبداله بآخر مصنوع، فالدين ليس هو البديل - كما يزعم البعض - بل هو الأصل الأصيل الذي جاء لهداية البشرية وصلاحها، ثم جاءت الشياطين والأهواء بعجرها وبجرها فاجتالت الناس عنه.
ومن المعروف أيضاً أن هذا العزل للدين ليس فيما أوكله لهم من تنظيم وإدارة أمور دنياهم، أو ما أعطاهم له من حقوق وصلاحيات، ولكن فيما سلبهم إياه من (حريات!) هكذا زعموا.
وفي الحقيقة أثبت التاريخ أن الأديان المحرفة سلبت الناس كثيراً من الحريات، وتصادمت مع كثير من المسلمات، ولأن أهلها يؤمنون بها، ولايؤمنون بتحريفها، نشأت العلمانية حلاً يمثل مخرجاً أمثلا لتلك المجتمعات من قبضة الأغلال والآصار التي أحكمتها يد الرهبان والأحبار، فلما كان قطاع عريض يعتقد رجالاته بأن دينهم حق، وهذا الحق إن أُجرِي على شؤون حياتيةٍ كثيرة وأساسية تعارض معها، فالحل إذاً أن لا يجرى عليها وأن لاتقوم الدولة عليه، فلا تعارض حينها بين كونهم علمانيين ومع ذلك لهم دين ينصاعون له في مواطن شتى، على الرغم من إقامتهم حياتهم وشؤون دنياهم على غيره، ولتوضيح ذلك أضرب مثالين:
الأول: ابن يرى أن والده لايحسن التقدير في مجال معين، ويرى أنه بلغ من العقل في ذلك المجال ما لم يبلغه أبوه، فإذا أصدر والده أمراً يخالف ماقرره، لم يعبأ به كثيراً فهو يرى أن هذا من تخصصه لامن تخصص والده. ولكن قد يأمره والده بأمر يرى صوابه، وإن كان لايندرج تحت تخصصه، إلاّ أنه ههنا يطيعه، وهذه حال بعض العلمانيين مع شرائعهم، وتجد مثل هذا الصنف يصر على أنه متدين، وربما ذكر أحدهم أنه يقرأ الإنجيل كل صباح، بل ربما القرآن!
أما المثال الثاني: فهو لأناس ضعفت العلاقة بينهم وبين أديانهم، فهم أقل تمسكاً والتزاماً بشرعهم، غير أنهم يرون أن ثمة صلة لاتزال تربطهم به فهم ينسبون لدين أو يحسبون عليه على أي حال، ومثل هؤلاء مثل الابن العاق الذي قد لا يعبأ بأمر أمره به والده يرى أن فيه كبتاً لحريته فهو (عاق)، ولايخرجه من هذا العقوق أن يطيع له أمراً يوافق إرادته، فهو عاق وسيفعل ما أراد في الحالين طالما أن له القدرة على ذلك، إذاً لا قيمة لأمر والده من جهة منعه إذا أراد أن يفعل، ولكن لا يعني ذلك أنه لا قيمة له في شحذ همته وحثه على الإقدام على ما أراد فعله! أو كفه عما أراد تركه، وهذا طبع في النفس البشرية، فإذا أرادت أن تقدم على فعل مقتنعاً بصوابه، يسرك ويشحذ همتك ويزيد في عزمك حث صديق لك أو قريب.
وهكذا حال العلمانيين مع شرائعهم، فهما أحد رجلين يصورهما المثالان المضروبان.
ومن هنا فقد يكون الغرب علمانياً، ولكن لايعني هذا أنه لا قواسم مشتركة بين العلمانية وكافة الأيديولوجيات أو أنها لاتلتقي في نقاط، بل قد تكون هناك دوافع أيديولوجية تلتقي مع الفكر العلماني في قضية معينة أو لاتتعارض مع كون صاحبها علماني.
فلايعني كون دولة ما علمانية ألا تدفعها دوافع أيديولوجية لسن تشريع معين في ما يسمى بالأحوال الشخصية مثلاً، أو على الأقل لا يعني كونها علمانية أن لا توافق بعض تشريعاتها تشريعات جاءت بها الأديان السماوية.
ولايعني كذلك كون فلان علمانياً عربياً عدم حكم الفكر القومي لتصرفاته أو بعضها، وكذلك اليهودي العلماني ليس بالضرورة أن يكون متحرراً من فكر عنصري، بل قد تحكم العربي القومية العربية مع كونه علمانياً في كثير من القضايا السياسية، أو على الأقل قد تجيء تشريعات علمانية موافقة لفكر القومية العربية أو حتى الإسلام، وكذلك اليهودي بالنسبة لعنصريته.
وهذا الأمر يشهده الناس في تصرفات بعض الدول الغربية ولعل من الأمثلة غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، فقد يكاد يطبق المحللون على أن خلفه أبعاد صهيونية ولك أن تقول منطلقات دينية أو أيديولوجية، وإن كانوا يتفاوتون في عمق فهمهم لهذه المنطلقات ومدى أهميتها إذا ما قورنت بالدوافع الاقتصادية والسياسية الأخرى، إذاً فلم ينف كون الدولة علمانية وجود دوافع أيديولوجية تحكم بعض تصرفاتها.
وبينما كان الموقف السياسي يحاول ستر الدوافع الأصولية المشتركة مع مصالحه، كان رجال الدين من اليمين الأصولي النصراني أو اليهودي يدعمون حرب العراق بل يؤم أئمتهم الإدارة الأمريكية في الصلاة من أجلها!
وعلى صعيد آخر لو تأملت كلاً من اليمين لدويلة اليهود في الأرض المغتصبة واليسار المتحرر لم تجد كبير اختلاف والسبب هو اتفاقهما حول القضية الجوهرية وهي ما أمر الله به قيصر في شأن الأرض، فجميعهم يرى أن يطاع الأمر، وإن اختلفت محركات كل فئة ودوافعها، ولذا فلعل المتأمل يجد أن الخلاف في تصنيف دولة إسرائيل هل هي دولة علمانية أو دينية ليس في الحقيقة له كبير أثر، وذلك لالتقاء الأهواء البشرية العلمانية مع العقيدة اليهودية لجميع الصهاينة.
والمقصود أن العلمانية قائمة على عدم التزام الدين في شؤون الحكم ومعارضته إجمالاً، ولكن لايعني هذا المخالفة لكافة تفاصيله ورفض دستوره السياسي بنداً بنداً، فلا يجب على العلماني مخالفة الدين في كل جزئية ليبني قانونه الخاص، ولكن يأخذ منه ما شاء ويحكم بالوضع على ما شاء، فهم يقولون دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر. فإذا أعطى الله قيصر عطية فلا يلزم ردها على كل حال، وإذا جاءهم المرسوم الرباني أو الدستور (الكتاب) فلهم أن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض أو يتخذوا بين ذلك سبيلاً!
ولذلك قد يقود الحوار مع العلمانيين إلى نقاط اتفاق على بنود سياسية، ولكن يجب أن نعي عند الاتفاق في بند سياسي أموراً لعل من أهمها:
1 - أن ذلك الاتفاق ظاهرة لا تخرج صاحبها عن كونه ليبرالي أو علماني، فلا يقال حصل نوع تقارب، أو كسب أحدٌ من الجانبين الآخر لمجرد الاتفاق على بند.
2 - لا يلزم أن يكون الموقف العلماني ثابتاً لا يتغير بل متى ما اقتضت المصلحة والظروف تغيير المواقف وتبني أجندة أخرى فلا شرع يقيدهم، وعليه فينبغي ألا يُطمأن لهم أويركن إليهم، ولكن هذا لا يمنع من التعامل معهم في الإطار التكتيكي لا الاستراتيجي.
3 - شكل آليات التنفيذ ليس بالضرورة أن يكون شرعياً يخضع للأيدلوجيات التي تؤيد الفكرة المعينة عند أهل العلمنة، ولهذا يحسن وضع التصور الإسلامي لها حتى يكون الاتفاق ذا جدوى.
وإذا تبين ما سبق فإن من البدهي أن تجد ليبرالياً أو علمانياً يصلى ويصوم ويزعم أنه مسلم، بل أبعد من ذلك، لا وجه للعجب حتى وإن نادى ليبرالي بأهمية بعض الأجهزة الشرعية كمحاكم الأحوال الشخصية مثلاً، فضلاً عن الالتقاء معه في بند إثر تفاوض.
فشعار العلماني: دع ما لله لله، ومال لقيصر لقيصر.
ولسان حال المؤمن: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ}، فالأمر كله لله، وقيصر وما ملكَ ملكٌ لله.
أما إذا أعطى الله قيصر أعطية فهنا لا مجال للخلاف، ولا يعني الاتفاق على ذلك تقارباً أو إئتلافا!