يوم الجمعة .. قضايا وأحكام 5
خالد سعد النجار
قال ابن قدامة في المغني: "وَلِلْبَعِيدِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ".
- التصنيفات: الفقه وأصوله -
بسم الله الرحمن الرحيم
** إذا دعا الخطيب يوم الجمعة وهو على المنبر، فالسنة أن لا يرفع يديه في الدعاء، ولا يرفع المأمومون أيديهم، بل يكفي الإمام بالإشارة بالسبابة
روى مسلم عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ قَالَ: «رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ فَقَالَ قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ» .
والمقصود أن الخطيب لا يرفع يديه وهو يدعو على المنبر لا في خطبة الجمعة والأعياد، إلا إذا استسقى في الخطبة يوم الجمعة فإنه يرفع اليدين ويبالغ في الرفع حتى يرى بياض إبطه كما ورد بالسنة، ويكون باطن الكف تجاه السماء؛ وكذلك يرفع المأمومون أيديهم ويؤمنون على دعائه؛ لما روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: « أَصَابَتْ النَّاسَ سَنَةٌ (أي: جدب وقحط) عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)»
لكن الأفضل مطلقا رفع اليدين في الدعاء إلا ما استثني لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً)، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عامة كان يرفع يديه في الدعاء، وأن رفع اليدين من باب الاستجداء والاستعطاء من الله تعالى فهو سبب للعطاء.
** قراءة خطيب الجمعة في آخر الخطبة: { {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} } ليس هذا من السنة، ولم يرد هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "لا أعلم هذا واردا عن السلف، أعني قول الخطيب إذا انتهى من الخطبة: { {أَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} } وعلى هذا؛ فلا ينبغي للإمام أن يقولها، ولكن إذا انتهى من الخطبة نزل ثم أقيمت الصلاة، كما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يفعله، وكذلك خلفاؤه الراشدون .
** الاحتباء هو أن يجلس على أليتيه، ويضم فخذيه وساقيه إلى بطنه بذراعيه ليستند. وهذه الجلسة تسمى أيضا " القرفصاء".
روى الإمام أحمد والترمذي عن معاذ بن أنس -رضي الله عنه-: «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنِ الحبْوَة يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ»
وقال الترمذي: هذا حديث حسن .لكن الحديث مختلف في تحسينه ومنهم من ضعفه
وقد ورد الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب عن بعض الصحابة كابن عمر وأنس رضي الله عنهم، ولهذا ذهب أكثر العلماء [ومنهم الأئمة الأربعة] إلى أنه لا يكره .
وروى يعلى بن شداد بن أوس, قال: شهدت مع معاوية بيت المقدس, فجمع بنا, فنظرت, فإذا جُلُّ من في المسجد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأيتهم محتبين والإمام يخطب.
قال البيهقي رحمه الله: "والذي روي في حديث معاذ بن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة: فهو إن ثبت فلِما فيه من اجتلاب النوم، وتعريض الطهارة للانتقاض، فإذا لم يخش ذلك فلا بأس بالاحتباء"
** وضع نغمات الهاتف الجوال على نغمات موسيقية: منكر ومحرم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرم المعازف كلها.
// وعلى من نسي إغلاق جواله أثناء خطبة الجمعة: أن يغلقه إذا رنَّ، حتى لو كانت نغمة الاتصال مباحة؛ لأن في إبقائه تشويشاً على الخطيب والمصلين، وإشغالاً لهم عن واجب الاستماع للخطبة .
ونرجو أن لا يكون إغلاقه للجوال داخلاً في اللغو المنهي عنه أثناء خطبة الجمعة، وهو الوارد ذِكره في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ( «مَنْ مسَّ الحصى فَقَدْ لَغَا» ) [مسلم]
وإنما ينطبق هذا الحديث على من يعبث بشيء يلهيه عن سماعه الخطبة، كالجوال، والسجاد، ونحو ذلك .
// وقد ذكر الحافظ ابن حجر عن جمهور العلماء أنهم قالوا فيمن احتاج أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر وقت الخطبة أنه يفعل ذلك بالإشارة.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم: "فَفِي الْحَدِيث النَّهْي عَنْ جَمِيع أَنْوَاع الْكَلَام حَال الْخُطْبَة ... وَإِنَّمَا طَرِيقه إِذَا أَرَادَ نَهْي غَيْره عَنْ الْكَلَام أَنْ يُشِير إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ إِنْ فَهِمَهُ"
وعلى هذا فالحركة اليسيرة التي تفعل لغرض صحيح، وليست عبثا، لا حرج فيها أثناء خطبة الجمعة .
// لا يجوز للمأموم الذي يسمع خطبة الإمام يوم الجمعة أن يتكلم، ولو كان كلامه ذكرا لله تعالى، أو أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر .
وذلك لما رواه البخاري، ومسلم عن أَبي هُرَيْرَة -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ: أَنْصِتْ ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ» )
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة، وبه قال الجمهور في حق من سمعها "
وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مثل الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب مثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له أنصت لا جمعة له) [رواه ابن أبى شيبة، وأحمد، والطبرانى، عن ابن عباس] وهو ضعيف
قوله (لاَ جُمْعَة لَهُ) لمن لغا أثناء خطبة الجمعة: أنها تُكتب له ظهراً، ويحرم ثواب صلاة الجمعة .
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: ( «مَنْ لَغَا وَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ كَانَتْ لَهُ ظُهْراً» ) [أبو داود وحسَّنه الألباني]
قال النضر بن شميل: معنى (لغوت): خبتَ من الأجر، وقيل: بطلتْ فضيلة جمعتك، وقيل: صارت جمعتُك ظهراً .
قال ابن وهب - أحد رواته -: معناه : أجزأتْ عنه الصلاة، وحُرم فضيلة الجمعة"
وقال بدر الدين العيني رحمه الله: قوله: (كانت له ظهراً) أي: كانت جمعته له ظهراً، بمعنى: أن الفضيلة التي كانت تحصل له من الجمعة: لم تحصل له، لفوات شروط هذه الفضيلة.
// فإذا كان المأموم في مكان بعيد لا يسمع صوت الإمام، فلا حرج عليه أن يذكر الله تعالى سرًّا في نفسه، بل ذلك خير له من السكوت .
قال ابن قدامة في المغني: "وَلِلْبَعِيدِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ".
** روى مسلم عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُخْتٍ لِعَمْرَةَ قَالَتْ: " «أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَقْرَأُ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ» ".
** روى مسلم قَالَ أَبُو وَائِلٍ «خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ [علامة] مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا)»
وإنما كان قصر الخطبة علامة على فقه الرجل لأن الفقيه هو المطلع على حقائق المعاني وجوامع الألفاظ فيتمكن من التعبير بالعبارة الجزلة المفيدة، ولذلك كان من تمام هذا الحديث ( «فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا» )
فشبه الكلام العامل في القلوب الجاذب للعقول بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة وتناسق الدلالة وإفادة المعاني الكثيرة ووقوعه في مجازه من الترغيب والترهيب ونحو ذلك، ولا يقدر عليه إلا من فقه في المعاني وتناسق دلالتها فإنه يتمكن من الإتيان بجوامع الكلم، وكان ذلك من خصائصه -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فإنه أوتي جوامع الكلم.
// والمراد من طول الصلاة طول الذي لا يدخل فاعله تحت النهي.
وقد كان -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- يصلي الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقون وذلك طول بالنسبة إلى خطبته وليس بالتطويل المنهي عنه.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار