جسم الإنسان .. إعجاز وبيان

منذ 2021-11-01

إنَّ خلقَ الإنسانِ على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة، الكاملة الشكل والوظيفة - أمرٌ يستحق التدبرَ الطويل، والشكرَ العميق، والأدب الجمَّ، والحب لربه الكريم، الذي أكرمه بهذه الخلقة؛ تَفضُّلاً منه، ورعاية ومِنَّة، فقد كان قادرًا أن يُرَكِّبَه في أيَّة صورة أخرى يشاؤها، فاختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة..

يقول تعالى في سورة الانفطار: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 - 8].

 

يتحدَّث صاحب الظلال - رحمه الله تعالى - عن هذه الآية، فيقول: "إنَّه خطابٌ يهزُّ كلَّ ذرة في كيان الإنسان حين تستيقظُ إنسانيته، ويبلغ من القلب شغافه وأعماقه، وربه الكريم يعاتبه هذا العتابَ الجليل، ويذكره بهذا الجميل، بينما هو سادر في التقصير، سيئ الأدب في حقِّ مولاه الذي خلقه فسواه فعدله.

 

إنَّ خلقَ الإنسانِ على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة، الكاملة الشكل والوظيفة - أمرٌ يستحق التدبرَ الطويل، والشكرَ العميق، والأدب الجمَّ، والحب لربه الكريم، الذي أكرمه بهذه الخلقة؛ تَفضُّلاً منه، ورعاية ومِنَّة، فقد كان قادرًا أن يُرَكِّبَه في أيَّة صورة أخرى يشاؤها، فاختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة، وإنَّ الإنسان لمخلوق جميل التكوين، سوي الخلقة، معتدل التصميم، وإن عجائب الإبداع في خلقه لأَضْخَم من إدراكه هو، وأعجب من كل ما يراه حوله.

 

وإنَّ الجمالَ والسواء والاعتدال لتبدو في تكوينه الجسدي، وفي تكوينه العقلي، وفي تكوينه الرُّوحي سواء، وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء.

 

وهناك مؤلفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنساني العضوي ودِقَّتِه وإحكامه، وليس هنا مَجال التوسُّع الكامل في عَرْضِ عجائب هذا التكوين، ولكنَّنا نكتفي بالإشارةِ إلى بعضها".

 

وهناك قبسات من الفصلين الثالث والرابع من كتاب (أفلا تتفكرون) للشيخ: عبدالعزيز بن ناصر الجليل، أعتقد أنها تفي بإيصال الفكرة المنشودة.

 

ويقول صاحبُ الظلال أيضًا: "فهذه الأجهزةُ العامَّةُ لتكوينِ الإنسان الجسدي: الجهاز العظمي، والجهاز العضلي، والجهاز الجلدي، والجهاز الهضمي، والجهاز الدَّموي، والجهاز التنفسي، والجهاز التناسلي، والجهاز الليمفاوي، والجهاز العصبي، والجهاز البولي، وأجهزة الذوق والشم والسمع والبصر... كلٌّ منها عجيبة لا تقاسُ عليها كل العجائب الصناعية التي يقف الإنسان مشدوهًا أمامها، وينسى عجائبَ ذاته، وهي أضخمُ وأعمقُ وأدقُّ بما لا يقاس!".

 

ذكر بعض نعم الله - عزَّ وجلَّ - في خلق الإنسان وتركيبه:

انظر إلى النطفةِ بعَيْنِ البصيرة، وهي قطرةٌ من ماء مَهين ضعيف مستقذر، لو مرَّت بِها ساعةٌ من الزمان، فسدت وأنتنت، كيف استخرجها ربُّ الأرباب العليم القدير من بين الصُّلب والترائب منقادةً لقدرته، مُطيعة لمشيئته، مذلَّلة الانقياد على ضيق طُرُقها واختلاف مجاريها، إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها؟! وكيف جمع سبحانه بين الذَّكَر والأُنثى، وألقى المحبَّة بينهما؟! وكيف قدَّر اجتماعَ ذَيْنِكَ الماءين مع بُعْد كلٍّ منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماقِ العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد، جعل لهما قرارًا مَكينًا لا يناله هواءٌ يُفسِده، ولا برد يجمِّده، ولا عارِض يصل إليه، ولا آفة تتسلَّط عليه؟! ثم قلب تلك النطفة البيضاء المُشرَبَة علقة حمراء تضربُ إلى سواد، ثم جعلها مُضغةَ لَحم مُخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعلها عظامًا مجرَّدة لا كسوةَ عليها، مُبايِنة للمضغة في شكلها، وهَيْئَتِها، وقَدْرِها، وملمسها، ولونها.

 

وانظر كيف قَسَّم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب، والعظام، والعروق، والأوتار، واليابس، والليِّن وبين ذلك؟ ثم كيف ربط بعضَها ببعض أقوى رباط وأشدَّه وأبعدَه عن الانحلال؟ وكيف كساها لَحمًا ركَّبه عليها، وجعله وعاءً لها، وغشاءً وحافِظًا، وجعلها حاملةً له مُقيمةً له؟! فاللحم قائم بها، وهي مَحفوظة به، وكيف صوَّرها فأحسن صورَها، وشقَّ لها السمع، والبصر، والفم، والأنف، وسائر المنافذ، ومدَّ اليدين والرجلين، وبسطهما، وقسم رُؤوسَهما بالأصابع، ثم قَسَّم الأصابع بالأنامل، ورَكَّب الأعضاء الباطنة من القلب، والمعدة، والكبد، والطحال، والرئة، والرحم، والمثانة، والأمعاء، كلّ واحد منها له قَدْر يخصُّه، ومنفعةٌ تخصّه؟!

 

ثم انظر الحكمةَ البالغة في تركيب العظام قوامًا للبدن وعِمادًا له، وكيف قدَّرها ربُّها وخالِقُها بتقاديرَ مختلفة، وأشكالٍ مُختلفة؟ فمنها الصَّغير والكبير، والطويل والقصير، والمنحني والمستدير، والدقيق والعريض، والمصمت والمجوَّف، وكيف ركَّب بعضَها في بعض؟! فمنها ما تركيبه تركيب الذَّكَر في الأُنثى، ومنها ما تركيبه تركيبُ اتصالٍ فقط، وكيف اختلفت أشكالُها باختلاف منافعها، كالأضراس فإنَّها لَمَّا كانت آلةً للطَّحن جُعِلَت عريضة، ولَمَّا كانت الأسنان آلة للقطع، جُعِلت مستدقَّة محتدَّة؟

 

ولَمَّا كان الإنسان مُحتاجًا إلى الحركة بجُملة بدنه، وببعض أعضائه؛ للتردُّد في حاجته، لَم يجعل عظامه عظمًا واحدًا، بل عظامًا متعدِّدة، وجعل بينها مفاصلَ؛ حَتَّى تتيسَّر بها الحركة، وكان قدرُ كلِّ واحدٍ منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه، وكيف شدَّ أسْر تلك المفاصل والأعضاء، ورَبَطَ بعضها ببعض بأوتارٍ ورِباطات أنبتها من أحدِ طرفي العظم، وألصقَ أحدَ طرفي العظم بالطرف الآخر كالرِّباط له، ثم جعل في أحد طرفي العظم زوائِدَ خارجةً عنه، وفي الآخر نُقَرًا غائصةً فيه مُوافقة لشكل تلك الزَّوائد؛ لتدخل فيها، وتنطبق عليها، فإذا أراد العبدُ أن يُحرِّك جزءًا من بدنه، لم يَمتنع عليه، ولولا المفاصل، لتعذَّر ذلك عليه.

 

وجاء في تفسير "في ظلال القرآن": "تقول مَجلة العلوم الإنجليزية: إنَّ يدَ الإنسان في مُقدمة العجائب الطبيعية الفذَّة، وإنَّه من الصَّعب جدًّا - بل من المستحيل - أن تُبْتكرَ آلة تضارع اليد البشرية من حيث البساطة، والقُدرة، وسرعة التكيُّف، فحينما تريد قراءةَ كتاب، تتناوله بيدك، ثُمَّ تثبته في الوضع الملائم للقراءة، وهذه اليد هي التي تُصَحِّح وضعَه تلقائيًّا، وحينما تقلب إحدى صفحاته، تضع أصابِعَك تحت الورقة، وتضغط عليها بالدرجة التي تقلبها بها، ثم يزول الضغط بقلب الورقة، واليد تُمْسِك القلم وتكتب به، وتستعمل كل الآلات التي تلزم الإنسان، من ملعقة، إلى سكين، إلى آلة الكتابة، وتفتح النوافذ وتغلقها، وتحمل كلَّ ما يريده الإنسان، واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة، وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما"؛ عن كتاب "الله والعلم الحديث" عبدالرزاق نوفل.

 

وتأمَّل كيفيةَ خلق الرأس، وكثرةَ ما فيه من العظام، حتى قيل: إنَّها خمس وخمسون عظمة مختلفة الأشكال، والمقادير، والمنافع، وكيف ركَّبه - سبحانه وتعالى - على البدن، وجعله عاليًا علوَّ الراكب على مركوبه؟ ولَمَّا كان عاليًا على البدن، جعل فيه الحواسَّ الخمس، وآلات الإدراك كلها من السمع، والبصر، والشمِّ، والذوق، واللَّمس، وجعل حاسَّة البصر في مقدِّمه؛ ليكونَ كالطليعة والحرس والكاشف للبدن، وركَّب كلَّ عين من سبع طبقات، لكل طبقةٍ وَصْفٌ مَخصوص، ومِقْدار مخصوص، ومنفعة مخصوصة، لو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع أو زالت عن هيئتها وموضعها، لتعطَّلت العين عن الإبصار.

 

ثم أَرْكز - سبحانه - داخلَ تلك الطبقات السبع خلقًا عجيبًا، وهو إنسان العين - بقدر العدسة - يُبصِر به ما بين المشرق والمغرب والأرض والسماء، وجعله من العين بمنزلةِ القَلْب من الأعضاء، فهو ملكها وتلك الطبقات والأجفان والأهداب خَدَم له وحِجاب وحُرَّاس، فتبارك الله أحسن الخالقين!

 

فانظر كيف حسَّن شكلَ العينين وهيئتهما ومقدارهما؟ ثم جَمَّلَهما بالجفنين غطاءً لهما وسترًا، وحِفظًا وزينًة، فهما يتلقيان عن العين الأذى والقذى والغبار، ويكنَّانِهما من البَرد المؤذي، والحرِّ المؤذي، ثم غرس في أطراف تلك الأجفان الأهدابَ؛ جَمالاً وزِينًة، ولمنافعَ أُخَر وراء الجمال والزينة، ثم أودعهما ذلك النور الباصِر، والضوء الباهر الذي يخرق ما بين السماء والأرض، ثم يخرق السماء مُجاوزًا لرؤية ما فوقها من الكواكب، وقد أودع - سبحانه - هذا السرَّ العجيب في هذا المقدارِ الصغير؛ بحيث تنطبع فيه صورةُ السموات مع اتِّساع أكنافها، وتباعُد أقطارها.

 

وشقَّ له السمع، وخلق الأُذُن أحسن خلقة وأبلغها في حصول المقصود منها، ثُمَّ اقتضت حكمةُ الربِّ الخالق - سبحانه - أنْ جَعل ماءَ الأُذن مُرًّا في غاية المرارة، فلا يُجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلاً إلى باطن الأُذُن، بل إذا وصل إليه أعمل الحيلة في رجوعه.

 

"وإنَّ جزءًا من أذن الإنسان (الأذن الوسطى) هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنية (قوس) دقيقة معقدة، متدرجة بنظام بالغ في الحجم والشكل، ويُمكن القول بأنَّ هذه الحنِيَّات تشبه آلة موسيقية، ويبدو أنَّها مُعَدَّة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ بشكلٍ ما كُلَّ وَقْعِ صوتٍ أو ضجة، من قصف الرَّعد إلى حفيف الشجر"؛ عن كتاب "العلم يدعو إلى الإيمان".

 

وجعل ماء العينين ملحًا ليحفظها، فإنَّها شحمة قابلة للفساد، فكانت ملوحةُ مائها صيانةً لها وحِفظًا، وجعل ماء الفم عذبًا حُلوًا؛ ليُدرك به طعوم الأشياء على ما هي عليه.

 

ونَصَب - سبحانه - قصبة الأنف في الوجه، فأحسن شكلَه وهيئتَه ووضعه، وفتح فيه المِنخَرين، وحجز بينهما بحاجز، وأودع فيهما حاسَّة الشمِّ التي تُدرَك بها أنواعُ الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارَّة، وليستنشق به الهواء، فيوصله إلى القلب، فيتروَّح به ويتغذَّى به، وكان وجود أنفين في الوجه شيئًا ظاهرًا، فنصب فيه أنفًا واحدًا، وجعل فيه منفذين حجز بينهما بحاجز يجري مجرى تعدُّد العينين والأُذنين في المنفعة وهو واحد، فتبارك الله ربُّ العالمين وأحسنُ الخالقين!

 

وشقَّ - سبحانه - للعبد الفم في أحسن موضع وأليقه به، وأودَع فيه من المنافع وآلاتِ الذوق والكلام، وآلات الطحن والقطع - ما تَبْهَرُ العقولَ عجائبُه؛ فأودعه اللسان الذي هو إحدى آياته الدَّالة عليه، وجعله ترجمانًا لملك الأعضاء مبيِّنًا مؤدِّيًا عنه، كما جعل الأُذن رَسولاً مؤدِّيًا مُبلِّغًا إليه، فهي رسوله وبريده الذي يؤدِّي إليه الأخبار، واللسان بريده ورسوله الذي يؤدِّي عنه ما يريد.

 

واقتضت حكمته - سبحانه - أنْ جعل هذا الرسولَ مَصونًا مَحفوظًا مستورًا غير بارز مكشوف، كالأُذُن والعين والأنف؛ لأنَّ تلك الأعضاء لَمَّا كانت تؤدِّي من الخارج إليها جعلت بارزةً ظاهرة، ولَمَّا كان اللسانُ مُؤدِّيًا منه إلى الخارج جعل له سِترًا مصونًا؛ لعدم الفائدة في إبرازه؛ لأنه لا يأخذ من الخارج إلى القلب، كذلك لأنه لَمَّا كان أشرف الأعضاء بعد القلب، ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره، ضُرِبَ عليه سُرادِقٌ يستره ويصونه، وجُعِلَ في ذلك السرادقِ كالقلب في الصدر، فإنه كذلك من ألطف الأعضاء وألينها وأشدِّها رطوبةً، وهو لا يتصرَّف إلاَّ بواسطة الرطوبة المحيطة به، فلو كان بارزًا، صار عُرضةً للحرارة واليبوسة والنشاف المانع له من التصرُّف، ولغير ذلك من الحِكَم والفوائد.

 

ثم زيَّن - سبحانه - الفم بما فيه من الأسنان التي هي جمالٌ له وزينة، وبهما قوام العبد وغذاؤه، وجعل بعضها رحًى للطحن، وبعضها آلةً للقطع، فأحكم أُصولها، وحدَّد رؤوسَها، وبيَّض لونها، ورتَّب صفوفها متساوية الرؤوس متناسقة الترتيب، كأنها الدُّر المنظوم بياضًا وصفاءً وحُسْنًا، وأحاط - سبحانه - على ذلك حائطين، وأودعهما من المنافع والحِكَم ما أودعهما، وهما الشفتان، فحسن لونهما وشكلهما ووضعهما وهَيْئَتَهما، وجعلهما غطاءً للفم وطبقًا له، وجعلهما إتْمامًا لمخارج حروف الكلام ونِهاية له، كما جعل أقصى الحلق بدايةً له، واللسان وما جاوره وسطًا؛ ولهذا كان أكثرُ العمل فيها له؛ إذ هو الواسطة، واقتضت حكمته أن جعل الشَّفتين لَحمًا صِرفًا لا عظمَ فيه ولا عصب؛ ليتمكَّن بهما من مصِّ الشراب، ويسهل عليه فتحهما وطبقهما، وخصَّ الفكَّ الأسفل بالتحريك؛ لأنَّ تَحريكَ الأخفِّ أحسن، ولأنه يشتمل على الأعضاء الشريفة، فلم يخاطر بها في الحركة.

 

وخلق - سبحانه - الحناجر مُختلفة الأشكال في الضيق والسَّعة، والخشونة والملاسة، والصلابة واللِّين، والطول والقصر، فاختلفت بذلك الأصواتُ أعظمَ اختلاف، ولا يكاد يشتبه صوتان إلاَّ نادرًا؛ ولهذا كان الصحيح قَبول شهادة الأعمى؛ لتمييزه بين الأشخاص بأصواتهم، كما يُميِّز البصير بينهم بصُورِهم، والاشتباه العارض بين الأصوات، كالاشتباه العارض بين الصور.

 

وزيَّن - سبحانه - الرأس بالشعر، وجعله لباسًا له؛ لاحتياجه إليه، وزيَّن الوجه بما أنبت فيه من الشعور المختلفة الأشكال والمقادير، فزَيَّنه بالحاجبين، وجعلهما وقايةً لما يتحدَّر من بشرة الرأس إلى العينين، وقوَّسهما، وأحسن خطَّهما، وزيَّن أجفان العينين بالأهداب، وزيَّن الوجه أيضًا باللحية، وجعلها كمالاً ووقارًا ومهابًة للرجل، وزيَّن الشفتين بما أنبت فوقهما من الشارب، وتَحتهما من العنفقة.

 

ثم انظر كيف جعل الرقبة مركبًا للرأس، وركَّبها من سبع خرزات مجوَّفات مُستديرات، ثم طبَّق بعضها على بعض، وركَّب كل خرزة تركيبًا مُحكَمًا متقنًا، حتى صارت كأنَّها خرزة واحدة، ثم ركَّب الرقبة على الظهر والصدر، ثم ركَّب الظهر من أعلاه إلى مُنتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة مركَّبة بعضها في بعض؛ هي مجمع أضلاعه التي تُمسكها أن تنحلَّ وتنفصل، ثم وصل تلك العظام بعضها ببعض، فوصل عظام الظهر بعظام الصدر، وعظام الكتفين بعظام العضدين، والعضدين بالذراعين، والذراعين بالكفِّ والأصابع؟!

 

وانظر كيف كسا العظامَ العريضةَ كعظام الظهر والرأس كسوةً من اللحم تُناسبها، والعظام الدقيقة كسوة تناسبها كالأصابع، والمتوسطة كذلك كعظام الذراعين والعضدين، فهو مركَّب على ثلاثمائة وستين عظمًا: مائتان وثمانية وأربعون من المفاصل، وباقيها صغار حُشِيَت خلال المفاصل، فلو زادت عظمًا واحدًا، لكان مضرَّة على الإنسان يحتاج إلى قلعه، ولو نقصت عظمًا واحدًا كان نقصانًا يَحتاج إلى جبر، فالطبيب ينظر في هذه العظام وكيفيةِ تركيبها؛ ليعرفَ وجه العلاج في جبرها، والعارف ينظر فيها؛ ليستدلَّ بها على عَظَمَةِ باريها وخالقها، وحكمته وعلمه ولطفه، وكم بين النظرين!

 

ثم إنه - سبحانه - ربط تلك الأعضاءَ والأجزاء بالرِّباطات، فشَدَّ بها أسْرَها، وجعلها كالأوتار تُمسكها وتحفظها، حتى بلغ عددها خمسمائة وتسعة وعشرين رباطًا، وهي مختلفة في الغلظة والدقَّة، والطول والقصر، والاستقامة والانحناء، بحسب اختلاف مواضعها ومَحالِّها، فجعل منها أربعةً وعشرين رباطًا آلةً لتحريك العين وفتحها وضمِّها وإبصارها، لو نقص منها رباطٌ واحد، اختلَّ أمر العين، وهكذا لكل عضو من الأعضاء رباطات هي له كالآلات التي بها يتحرَّك ويتصرَّف ويفعل، كل ذلك صنع الربِّ الحكيم، وتقدير العزيز العليم في قطرة ماء مَهين، فويل للمكذِّبين، وبُعدًا للجاحدين.

 

ومن عجائب خلقه أنَّه جعل في الرأس ثلاثَ خزائن نافذًا بعضُها إلى بعض: خزانة في مقدمه، وخزانة في وسطه، وخزانة في آخره، وأودع تلك الخزائنَ من أسرارِه ما أودعها من الذِّكر والفكر والعقل.

 

ومن عجائب خلقه ما فيه من الأمور الباطنة التي لا تشاهد، كالقلب، والكبد، والطحال، والرِّئة، والأمعاء، والمثانة، وسائر ما في بطنه من الآلات العجيبة والقوى المتعددة المختلفة المنافع.

 

فأمَّا القلب، فهو الملك المستعمل لجميع آلاتِ البدن والمستخدم لها، فهو مَحفوف بها، محشود مخدوم مستقر في الوسط، وهو أشرفُ أعضاء البدن، وبه قوام الحياة، وهو منبع الروح الحيواني والحرارة الغريزية، وهو معدن العقل، والعلم، والحلم، والشجاعة، والكرم، والصبر، والاحتمال، والحبِّ، والإرادة، والرضا، والغضب، وسائر صفات الكمال، فجميع الأعضاء الظاهرة والباطنة وقُواها إنَّما هي جند من أجناد القلب.

 

فإن العينَ طليعته ورائده الذي يكشف له المرئِيَّات، فإنْ رأت شيئًا أدَّته إليه، ولشِدَّة الارتباط، الذي بينها وبينه إذا استقر فيه شيء، ظهر فيها، فهي مرآته المترجمة للناظر ما فيه.

 

كما أنَّ اللسان ترجمانه، وبالجملة فسائر الأعضاء خَدَمُه وجنوده؛ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألاَ إنَّ في الجسد مُضغة، إذا صَلَحَت صَلَح لها سائرُ الجسد، وإذا فَسَدَت فسد لها سائرُ الجسد، ألاَ وهي القلب))؛ البخاري (52)، مسلم (1599).

 

وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك، طابت جنوده، وإذا خبث الملك، خبثت جنوده..."؛ "مفتاح دار السعادة"، (1/193 - 199) لابن القيم.

 

الإعجاز في عملية الهضم:

"ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنَّه عملية في معمل كيمياوي، وإلى الطَّعام الذي نأكله على أنه موادُّ غفل، فإننا ندرك تَوًّا أنه عملية عجيبة؛ إذ تهضم تقريبًا كل شيء يؤكل، ما عدا المعدة نفسها!

 

فأولاً نَضَعُ في هذا المعمل أنواعًا من الطَّعام، كمادة "غفل" دون أيِّ مُراعاة للمعمل نفسه، أو تفكير في كيفيَّة مُعالجة كيمياء الهضم له، فنحن نأكلُ شرائحَ اللحم والكُرُنْبِ والحنطة والسمك المقلي، وندفعها بأيِّ قدر من الماء.

 

ومن بين هذا الخليط تَختار المعدةُ تلك الأشياء التي هي ذات فائدة؛ وذلك بتحطيم كل صنف من الطَّعام إلى أجزائه الكيمياوية دون مُراعاة للفضلات، وتُعيد تكوينَ الباقي إلى بروتينات جديدة، تصبح غذاءً لمختلف الخلايا، وتَختار أدوات الهضم وهي الجير والكبريت واليود والحديد، وكل المواد الأخرى الضرورية، وتُعنى بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية، وبإمكان إنتاج الهرمونات، وبأنْ تكونَ جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرةً في مقادير مُنتظمة، ومستعدة لمواجهة كل ضرورة، وهي تخزن الدُّهن والمواد الاحتياطية الأخرى؛ للقاء كل حالة طارئة، مثل الجوع، وتفعل ذلك كله، بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله، إنَّنا نصب هذه الأنواع التي لا تُحصى من المواد في هذا المعمل الكيمياوي، بصرف النظر كلية تقريبًا عما نتناوله، معتمدين على ما نحسبه عملية ذاتية (أوتوماتيكية)؛ لإبقائنا على الحياة.

 

وحين تتحلل هذه الأطعمة، وتجهز من جديد، تقدم باستمرار إلى كلِّ خلية من بلايين الخلايا، التي تبلغ من العدد أكثرَ من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض، ويجب أن يكون التصدير إلى كلِّ خلية فردية مُستمرًّا، وألاَّ يُصَدَّر سوى تلك المواد التي تَحتاج إليها تلك الخلية المعينة؛ لتحويلها إلى عظام، وأظافر، ولحم، وشعر، وعينين، وأسنان، كما تتلقاها الخلية المختصة!"؛ عن كتاب "الله والعلم الحديث".

 

"فها هنا إذًا معملٌ كيمياوي يُنْتِج من المواد أكثرَ مما ينتجه أيُّ معمل ابتكره ذكاء الإنسان! وها هنا نظامٌ للتصدير أعظمُ من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم، ويتمُّ كلُّ شيء فيه بمنتهى النظام"؛ المصدر السابق.

 

خاتمة:

وهكذا رأينا كيف يدعو القرآن العبد إلى النظر والتفكُّر في خلقه؛ إذ نفسه وخلقه من أعظم الدَّلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيه من العجائب الدَّالة على عَظَمةِ الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وهو غافل عنه مُعرِض عن التفكُّر فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كُفره.

 

قال الله - تعالى -: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 17 - 20]، لعلنا عرفنا الحكمة من تَكرار الحق - سبحانه - لألفاظ النطفة، والعلقة، والمضغة، والتُّراب على أسماعنا وعُقولنا، لا لنتكلم بها فقط، ولا لمجرد تعريفنا بذلك، بل لأمرٍ وراء ذلك كله هو المقصود بالخطاب، وإليه جرى ذلك الحديث.

 

وإنَّ جُملة ما عرفنا وعرفه الخلق كلهم من نعم الله - تعالى - بالنسبة إلى ما لم يعرفوه أقل من قطرة في بحر؛ قال الله - تعالى -: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18].

 

المصادر:

• من كتاب (أفلا تتفكرون) للشيخ: عبدالعزيز بن ناصر الجليل، الفصل الثالث: "التفكر في آيات الله - عزَّ وجلَّ - في الأنفس".

• المرجع السابق، الفصل الرابع: التفكر في آلاء الله - عزَّ وجلَّ - ونعمه الظاهرة والباطنة.

• من كتاب: "مفتاح دار السعادة"، لابن القيم.

• من كتاب: "الله والعلم الحديث"، عبدالرزاق نوفل.

____________________________________________________
الكاتب: د. محمد السقا عيد

  • 6
  • 3
  • 2,747

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً