طلب العلم وآدابه من قصة موسى والعبد الصالح

منذ 2021-11-03

إنّ طلبَ العِلم له مكانةٌ عالية في الإسلام، ومِن النعم التي أنعمَها اللهُ على آدم بعد خَلقه أنْ علَّمه الله - سبحانه وتعالى - الأسماء كلها؛ ثمَّ ابتلاه واختبره فيها أمام الملائكة، فكان حافظًا للعلم شاكرًا نعمة ربِّه على العِلم..

في سورة الكهف

مُقدمه:
إنّ طلبَ العِلم له مكانةٌ عالية في الإسلام، ومِن النعم التي أنعمَها اللهُ على آدم بعد خَلقه أنْ علَّمه الله - سبحانه وتعالى - الأسماء كلها؛ ثمَّ ابتلاه واختبره فيها أمام الملائكة، فكان حافظًا للعلم شاكرًا نعمة ربِّه على العِلم، فكافأه المولى - تبارك وتعالى - بالجَنَّة؛ قال عزَّ وجلَّ: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35] وجعله رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم – بابًا من أبواب الجَنَّة ومُوصلا إليها فقال: «مَن سَلَكَ طريقًا يَلتمِس فيه عِلمًا سَهَّل اللهُ به طريقًا للجَنَّة»، والنصوص الدالَّة على ذلك المعنى لا حصرَ لها.

والمَولى - تبارك وتعالى - ضرب لنا مثلًا مِن أروع الأمثلة في طلب العِلم مِن العلماء، وآداب طلَب العِلم التي يجب توافرُها في طالب العِلم في شخص موسى – عليه السلام – في بضع آياتٍ من سورة الكهف.

فالعِلمُ في الإسلام له مكانته التي لا تَخفَى على أصحاب الفهم السليم، ولا يُنكر هذه المنزلة لِلعِلم والعلماء إلا السفهاء الذين لا يعلمون.

الموضوع:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا... } [الكهف: 60-71].

أولًا: نكشفُ عن مكانة طَرَفَيِ العملية التعليمية - أو الأصوب عملية التعلم - مَنْ الطالب للعِلم؟
الطرفُ الأوَّل: طالبُ العِلم موسى، فهو نبي ورسول لله – كَلِيمُ اللهِ مباشرةً مِن وراء حجاب – أعلمُ بني إسرائيل بالتوراة التي أنزلها الله عليه.
الطرفُ الثاني: هو عَبْدٌ أنعَمَ اللهُ عليه بفرعٍ مِن فروع العِلم المُختلفة.

ثم نستخلص الشروط في طلب العلم:
الشرط الأوّل: حُبُّ طلَب العِلم والرغبة فيه:

فالمتعلِّم مُحِبٌّ لطلبِ العلمِ، راغب فيه؛ بدليل قوله كما حكى عنه المولى - تبارك وتعالى -: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}، فالرغبة في طلب العلم هي التي سَتُعِينُه على تحمُّلِ المَشَاقِّ والمُعاناة، وهو السير حُقبًا على قدميه؛ أي: أزمانًا طويلة في سبيل طلب العلم.

ثم تَنتقِل الآياتُ لِشرْط ثانٍ؛ إذ قال المولى - تبارك وتعالى -: { ... هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، وهذا السؤال يكشف عن تواضع موسى – عليه السلام - فبرغم نبوَّته ورسالته إلَّا أنّه يَستعطِف معلِّمه في أدب جمٍّ أنْ يُعلِّمه ممَّا أنعَم اللهُ عليه ليتعلَّمَ منه وهو مَنْ هو، فهو النبي والرسول الكليم.

كما يَكشِف هذا السؤالُ عن معرفة موسى قدْر المُعلِّم ومكانتَه ومنزلتَه، فلم يقُل موسى – على سبيل المثال –: أنا موسى بن عمران رسول الله، علِّمْني ممَّا علَّمك الله، حاشاه من سوء الأدب، أو قال له: أرسلَني اللهُ إليك لِتُعلِّمَني، علِّمني على سبيل التعالي؛ لمنزلة موسى عند ربِّه، فما ينبغي له أنْ يقوله؛ فالأنبياء والرسل أفضل الناس أخلاقًا.

الشرط الثاني: التواضع، وهذا يؤدِّي إلى:
1- التأدُّب مع المُعلِّم.
2- ووجوب معرفة كلِّ متعلِّم قَدْرَ مُعلِّمه.

وننتقلُ إلى شرطٍ آخر أشارتْ إليه الآيات؛ ألا وهو الصبر؛ فطلبُ العِلم يحتاج إلى صبر، ولا ينبغي لطالب علمٍ إذا نال قسطًا مِن العِلم أو حظًّا منه أنْ يكتفي به ويعتقد أنه أصبح لا يُدانِيه أحدٌ مِن أهل العِلم، ولا يحق لأحدٍ أنْ يُراجعه في رأىٍ، وقد ذَكَرَ المولى - تبارك وتعالى - طرفًا عن هؤلاء فقال سبحانه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] فقد ضَرب اللهُ في هذا المثل صورة (مُحمّد والناس مِن حوله؛ مؤمنُهم ومنافقُهم) بصورة (قوم طَلَبوا إيقادَ النار؛ فمنهم مَن اهتدى بها، ومنهم أوَّل ما اتَّقَدَتْ فَرِحَ بها وجرى، لكنه وجد الظلام) بمعنى أنّ الله أنعَمَ عليهم بقسطٍ مِن العِلم ففرحوا به واكتفوا به؛ ولأنهم نكثوا ما عاهدوا الله عليه منع نوره عنهم؛ (نور العلم)، وتركهم في ظلمات جهلهم لا يَهتدون. وهُم المنافقون الذين اشتروُا الحياة الدنيا بالآخرة بعد معرفتهم بالله ومنهجه.

ونستخلصُ مِن الآية الشرطين الثالث والرابع:
- فالشرط الثالث الصبر.
- والشرط الرابع المُداومة على طلب العِلم، وعدم الغرور أو الاغترار بالقسط الذي ناله، وهذا لا يتأتى إلَّا إذا استَشعر طالبُ العِلم أنه ما زال مُبتدئًا لا يَعلم شيئًا، وأنه في حاجة إلى المزيد، والعِلم الذي تعلَّمه لا يُساوي شيئًا في عِلم الآخرين، وبهذا يظلُّ متواضعًا شاكرًا، وهو ما كان مِن موسى - عليه السلام – فهو أعلمُ الناسِ بالله، وهو مُعلِّمُهم منهاجه وشرْعته، وبرغم ذلك ذهب ليتعلم مزيدًا من العلم.

كما نتعلم أنّ العلم ليس حكرًا على أحدٍ من الناس، أو فئة مِن البشر، ولكنَّه نعمة الله يُعطيها لِمَن ارتضى مِن عباده؛ لأنه وسيلة مِن وسائل الابتلاء؛ فمَن شكَر زاده اللهُ منها، ومَن كفَر فإنَّ عذاب الله شديد.
ثمّ تنتقلُ الآياتُ إلى شرطٍ آخر مِن الشروط الواجب توافرُها في المُتعلِّم.

الشرط الخامس: ألا وهو الفهم والوعي مِن المتعلِّم لِمَا يتعلَّمه؛ قال سبحانه: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا }؛ لأن الفهم يُعِين المتعلِّم على المواصلة في طلب العلم.

الشرطُ السادس: طاعة المُتعلِّم لِمُعَلِّمه؛ قال سبحانه وتعالى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}.

الشرط السابع: توافُر قدرة الاستنباط لديه، وألَّا يعتمد المُتعلِّم على مُعَلِّمه في كلِّ شيءٍ؛ فالمعلِّم يُعلِّمُ ويترك شيئًا ليستنبطه المتعلِّم؛ وبذلك يستطيع المُعلِّم قياس مدى انتباه وتركيز ونباهة المتعلِّم.

وهكذا نتعلم من القصة القرآنية الشروط الواجبة في طالب العلم، نجملها فيما يلي:
1- الرغبة في طلب العلم.
2- التواضع.
3- الصبر على طلب العلم والمداومة عليه.
4- عدم الاغترار بالقسط الذي تعلمه المتعلم لدرجة أن يظنّ أنّه أعلم الناس.
5- محاولة الفهم والوعي لما يتعلمه، فإنْ عجز سألَ.
6- طاعة المتعلم لمعلمه وعدم عصيانه.

7- توافر قدرة الاستنباط لدى المُتعلم، وألَّا يعتمد المُتعلمُ على مُعلمه في كلِّ شيءٍ.

الشروط الواجب توافرها في المُعلِّم:

1- توافر المادة العلمية.

2- انتقاء الوسيلة والطريقة المناسبة لتوصيل العِلم، (وهذا يختلف حسب المادة المراد توصيلها، وعُمر المتعلم).

3- فهم مسئولياته وحجم التبعة الملقاة على عاتقه.

4- الحزم مع المتعلم، وعدم إعذاره فوق ثلاث، فيقبل العذر الأول والثاني، أمّا الثالث فهذا فراق بينهما، وهذا يتوقف على المرحلة العُمُرية للمتعلم.

5- التحلي بالأمانة في توصيل العلم.

6- الحزم مع المُتعلم.



ومن الآداب التي على المُتعلم أن يتحلى بها:

1- التأدب مع المُعلم.

2- معرفة قدْر المُعلم ومنزلته.

3- عدم الغرور أو الاغترار بما تَعَلَّمه، وليعلمْ أنّه فوق كل ذي علمٍ عليم. فمن ظنَّ أنّه عَلِمَ فقد جَهِلَ.

4- الإخلاص لله في تعليمه العِلم، والمداومة على طلب العلم؛ لأنَّ العِلم بابٌ من أبواب الجَنَّة ومُؤَدٍّ إليها.

5- العِلم فضلٌ ونعمة مِن الله يختصّ به مَن يشاءُ مِن عباده.

6- الشكر على نعمة العلم فريضة، ومِن شُكْر نعمة العِلم تعليمُه للناس على وجهه القويم والصحيح، وعدم كتمانه عن الناس. لقوله عليه الصلاة والسلام: «مَن كتَم علمًا ألجَمَه اللهُ بلجام مِن نار يوم القيامة»، وقوله: «خيرُكم مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّمه»، وقوله: «إنَّما بُعثتُ معلِّمًا».

7- - مجاهدة النفس في شهواتها (حب الظهور بالكلام أو إبداء الرأي – المسابقة للتكلم بين يدي المُعلم).


ومن الأمور التي تتعلق بالقصة طرقُ التدريس، ومنها:
- طريقة الإلقاء والتلقين المبنيَّة على الحوار والمُناقشة، وهي بداية القصة (الحوار بين موسى – عليه السلام - والعبد الصالح).
- طريقة الممارسة والتجريب، وهي مرحلة الانطلاق (السفينة – قتل الغلام – بناء الجدار).

إنَّ طلَب العِلم يحتاج إلى هِمَّة عالية لتحمُّل المَشَاقِّ؛ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}.
كما نتعلم من القصة أيضًا عدم التسرع في إصدار الأحكام ودون استنباط الحكمة مِن التصرف أو الفعل، وأنْ نترك الأمر لأهل العلم والخبرة؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].

والحمد لله رب العالمين.

___________________________________________
الكاتب: بهاء الدين عبدالفتاح الجوهري

  • 0
  • 0
  • 2,564

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً