هذا أبي
تخرجت أنا وإخوتي من مدرسته الجميلة...وأنعم بها من مدرسة ، عمودها صلاح الأب، وخيمتها كف الشر عن الخلق...فأنعم به من أب.
هذا أبي..
صديق المصحف...
يجلس عليه فلا تمر الليالي القصار حتى يختم ثم يعود.
يقبع عليه كما يقبع أحدنا اليوم على هاتفه، فلا يقوم من مقامه إلا وقد قرأ الثلاثة والخمسة أجزاء او أكثر وكان يختم كل ثلاثة أيام.
و كان قلبه معلقا بالمسجد.
يصلي الفجر ويظل فيه لشروق الشمس، ووقت مابين العشاءين( المغرب إلى لعشاء) مرابطا فيه لا يستوحش منه أبدا.
قبل ان تغلق المساجد بسبب كورونا.
وفي أواخر أيامه حبسه العذر عن المسجد_ آخر اسبوعين _ الا الجمعة، ولكن كان لا يفارق المصحف عفيف اللسان، طيب القلب، بعيد الشحناء،كثير الدعاء لمن يعرف ولمن لا يعرف. لا تتعبه النوافل، ولا تعطله عن الصالحات الآفات.
يحرص على الصلاة في اول وقتها مع السنن الموكدة، وصلاة الضحى يصليها ثمان ركعات، وقيامه بالليل ينبيك عنه جنبات منزلنا. بسيط الحياة لا يسمح لكدرها أن يلوث محيطه.
لا يحب مشاهدة الأفلام أو المباريات،بل كان يتابع ما ينفعه من برامج .
و كان رحمه الله بارا بوالديه حريصا على برهما حتى توفاهما الله، ولم يرد عنه أنه قال لأحدهما أو لكليهما أف...فكافأه الله بأربعة أبناء كلهم يتمنون أن يسمح لهم بتمريغ وجوههم في قدميه.
غذانا بالحلال ... ويرضى بالكفاف، ولا تغريه الملهيات، قانعا بما عنده، ولا يتطلع إلى ما عند الآخرين، وصبر على لاواء الدنيا فما أخذ منها مالا لا يحل له أخذه. أعطاه بعض ذوي اليسار مبلغا كبيرا ليقوم بتوزيعه على مستحقيه، فاستعظمت المبلغ، فقال لي: يا بني، هذا المال عندي مثل الجرائد، ولم يهوله كثرته، بل كان خازنا أمينا.
وذات مرة أعطاه آخر مبلغا، وقال له: أعطي ولديك(أنا، وإخي) منه مبلغ كذا وكذا، فشكره أبي وقال له: إنما أفعل ذلك، وابتغي الأجر من الله.
ونحن خدم لاخواننا الفقراء وذي الحاجة. كان عنده كنز قل أن يوجد عند أحد، إنه كنز القناعة!! له إخوة كرام (أعمامي) حفظهم الله- موسع عليهم في الدنيا، واموالهم عنده--- ويقولون له خذ منها ما شئت--- فما طمع فيها يوماً، وكانوا يجعلون له توكيلات عامة له في البنك ليتصرف كيفما شاء في مالهم، ويقولون خذ منها ان احتجت ما شئت ولا ترجع لنا في شىء منها. حتى ان احد أعمامي - حفظه الله- أعلم بعض أصحابه بفعله هذا، فتعجب صاحبه، وخشىي بصنيع عمي هذا ان يطمع أبي في ماله، فقال عمي لصاحبه: انا ائتمن أخي على مالي أكثر من نفسي.
وكان أبناء أعمامي_الصغار _حينما ينزلون مصر وكانوا يعيشون خارج مصر- يحبونه، ويحبون الجلوس معه،وكان يداعبهم، ويمازحهم، ويرفق بهم، ويتلطف معهم، فأحبوه حبا شديدا.
وكان حكيما في تصرفاته، بعيدا عن الخفة والطيش، رزينا، يقيس الأمور بموازين الحكمة، وينظر في العواقب والمآلات. وكان يسعى في قضاء حوائج الفقراء والمساكين، فكم فرج من كربة، وأزال من هم وغم، وقضى من ديون أثقلت أصحابها، وسعى لمريض وذى حاجة بماله او بمال غيره. ولله در القائل:
وخذ لك زادين من سيرة * ومن عمل صالح يدخر
وكن في الطريق عفيف الخطى * شريف السماع كريم النظر
وكن رجلا إذا أتوا بعده * يقولون مر وهذا الأثر.
وأحسب أن أبي -- رحمه الله -- له نصيب من هذه الأبيات بسيرته الحسنة، وأخلاقه الطيبة، واستقامة خطواته على طريق الله، وشريف سماعه فما كان يحب سماع الفحش والخنا ،بل كان يحب سماع القرآن، وكان يحفظ بصره؛ ويغضه عما لا يحل له. ومن عجيب مواقفه-- رحمه الله-- أني وأنا صبي في الخامسة عشرة أو-- أزيد بقليل-- من عمري تشاجرت مع صبي مثلي وهو جار لي، فذهب أبي يعتب على أهل هذا الصبي، فاستقبلته أم هذا الولد الذي تشاجرت معه بملابس لا ينبغي لبسها ، فاستدار أبي وغض بصره عنها، وما تكلم معها ولا طالب بحق.
وحدثني إخوة كرام يقولون لي: كنا نحب أن نرى وجه أبيك، أو أن يمر علينا في طريق فننظر إليه فإنه يذكرنا بالصالحين. وكان في عمله- رحمه الله- صاحب حشمة، واستقامة ظاهرة، فكان يؤذن للصلاة ويصلي بزملاء العمل، وكان لا يمازح إمرأة معه في العمل، والنسوة معه - أعني زميلاته- اللتي كن معه يعرفن ذلك منه، فكن يحفظن ماء وجوههن أن يراق إن مازحته إمراة منهن؛ فيتجنبن ذلك.
تخرجت أنا وإخوتي من مدرسته الجميلة...وأنعم بها من مدرسة ، عمودها صلاح الأب، وخيمتها كف الشر عن الخلق...فأنعم به من أب.
وأبي رحمه الله لم يكن منشغلا بالتواصل الاجتماعي التي تفني الأعمار... لكنني وجدت في نفسي حروفا أردت أن أخطها عنه برا به ووفاء له...عل أحدا من أصحابي أو أحبابه يقرؤها فيدعو له فأكون قد بررته.
رحمك الله يا أبي، وأدامك الله تاجا فوق رؤوسنا.. ورضي عنك.. وقبل منك. يارب فاجمعنا معا ونبينا.. في جنة تثني عيون الحسد. في جنة الفردوس فاكتبها لنا.. يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد.
- التصنيف: