كيف يتأسس مشروعنا الثقافي؟
عرف الفكر العربيُّ الحديث منذ مطلع ما عُرف بعصر النهضة - الذي يؤرَّخ له في العادة بحملة نابليون بونابرت على مصر سنة (1798م) - عدداً من المشروعات الحضاريَّة المختلفة.
عرف الفكر العربيُّ الحديث منذ مطلع ما عُرف بعصر النهضة - الذي يؤرَّخ له في العادة بحملة نابليون بونابرت على مصر سنة (1798م) - عدداً من المشروعات الحضاريَّة المختلفة. وهي مشروعاتٌ مختلفة المنازع والاتجاهات، طرحها أصحابُها في محاولة للنهوض بالأمَّة من كَبوتها المأساويَّة، واسترداد دورها الإيجابي الفاعل في عهود القوَّة والازدهار، عندما كانت تصنع الحضارة، وتُصدِّرها إلى العالم أجمع، فكانت مذكورة مَهيبة الجانب على مسرح التاريخ.
ولن نتوقَّف عند مشروعات ارتداديَّة دعت إلى الانسلاخ من فكر هذه الأمَّة وتراثها، وزيَّن لها الخَوَر النفسيُّ، والعبوديَّة للفكر الغربي، أن تراث المسلمين والعرب متخلِّفٌ بائد، وهو لا يصلح لنهضة حديثة تضع هذه الأمَّة في مَصافِّ الأمم المتحضِّرة الراقية.
ومن هذا القَبيل ما دعا إليه واحدٌ مثل "يوسف الخال" وأغلب أعضاء "مجلَّة الشعر اللبنانيَّة" التي أنشأها لهذا التوجُّه، فقد تنكَّرت هذه الطائفة للتُّراث العربي الإسلامي، وفرَّت منه للارتماء في أحضان التراثَين: الغربي المعاصر، والمتوسطي القديم، الذي سبق الحضارة الإسلاميَّة، وعدُّوا كلاً منهما مصدرَ الإلهام الحقيقي، معلنين انتهاء الدور الحضاريِّ العربيِّ وسقوطه وتخلُّفه[1].
وبدت حضارة الغرب الليبرالي هاجسَ هذا الفريق، فقد عدَّ الخال وطائفة من أتباعه حضارته عالميَّة إنسانيَّة، وأمعن في تنكُّره لهويَّة هذه الأمَّة وتراثها الفكري، إذ ردَّ العقل العربيَّ الإسلاميَّ إلى أصول إغريقيَّة، ملغياً – بنَزْوةِ هوى وحقدٍ دفينَين – حضارةَ أمَّة كاملة، بل منكراً أصالة هذه الحضارة وخصوصيَّتها.
ومن هذا الارتداد والانسلاخ ما دعا إليه واحد مثل "أدونيس" – الذي تذبذب بين عدَّة اتجاهات إيديولوجيَّة – من قطيعة مع التراث في مثل قوله: ((ما يسمِّيه التقليديُّون آفاقاً نسمِّيه قيوداً، ما يدعونه حقيقة ندعوه خطأ، ما يرونه مثالاً نراه انهياراً وتخلُّفاً.. إن عالمنا ليبدو من خلال المفاهيم التقليديَّة عالم زرائب ومستشفيات ومصحات..))[2].
ومن قبيل هذا ما دعا إليه "جلال صادق العظم" في موطن دفاعه عن" سلمان رشدي"، ونقد منتقديه وتجهيلهم، لأنهم لم يَقدِروا كتابه "آيات شيطانيَّة" حقَّ قدره فقال: ((حين أُمعن النظر في النتائج البعيدة المتضمَّنة في مواقع رشدي الأدبيَّة، وانتقاداته السياسيَّة، وسخريته الاجتماعيَّة، ومعارضته الدينيَّة، أستنتج أن العالم الإسلاميَّ بحاجة اليوم إلى حداثة العقل والعلم والتقدُّم والثورة بدلاً من أصالة الدِّين والشَّرع والتُّراث والرجعيَّة..))[3].
هكذا في إيهام ماكر خبيث بأن الشرع والدين متناقضان مع العقل والعلم. وهو كلام بائد ردَّه كثيرون، وفنَّدته دراسات علميَّة جادَّة.
لن نتوقف الآن عند أمثال هذه الدعوات التجديفيَّة الفاضحة التي رفضت تراثنا وقيمنا وتنكَّرت لهما، وعكست – على أقلِّ تقدير – شخصيَّة ناس من بني جلدتنا، ولكنهم منهزمون من الداخل، ساقطون في طَوق العبوديَّة للآخر، جاهلون أو متجاهلون أن العزَّة للإسلام ومُثُله وأهليه، كما قال تعالى: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}.
أقول لن نتوقفَ الآن عند هذا القَبيل من الدعوات، فلذلك موضعٌ آخرُ، ولكننا نتوقَّف عند تلك المقترحات التي دعت إلى إنشاء المشروع الحضاريِّ العربيِّ المعاصر بالاستناد إلى قاعدة "التخير والانتقاء".
وتبدو هذه القاعدة وجيهةً في إطارها العام، فلم يعد كلُّ شيء موروث يصلح لنا، ونحن في عالم معاصر، استجدَّ فيه الصالح والطالح، والخير والشرُّ، ولابدَّ لنا فيه كذلك من أن نأخذَ وندع، وأن تكون لنا معاييرُ في الأخذ والتَّرك.
في هذا الإطار العامِّ الذي أشرنا إليه قُدِّمت مشروعاتٌ ثقافيَّة كثيرة، وقد اتفق الجميع – إلا في النادر الشاذ – على تأسيس المشروع الحضاريِّ الثقافيِّ على طرفين لا غنى لأحدهما عن الآخر، وهما "التراث" و"المعاصرة" تجمعهما قاعدة: "الانتقاء" أو "الاصطفاء" من كلِّ هذين الطرفين معاً.
وقد ادَّعى كلُّ مشروع – وهو يصطفي من التراث ما يصطفيه – أنه يتوقَّف منه عند الجوانب الحيويَّة المشرقة التي ما تزال فاعلة مؤثِّرة في هذا العصر، وذلك للبناء عليها، واتخاذها فَرشاً أو مِهاداً تاريخياً، أو منطلقاً لتأسيس الثقافة العربيَّة المعاصرة التي تلبِّي حاجات الأمَّة ومتطلَّبات العصر..
ولا شك في صلاحيَّة هذا التخطيط العامِّ لأيِّ مشروع ثقافيٍّ عربيٍّ منشود، وذلك لأن إدراكَ العلاقة الإيجابيَّة بين الماضي والحاضر هو جزء من الوعي الحضاريِّ والتاريخيِّ للإنسان، وهذا الإدراك يتمثَّل في الإيمان بحتميَّة التواصل بين التراث والمعاصرة، من خلال النظر إلى الماضي نظرةً نقديَّة فاحصة تجتنب الوقوعَ في شَرَك أمرين اثنين، يشكِّل كلٌّ منهما خطراً داهماً:
- الأول: تقديس الماضي تقديساً مطلقاً.
- الثاني: نبذ الماضي نبذاً مطلقاً.
وإذا بدا هذا التخطيط العامُّ الذي نتحدَّث عنه سليماً، وهو في الوقت ذاته في موضع اتفاق الجميع؛ فلماذا إذن هذا التنافُر والتضارب بين المشروعات الثقافيَّة المقتَرحَة، بل لماذا هذا التصادُم والتضاد على نحو ما يتصادم الحقُّ والباطل، والأبيضُ والأسود؟
إن سرَّ هذا التصادم يكمُن في الطرف الثالث من أطراف معادلة المشروع الثقافيِّ العربيِّ المقترَح، وهو "الانتقاء" أو لنقُل تحديداً في "معايير الانتقاء" فإذا كان "الأخذ" و"الترك" من التراث والحديث مما لا ينازع فيه أحدٌ، فإن ما يؤخَذ وما يُترَك هو الذي يتنازع فيه الكثيرون، وذلك في غَيبة المعايير التي تضبط المأخوذ والمتروك، وتحدِّد ما يسمِّيه الجميع ((الجوانب الحيويَّة الفاعلة)) من التراث أو من المعاصرة.
إن غَيبة هذه المعايير هي التي تجعل واحداً من أصحاب هذه المشروعات الثقافية – أدونيس – يقدِّم أدب الخلاعة والمجون أنموذجاً لهذه الجوانب المشرقة الحيويَّة، فيقول بصراحة: "هناك شعر أعدُّه عظيماً، سمَّاه بعض النقَّاد للسُّخرية والتنقيص من قيمته شعرَ التهتُّك والخلاعة والمجون، كشعر ابن الحجَّاج، وابن سُكَّرة، إنه من أهمِّ الشعر الذي كُتب في اللغة العربيَّة ومع ذلك فهو مكبوت ومقموع.. "[4].
ونقول: لن يتاحَ لأيِّ مشروع ثقافيٍّ عربيٍّ أن يأخذ طريقه إلى النور ما لم يتَّفق القوم على المعايير التي ينهض عليها، وهي معاييرُ لابدَّ أن تُستمدَّ من عقيدة الأمَّة، ولغتها، وقيمتها الفكريَّة والشعوريَّة، حتى تتجسَّد فيه خصوصيَّة هذا المشروع النابعةُ من خصوصيَّة الأمة التي يُراد له التعبير عنها، وتمثيلها.
ومثلما أن هذه المعايير هي التي تحكم التعاملَ مع التراث، فإنها ينبغي أن تحكم التعاملَ مع المعاصرة كذلك، حتى يُجسِّد المشروع الثقافيُّ المنشود ثقافةَ الحاضر العربيَّة الإسلاميَّة، الناهضة على دِعامتَين، هما:
- روح الأمَّة. وخلاصة تجربتها، ونظرتها إلى الكون والحياة والإنسان.
- روح الحاضر، وتلبية احتياجات العصر.
وفي إطار هذه المعايير قد توجد قراءات متعدِّدة، ووجهات نظر مختلفة، تُغني المشروع المنشود وتثريه، ولكنها لا تقف منه موقف الضدِّ من الضد..
إن اتكاء أيِّ مشروع حضاريٍّ يُقدَّم إلينا على فكر غربيٍّ، أو على إيديولوجيَّة علمانيَّة تستبعد الدين والعقيدة وذَوق الأمَّة وعاداتها وتقاليدها الأصيلة هو مشروعٌ مرفوض محكومٌ عليه بالإخفاق، لأنه ليس مشروعاً عربياً إسلامياً على أقل تقدير، بل هو مشروعٌ هجين من صُنع غيرنا..
لقد سمَّى الناقد الكاثوليكيُّ الحداثيُّ إيليوت إدراكَ المفكر - ليس لماضويَّة الماضي فحسب، بل لحضور هذا الماضي في ضميره - بـ (الحسِّ التاريخيِّ). والمشروعُ الحضاريُّ العربيُّ المعاصر الذي نَنشدُه مطالب باستحضار هذا الحسِّ، وإدراك المعايير التي تشكِّله، وهي معاييرُ ديناميكيَّة، ولكنها لا تفرِّط بثوابتَ فكريَّةٍ وعَقَديَّةٍ تمثِّل كيان الأمَّة وشخصيَّتها وتفرُّدها.
ــــــــــــــــــــ
[1] انظر كتاب "قضايا وشهادات: الحداثة: 2" مؤسسة عيبال، قبرص، مقال "محمد جمال باروت"، ص254-256.
[2] انظر "فن الشعر" لأدونيس: ص240.
[3] انظر مجلة الناقد، العدد: 54، كانون الأول: 1992م، ص37.
[4] انظر كتاب "في قضايا الشعر العربي المعاصر" نشر المنظمة العربية للتربية والثقافة، تونس: 1988م، ص159.
______________________________________________
الكاتب: د. وليد قصاب
- التصنيف: