أسباب الثبات في الدنيا والآخرة
الثبات على الحق، وعدم التبديل، همٌّ يشغل الصادقين من أولياء الله في كل زمان، فكم من شخص عرَف الهُدى وسلكه، ثم طال عليه الطريق فاستبدل به غيره؛ لشهوة عاجلة، أو لدنيا يصيبها، أو جاهٍ يحصل عليه، فاستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير!
الثبات على الحق، وعدم التبديل، همٌّ يشغل الصادقين من أولياء الله في كل زمان، فكم من شخص عرَف الهُدى وسلكه، ثم طال عليه الطريق فاستبدل به غيره؛ لشهوة عاجلة، أو لدنيا يصيبها، أو جاهٍ يحصل عليه، فاستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير!
فيجب علينا أن نعرف الهدى، نعرف هدي النبي في سيره إلى ربِّه، في دعوته، في تعاملاته مع محبِّيه وخصومه، في منشطه ومكرهه، ثم نستمر على ذلك حتى الممات، وأذكر في مقامي أهمَّ أسبابِ الثبات على الحق.
فمن أسباب الثبات على الحق وعدمِ الزيغ:
الصدقُ في طلب الحق، وبذْلُ الوسْع في تحرِّيه، فيعمل بالنصوص المُحكَمة التي لا لبس فيها، والتي جاءت نصًّا في المسألة، وعدم البحث عن شُبَهٍ لتسويغ الخطأ؛ قال - تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7، 8]، فشأنُ الثابتين الذين ثبَّتهم الله على الحقِّ العملُ بالمحكم، وشأنُ من حاد عن الحق العملُ بالمتشابه.
ومن أسباب الثبات على الحق وعدم الزيغ:
كثرةُ الدعاء، والالتجاءُ إلى الله بسؤاله الثباتَ على الحق، وعدمَ الزيغ عن الهدى؛ فعن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثر أن يقول: «يا مقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك»، فقلت: يا رسول الله، آمنَّا بك وبما جئتَ به، فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم؛ إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلِّبها كيف يشاء» رواه الترمذي (2140) وقال: حديث حسن.
فإذا كان النبي المعصوم يسأل ربَّه الثباتَ، فليُلحَّ غيرُه على ربِّه بسؤاله الثبات على الحق، وعدم الزيغ، وقد كان خيار أصحاب النبيِّ يسألون ربَّهم الثبات؛ فعن أبي عبدالله الصنابحي قال: قدمتُ المدينة في خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فصلَّيت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورةٍ؛ سورةٍ من قصار المفصل، ثم قام في الثالثة فدنوتُ منه حتى إنَّ ثيابي لتكاد أن تمسَّ ثيابَه، فسمعتُه قرأ بأم القرآن وبهذه الآية: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]؛ رواه مالك (1/79) بإسناد صحيح.
فسؤالُ الله الثباتَ على الحق مشروعٌ دائمًا، ويتأكَّد السؤالُ في حال الاختلاف وكثرة من يخالف السُّنة، فهذا من مواطن عدم الثبات؛ لقلة المُعِين، وكثرة المخالف، فيتأكد سؤالُ الله الثباتَ في هذا الموطن؛ فقد كان النبي يستفتح قيامَ الليل بقوله: «اللهمَّ ربَّ جبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحقِّ بإذنك، إنَّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» رواه مسلم (770) عن عائشة - رضي الله عنها.
ومن أسباب الثبات على الحق وعدم الزيغ:
معرفةُ حدود النفس وقدرتها، فلا تحمل من العمل أكثر مما تُطيق؛ فمن جهل نفسَه وحملها أكثرَ من طاقتها، لا يثبت على الحق والهدى؛ إما أن ينقطع عن العمل، أو ينحرف عن الحق؛ فعن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلَّ نفسه»، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: «يتعرَّض من البلاء لما لا يطيق» رواه الترمذي (2254) وقال: حديث حسن غريب، فلينتبه لهذا الأمرِ من يحتسب على المنكرات ويحاول الإصلاح؛ فالإصلاحُ منوط بالقدرة.
أخي، ينبغي أن تتفطن لأمرٍ مهم، وهو: ليس المهم أن تعمل اليوم عملاً كبيرًا أو كثيرًا؛ بل الأهم أن تستمر على العمل وإن كان يسيرًا؛ فأحبُّ العمل إلى الله أدومُه وإن قل، وكان عمل النبي دِيمَةً.
ومن أسباب الثبات على الحقِّ وعدمِ الزيغ:
الأعمالُ الصالحة، سواء كانت عباداتٍ محضةً بين العبد وبين ربه، أم عباداتٍ نفعُها يتعدَّى للآخرين؛ {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265]، وقال - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66].
ومن أسباب الثبات على الحق وعدم الزيغ:
تصحيحُ النية وإخلاصُها لله، فيكون الهمُّ مرضاة الله، فمن فسَدتْ سريرتُه لا يستطع الدوام على العمل، وينحرف عن الهدى إلى الضلال؛ فعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الْتقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ لا يَدَعُ للمشركين شاذةً ولا فاذَّة إلا اتَّبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليومَ أحدٌ كما أجزأ فلان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما إنه من أهل النار»، فقال رجل من القوم: أنا صاحبُه، قال: فخرج معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجُرِحَ الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت؛ فوضع نصلَ سيفه بالأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقَتَل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: «وما ذاك» ؟، قال: الرجل الذي ذكرتَ آنفًا أنه من أهل النار، فأعظَمَ الناسُ ذلك، فقلتُ: أنا لكم به، فخرجتُ في طلبه، ثم جُرح جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت؛ فوضع نصل سيفه في الأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: «إن الرجل لَيعملُ عمَلَ أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة» (رواه البخاري ومسلم).
فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فيما يبدو للناس» إشارة إلى أن الباطن بخلاف ذلك؛ فسوءُ النية تدرك صاحبَها فتحرفه عن الهدى إلى الضلال.
ومن أسباب الثبات على الحق وعدم الزيغ:
البعدُ عن أهل الزيغ والنفاق والكفر، وعدم مخالطتهم إلا للحاجة، مع أخْذ الحذر منهم؛ فربما استمالوا الشخص وحرفوه عن الهدى بمعسول كلامهم، ووعودهم له، وربما أغرَوْه بدنياهم وبريقها، وتسليط الأضواء عليه، وأطلقوا عليه ألفاظَ التبجيل والتعظيم، وهذه سُنة قديمة للقوم؛ {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73 - 75].
فلولا تثبيتُ الله لنبيِّه، وعصمته من شر الأشرار وكيد الفجار، لتسلَّط عليه الكفارُ، ونالوا منه بعض الذي يريدون، فحرفوه عن الهدى، فمن يأمن نفسه بعد ذلك حتى ولو كان عنده نصيب من العلم والدين؟!
ومن أسباب الثبات على الحق وعدم الزيغ:
الاعتدالُ في النظر إلى الرجال، وإنزالهم منازلَهم؛ فأعمال الرجال وأقوالهم - مهما بلغوا من العلم والفضل - تُوزن بالحق، وتطبَّق عليها النصوص الشرعية، فتُقبَل وتُردُّ وَفق موافقتها للنصوص ومخالفتها، وليس عند أهل السنة معصومٌ إلا الأنبياء، وما عداهم من الخلق فهم يصيبون ويخطئون، وكان السلف ينهَوْن عن تعظيم الرجال وتقليدهم، فمِن مقولتهم: إن كنتم لا بد مقتدين، فاقتدوا بالميت؛ فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة.
ولابن القيم كلام نفيس في هذا الباب، قال - رحمه الله - في "الفوائد" (1/ 100): فائدة جليلة: كلُّ من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبَّها، فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه، في خبره وإلزامه؛ لأن أحكام الربِّ - سبحانه - كثيرًا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل الرياسة والذين يتَّبعون الشبهات؛ فإنهم لا تتم لهم أغراضُهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرًا، فإذا كان العالم والحاكم محبَّينِ للرياسة، متبعَينِ للشهوات، لم يتمَّ لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيما إذا قامت له شبهة، فتتَّفق الشبهة والشهوة، ويثور الهوى؛ فيخفى الصواب، وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهرًا لا خفاء به، ولا شبهة فيه، أقدم على مخالفته، وقال: لي مخرج بالتوبة...إلى أن قال: يقولون على الله غير الحق، فيقولون: هذا حكمه وشرعه ودينه، وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك...فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون، وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه... وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين، مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمران، فإن اتِّباع الهوى يُعمى عين القلب؛ فلا يميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه؛ فيرى البدعةَ سُنةً، والسنةَ بدعةً.اهـ.
عباد الله:
أهل الثبات في الدنيا هم أهل الثبات في الآخرة؛ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
فهم أهل الثبات في وقت أحوج ما يكونون فيه للثبات، قد انقطعتْ عنهم حظوظُ الدنيا، وأقبلوا على الآخرة، فأهلُ الثبات في الدنيا هم أهل الثبات في القبر، فمن ثَبَتَ في الدنيا على الكتاب والسنة، ثبَّته الله في قبره عند السؤال؛ فعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم وسَلُوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل» رواه أبو داود (3221) بإسناد حسن.
وهنا تذكير بخطأ البعض حينما ينتهي من دفن الميت، تجد أهله مشغولين بتعليم القبر، غافلين عن الدعاء للميت في وقت هو بأمسِّ الحاجة للدعاء له بالتثبيت والمغفرة.
______________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان
- التصنيف:
- المصدر: