انحراف الصوفية في تفسير القرآن الكريم
لما ظهرت المذاهب الدينية تأثَّر التفسير بها إلى حد كبير؛ ليأخذ كلٌّ منهم ما يشهد لمذهبه، ولو بطريق إخضاع النص القرآني له، وتفسيره على موافقة رأيه وهواه، وتأويل ما يصادفه من ذلك تأويلًا لا ينافي مذهبه، ولا يعارض عقيدته
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله أجمعين؛ أما بعد:
فلما ظهرت المذاهب الدينية تأثَّر التفسير بها إلى حد كبير؛ ذلك لأن القرآن الكريم كان هو المرجع الأول الذي يقصد إليه أصحاب المذاهب المختلفة - من المسلمين - ليأخذ كلٌّ منهم ما يشهد لمذهبه، ولو بطريق إخضاع النص القرآني له، وتفسيره على موافقة رأيه وهواه، وتأويل ما يصادفه من ذلك تأويلًا لا ينافي مذهبه، ولا يعارض عقيدته[1].
ولقد استفحل الأمر إلى حد جعل أصحاب المذاهب والأهواء يتسعون في حماية مذاهبهم وأهوائهم، والترويج لها في غير محيطهم، بما أخرجوه للناس من تفاسيرَ حملوا فيها كلام الله سبحانه على وفق أهوائهم، ومقتضى نزعاتهم ونِحَلِهم، وكان للمتصوفة - كغيرهم من طوائف المسلمين - دراسات في القرآن الكريم، وكان لهم في تفسيره مؤلفات حوتها المكتبة الإسلامية، بعضها قديم وبعضها حديث، وكانت دراسات المتصوفة للقرآن، وشروطهم له عليها طابع التصوف، فظهر بوضوح أثر التصوف النظري الذي ينبني على مقدمات علمية في ذهن الصوفي أولًا، ثم يُنزِل القرآن عليها بعد ذلك[2].
كما ظهر بوضوح - أيضًا - أثر التصوف العملي الذي يرتكز على رياضة روحية، يأخذ بها الصوفي نفسه، حتى يصل إلى درجة تنكشف له فيها من سجف العبارات إشارات قدسية، وتنهل على قلبه من سحب الغيب معارف سبحانية، يشرح بها كتاب الله عز وجل.
وإذا ما ذهبنا نستعرض ما للقوم من تفسير صوفي نظري، وما لهم من تفسير إشعاري فيضي، وجدنا في هذا أو ذاك اتجاهًا منحرفًا عن النهج القويم لتفسير القرآن الكريم.
والتفسير الصوفي قد تأثر إلى حد كبير بأفكار الباطنية، واستخدم القرآن في تعقيب هدف خاص؛ وهو دعم الأُسس العرفانية والفلسفية، وفي الحقيقة أنَّهم لم يخدموا القرآن الكريم بشيء، وإنَّما خدموا آراءهم وأفكارهم من خلال تطبيق الآيات على آرائهم.
فالتفسير الصوفي شعبة من شُعب التفسير الباطني في قالب معين كما أشرنا إليه[3].
وهو ينقسم إلى: تفسير نظري، وفيضي.
أمَّا الأوَّل: فهو التفسير المبني على أُصول فلسفية ورثوها من أصحابها، فحاولوا تحميل نظرياتهم على القرآن الكريم.
وأمَّا التفسير الفيضي: فهو تأويل الآيات على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات رمزية تظهر لأرباب السلوك من غير دعم بحجة أو برهان.
وبعبارة أُخرى: التفسير الفيضي يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل بها إلى درجة تنهل على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف الإلهية.
وعلى كلِّ تقدير فتفاسيرهم من غير فرق بين النظري والفيضي مبنية على حمل القرآن على ما يعتقدون به من الأُصول والقواعد من دون حجة وبرهان.
تفسير التستري:
ولعلَّ أوَّل تفسير ظهر هو تفسير أبي محمد سهل بن عبدالله التستري (200 - 283ه)، وقد طُبع بمطبعة السعادة بمصر عام 1908هـ، جمعه أبو بكر محمد بن أحمد البلدي، فهو يفسِّر البسملة بالشكل الآتي:
الباء: بهاء الله، والسين: سناء الله، والميم: مجد الله، والله: هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها، وبين الألف واللام منه حرف مكنى، غيب من غيب إلى غيب، وسر من سر إلى سر[4].
ومنها ما ذكره في تفسير الآية 96 من سورة آل عمران: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96]؛ أول بيت وضع للناس بيت الله عز وجل بمكة، هذا هو الظاهر، وباطنها الرسول يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد من الناس[5].
من تفسير السلمي:
إن ثانيَ تفاسير الصوفية التي ظهرت إلى الوجود، هو تفسير أبي عبدالرحمن السلمي (330 - 412هـ) المسمى بـ(حقائق التفسير)، وكان شيخ الصوفية، ورائدهم بخراسان، وله اليد الطولى في التصوف.
قال في تفسير الآية: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66].
قال محمد بن الفضل: "اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها، أو اخرجوا من دياركم؛ أي: أخرِجوا حب الدنيا من قلوبكم، ما فعلوه إلا قليل منهم في العدد، كثير في المعاني، وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة"[6].
من تفسير بن عربي:
هو لأبي بكر محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبدالله الحاتمي الطائي الأندلسي المعروف بابن عربي (560 - 638هـ).
يقول في تفسير: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19، 20] بأن مرج البحرين هو بحر الهيولى الجسمانية الذي هو الملح الأجاج، وبحر الروح المجرد هو العذب الفرات، يلتقيان في الموجود الإنساني، وإن بين الهيولى الجسمانية والروح المجردة برزخًا هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الروح المجردة ولطافتها، ولا في كثرة الأجساد الهيولائية وكثافتها، ولكن مع ذلك لا يبغيان؛ أي: لا يتجاوز أحدهما حده فيغلب على الآخر بخاصيته، فلا الروح المجردة تجرد البدن، وتخرج به، وتجعله من جنسه، ولا البدن يجسد الروح ويجعله ماديًّا"[7].
يواصل ابن عربي توضيح عقيدته الباطلة؛ فيحرق معنى قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ} [طه: 95]، قائلًا: "يعني فيما صنعت من عدو لك إلى صورة العجل على الاختصاص - أي: لماذا خصص العجل فقط لكونه إلهًا والحال في هذه العقيدة أن كل شيء هو الله - ولذلك حرق موسى العجل حتى لا ينحصر الإله في شيء واحد"، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، ثم يستطرد ابن عربي قائلًا: "وقال له {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} [طه: 97]، فسمَّاه إلهًا بطريق التنبيه للتعليم أنه بعض المجال الإلهية[8].
فانظر كيف زعم أن قول موسى للسامري {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} [طه: 97] أن هذا اعتراف من موسى بألوهية العجل؛ لأنه بعض الأشياء التي يتجلى فيها الرب حسب زعم ابن عربي، سبحانك هذا بهتان عظيم، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا.
وليس من شك في أن التفسير الذي أقامه ابن عربي على نظرية وحدة الوجود لا يقبل بحال من الأحوال؛ لأنه هدم للدين أساسه[9].
ومثله ادعاه الجيلي لما لقي يوسف عليه السلام سأله قائلًا: سيدي، أسالك عن قولك: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
أي المملكتين تعني؟ وعن تأويل أي الأحاديث تكنِّي؟ قال: أردت المملكة الرحمانية المودعة في النكتة الإنسانية، وتأويل الأحاديث: الأمانات الدائرة في الألسنة الحيوانية ..."[10].
ومن ذلك أيضًا ما نُقل عن بعضهم أنه فسر قوله تعالى {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، فجعل {لَمَعَ} فعلًا ماضيًا بمعنى أضاء و {الْمُحْسِنِينَ} مفعوله[11].
ولا شك أن هذا التفسير وأمثاله إلحاد في آيات الله، وقائلوه منحرفون عن مواضعه، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
وجعلوا ما يسمونه الحقيقة أو علم الباطن هو الحاكم على الشريعة؛ يقول أبو طالب المكي: "علم الباطن حاكم الظاهر"[12].
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، قالوا: بقرة كل إنسان نفسه، والله أمركم بذبحها[13].
وقد تعدى قولهم بالباطن إلى تحريف القرآن، تحت ستار التفسير الإشاري أو الباطني؛ كما في تفسير قوله سبحانه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]؛ قالوا: ما نذهب من ولي لله نأتِ بخير منه أو مثله[14].
وفي الختام:
نكتفي بما ذكره الذهبي حول هذه التفاسير، وقال: نحن لا ننكر على ابن عربي أن ثم أفهامًا يلقيها الله في قلوب أصفيائه وأحبائه، ويخصهم بها دون غيرهم، على تفاوت بينهم في ذلك بمقدار ما بينهم من تفاوت في درجات السلوك ومراتب الوصول، كما لا ننكر عليه أن تكون هذه الأفهام تفسيرًا للقرآن وبيانًا لمراد الله من كلامه، ولكن بشرط:
أن تكون هذه الأفهام يمكن أن تدخل تحت مدلول اللفظ العربي القرآني، وأن يكون لها شاهد شرعي يؤيدها، أما أن تكون هذه الأفهام خارجةً عن مدلول اللفظ القرآني وليس لها من الشرع ما يؤيدها، فذلك ما لا يمكن أن نقبله على أنه تفسير للآية وبيان لمراد الله تعالى؛ لأن القرآن عربي قبل كل شيء كما قلنا، والله سبحانه وتعالى يقول في شأنه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3].
وحاشا لله أن يلغز في آياته أو يعمي على عباده طريق النظر في كتابه؛ وهو يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17][15].
كلمة الحق في التفسير النظري الفلسفي:
بعد هذه الأمثلة التي سقناها، نستطيع أن نقرر في صراحة واطمئنان أن التفسير الصوفي النظري تفسير يخرج بالقرآن عن هدفه الذي يرمي إليه؛ يقصد القرآن هدفًا معينًا بنصوصه وآياته، ويقصد الصوفي هدفًا آخر معينًا بأبحاثه ونظرياته، وقد يكون بين الهدفين تنافر وتضاد، فيأبى الصوفي إلا أن يحول القرآن عن هدفه ومقصده إلى ما يقصده هو ويرمي إليه، وغرضه بهذا كله: أن يروِّج لتصوفه على حساب القرآن الكريم، وأن يقيم أبحاثه ونظرياته على أساس من كتاب الله، وبهذا الصنيع يكون الصوفي قد خدم فلسفته الصوفية ولم يعمل للقرآن شيئًا، اللهم إلا هذا التأويل الذي كله شر على الدين، وإلحاد نص آيات الله[16].
[1] الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن، (ص: ٤٣).
[2] الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم، (ص: ٧٢).
[3] المناهج التفسيرية في العلوم القرآنية (ص: ١٢٥).
[4] تفسير التستري، (ص: ١٢).
[5] تفسير التستري، (ص: ٤).
[6] تفسير السلمي؛ (ص: ٤٩).
[7] تفسير ابن عربي: (2/ 280).
[8] فصوص الحكم لابن عربي، ص: ١٩٣، مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية، ص: ٢٧١.
[9] الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم، ص: ٧٥.
[10] المصادر العامة للتلقي عند الصوفية، (ص: ٢٩٩)، وانظر: الإنسان الكامل (٢/ ٦٨).
[11] الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم، (ص: ٨٢).
[12] مقالات الفرق (ص: ٤٢٦)، وانظر: قوت القلوب في معاملة المحبوب (١/ ٢٦٢).
[13] مقالات الفرق (ص: ٤٢٦)، وانظر: لطائف المنن (ص: ١٣٧).
[14] مقالات الفرق (ص: ٤٢٦)، انظر: لطائف المنن (ص: ٣٦).
[15] التفسير والمفسرون: (2/ 374).
[16] تفسير ابن عربي للقرآن حقيقته وخطره، د. محمد السيد حسين الذهبي.
______________________________________________
الكاتب: روضة محمد شويب
- التصنيف:
- المصدر: