عندما يتحول الإنسان إلى طبل
الإنسانُ الطبلُ إمعةٌ لا مبدأَ يعيشُ عليه، ولا عِزةَ يفتخرُ بها، ولا غايةَ يسعى إليها، داءٌ لا بُرْءَ منه وسِقامٌ لا شفاءَ منه إلا إذا دق الموتُ بابَه أو رمى إليه أسبابَه.
مصطلح التطبيل مأخوذٌ من صورةٍ حسيةٍ واقعيةٍ، حيثُ يحتضنُ الطبالُ طبلًا، ويبدأ بتنغيمِ طرقاتِه ودقاتِه بمطرقتيه ليستثيرَ الممدوحَ (المُطبل له)، فيطربَه ويهز فيه نشوةَ التباهي بسَنَن ثُلةٍ من السابقين وثُلةٍ من المحيطين، فـ (ينقط) الطبالَ بالمال ويحبوه بالنوال، وأما (الطبالُ) فيتمايلُ ويترنحُ بجذْعه يَمْنةً ويَسْرةً يستجمعُ قواه في أناةٍ حذِرة، ثم في حركةٍ فُجائيةٍ يقفزُ كالملسوعِ بين الطرقةِ والدقةِ سُكْرًا وسُرورًا، طرَبًا بمزمار المال وخَتْلًا لصاحب الصولة الحاتمية القصيرة.
هذا المشهدُ أصبحَ يُكنى به عن المداهنة والنفاق والمراء وأخذ الشيء بسيف الحياء في الواقع الاجتماعي، فيُقال: طَبل له...
والمُطبلون ... كما يُصَور المنقطُ - في الغالبِ - سواء أكان راغبًا أم راهبًا كضحيةِ مكْرٍ وختلٍ، أو يمثل صورةً من صورِ التباهي الأجوف.
في المشهد الاجتماعي يحضرُ الطبل أيضًا (ثالثُ الأثافي)، وهو الذي به يشتد الصراع وإليه ينتهي الحل، فالطبلُ المخبوطُ في جنبيه والمضروبُ على صفحتيه يُكْنى به عن حالةٍ بشريةٍ لم تلقَ الاهتمامَ والانتباهَ المطلوبَ مع كَثرةِ انتشارِها، وخُطورةِ آثارِها.
والإنسانُ الطبلُ يمثل حالةً أَدْنى وأَنْكى وأمَر وأشَر من الإنسانِ المُطبلِ أو المُطبلِ له، حيثُ يتحول المُصابُ بحالة التطبل (التشيؤ الطبلي) إلى طبلٍ فارغٍ يُصدرُ الأصواتِ والنغماتِ حسبَ الطرقاتِ والضرباتِ.
وعندما يتحولُ الإنسانُ إلى طَبلٍ يعني أنْ يَفقدَ معنى إنسانيتِه، ومعنى وجودِه، ومعنى كرامتِه، فيفقد الإحساسَ بالخطأِ والصوابِ، أو بالثوابِ والعِقابِ، ويخلو من أي معنىً رزيلٍ أو نبيلٍ، بل يفقدُ النيةَ والإرادةَ لفعلِ الخيرِ أو الشر، ويتحولُ إلى أداةٍ بيد مَنْ يستعملُه خيرًا كانَ أو شريرًا.
الإنسانُ الطبلُ يفقدُ حاسةَ التمييز، فلا يُنكرُ مُنكرًا ولا يَعرفُ معروفًا، ولا يُفرقُ بين طيبٍ أو خبيثٍ، ولا بين نفيسٍ أو رخيصٍ.
الإنسانُ الطبلُ متبلدُ المشاعرِ، فاقدُ الحساسيةِ الشعوريةِ، له قلبٌ، ولكنْ لا يفقهُ به، وله عينٌ، ولكنْ لا يُبصرُ بها، وله آذانٌ، ولكنْ لا يسمعُ بها، أبْكمُ أبْهمُ أصَم، مِقودُه بيد مولاه، يوجهُه حسبَ هواه.
الإنسانُ الطبلُ قد يكون جنديًا يقتلُ الآلافَ بإشارةٍ من قائدِه دونَ أن يرِف له جَفْن، فقد تخلى عن إرادتِه لسيدِهِ، قانعًا بعبوديتِهِ، مستأنسًا بأصفادِهِ.
الإنسانُ الطبلُ قد يكونُ مُتعلمًا مُلما بفُنونِ الكلام؛ فيتفاصحُ بأفخمِ الكلمات، يتجشمُ عناءَ تبيينِ الأمرِ وفقَ هوى آسِرِهِ، وآسِروه كُثُر.
الإنسانُ الطبلُ قد يكونُ مسؤولًا كبيرًا، أو مديرًا ناهيًا وآمرًا، وقد ينبري له من ينفخُ في روعِه هواءَ التعاظمِ والتجبرِ الخاوي، فينافقُه ويقودُه من تحتُ حتى ليظن نفسَه عنترةَ، أو كسرى، وحقيقتُه أنه دميةٌ بخيوطٍ في مسرحِ الأراجوز.
الإنسانُ الطبلُ قد يكونُ موظفًا في دائرة، ينفذُ الأوامرَ كآلةٍ، فيتحولُ جاسوسًا (بالجيم) يتجسسُ على زملائه إرضاءً لأوليائه، ولربما صار حاسوسًا (بالحاء) عفيفًا شريفًا يبث الخيرَ إنْ كُلفَ بذلك.
الإنسانُ الطبلُ قد يصبحُ والدًا بحُكْمِ قوانينِ الحياةِ وعلمِ الأحياء، يتخذُ من المنزلِ مهجعًا يلجأُ إليه للسبات، أو مَطعمًا ليقتات، لا أدبَ يُستفادُ منه، ولا كَنفَ يُستراحُ إليه، شر مستطيرٌ، وداءٌ وبيلٌ، لا يهنأ للأهلِ منه عيشٌ، ولا تطيبُ لهم حياةٌ: هم في غم، ونَصَبٌ في وَصَبٍ، يرجو الأبناءُ أن يكونوا يتامى، وتدعو الزوجةُ أن تكونَ في عِدادِ الأيامى.
الإنسانُ الطبلُ خليطٌ من الجُبنِ والبخلِ وانقطاعِ الأمل، يعيشُ خاضعًا خانعًا ومَقودًا متضرعًا، عُرضةُ للقاذفِ والحاذفِ.
الإنسانُ الطبلُ إمعةٌ لا مبدأَ يعيشُ عليه، ولا عِزةَ يفتخرُ بها، ولا غايةَ يسعى إليها، داءٌ لا بُرْءَ منه وسِقامٌ لا شفاءَ منه إلا إذا دق الموتُ بابَه أو رمى إليه أسبابَه.
يعيش طَبلًا مَلْكومًا مَكْدومًا، ويموتُ طَبلًا مَخْرومًا مَثْلومًا، أَعاذنا اللهُ وإياكم من تِلْكم الحالِ وذَلكم المآلِ.
________________________________________
الكاتب: محمود سعيد عيسى
- التصنيف:
- المصدر: