سنن عطلها كورونا
إن هذا الوباء الذي غيَّر العالم، وقلب أولوياته رأسًا على عقب، تسبب في حرمان المسلم من سنن كان يعتادها، ولم يدُر بخَلَده يومًا أن ينقطع عنها، من هذه السنن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، أما بعد:
فإن هذا الوباء الذي غيَّر العالم، وقلب أولوياته رأسًا على عقب، تسبب في حرمان المسلم من سنن كان يعتادها، ولم يدُر بخَلَده يومًا أن ينقطع عنها، من هذه السنن:
سنة تراص الصفوف في الصلاة:
بعد أن حُرِمنا مدة ليست بالقصيرة من الصلاة في المساجد بسبب انتشار هذا الوباء، أصبح لزامًا علينا - بعد أن فُتحت المساجد - أن نطبق ما يسمى بالتباعد الاجتماعي، وبالتالي تباعدت المناكب، وتفرقت الأقدام، وغابت سُنة رصِّ القدم إلى جوار القدم، وتلاصق المنكب بالمنكب؛ روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي، وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ» [1].
قال ابن حجر: (قَوْلُهُ بَابُ إِلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ فِي الصَّفِّ)، الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعْدِيلِ الصَّفِّ وَسَدِّ خَلَلِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِسَدِّ خَلَلِ الصَّفِّ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ أجمعها حَدِيث بن عمر عِنْد أبي دَاوُد، وَلَفْظُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ».
وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: أَقْبَلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَقِيمُوا صُفُوفكُمْ ثَلَاثًا، وَاللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ».
قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يَلْزَقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ.."[2]، لقد عطَّل "كورونا" هذه السنة التي كانت تغرس فينا التماسَّ والتحابب.
سنة المصافحة:
من السنن التي كانت تقرِّب فيما بيننا، ونعبِّر بها عن مودتنا لإخواننا: سنة المصافحة، هذه السنة الطيبة التي أصبحت هذه الأيام من المكروهات الشديدة خوفًا من نقل العدوى، وأصبح كل واحد منا يخشى جليسه ومُحدثه، وإذا ما تمت المصافحة عرضًا أو نسيانًا أو جهلًا، بادر كلٌّ منا بغسل اليدين جيدًا، وتطهيرها بأنواع المطهرات، لقد حرمنا "كورونا" من هذه السنة الطيبة التي ما كنا أبدًا نظن أن يأتي يوم ونُحرم فيه من مصافحة آبائنا وأمهاتنا وعلمائنا وتقبيل أيديهم، ونُحرم من مصافحة ذوينا ومحارمنا، وأولادنا وأحفادنا وإخواننا، وأصدقائنا وزملائنا وجيراننا.
♦ عطَّل "كورونا" كل هذا، وحرَمنا من سنة علَّمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَكَانَتِ المُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: «نَعَمْ» [3].
♦ وعَن أبي هُرَيرة أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ حذيفة، فأراد أن يصافحه، فتنحَّى حذيفة، فقال له: إني جُنُب، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا صافح أخاه تحاتَّتْ خطاياهما كما يتحات ورق الشجر"[4]؛ أي سقطت خطاياهما كما يسقط ورق الشجر.
♦ لقد حُرِمنا من ذلك، ولا عوض لنا إلا المصافحة بالقلوب النقية التقية؛ لنحصل على هذا الثواب العظيم: تكفير الخطايا والفوز بمغفرة الله عز وجل؛ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ، إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا»[5]. إن من أشد الناس تأثرًا بتعطيل هذه السنة، هم أصحاب القلوب الرقيقة، وأصحاب المشاعر النبيلة؛ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إنَّهُ لَمَّا أَقْبَلَ أَهْلُ الْيَمَنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ جَاءَكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ مِنْكُمْ قُلُوبًا»، قَالَ أَنَسٌ: وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ جَاءَ بِالْمُصَافَحَةِ» [6]. لقد وصل الأمر إلى حرماننا من توديع الأحباب إذا سافروا أو افترقوا عنا، وكنا نحب تلك السنة - سُنة وداع المسافر - التي علَّمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عَنْ قَزْعَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ، فَأَرَدْتُ الِانْصِرَافَ فَقَالَ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أُوَدِّعَكَ كَمَا وَدَّعَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ بِيَدِي فَصَافَحَنِي ثُمَّ قَالَ: «أَسْتَوْدِعُ اللهَ دَيْنَكَ، وَأَمَانَتَكَ، وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ»[7].
♦ لقد اكتفينا الآن بالكلام وبالإشارة عن بُعد لا مصافحة ولا معانقة، انظروا إلى هذه العلاقة الجميلة من الأخوة بين كعب بن مالك وطلحة رضي الله عنهما، حين نزلت توبة الله على الثلاثة الذين خُلِّفوا - وكان منهم كعب بن مالك - فرِح طلحة لكعب فرحًا جعله يُهرول إليه ليُهنئه؛ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: «دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِاللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي»[8].
♦ إنها لحظات ود وحب أغلى من الدنيا جميعًا، لحظات كانت تخفِّف عنا ألم الفراق، ونعبر بها عن حبنا وودنا، ولكنه الوباء اللعين الذي نسأل الله تعالى أن يرفعه عنا، لقد كانت المصافحة تثلج الصدور، وتسعد النفوس، وترطِّب القلوب، فما بالك إذا جُمِع بين المصافحة والالتزام؛ عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَنْزةَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَافِحُكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ؟ فَقَالَ: «مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إِلَّا صَافَحَنِي، وَبَعَثَ إِلَيَّ يَوْمًا وَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ، فَلَمَّا جِئْتُ أُخْبِرْتُ بِرَسُولِهِ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ لَهُ، فَالْتَزَمَنِي، فَكَانَتْ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ»[9]، إنها تفعل في النفوس ما لا يفعله الماء البارد على ظمأ.
عيادة المرضى:
ومن السنن العظيمة التي عطَّلها "كورونا": سنة عيادة المريض التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فُكُّوا العَانِيَ»، يَعْنِي: الأَسِيرَ، وَأَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ» [10]، إنها سنة تُشعر الإنسان بأهميته في المجتمع، وبحب إخوانه له، وأنهم حوله يواسونه ويخففون عنه وطأة المرض، ولذلك كان ثواب زيارة المريض عظيمًا؛ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا، لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسَ فِيهَا»[11]، وعَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا، لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ»[12]، علاوة على دعاء الملائكة لهذا الزائر؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الجَنَّةِ مَنْزِلًا» [13].
♦ ليس هذا فحسب، بل إن الله تعالى يكون في معية المريض، ومن زار مريضًا وجد الله عنده برحمته ومغفرته ولطفه، كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ»؟[14].
♦ لقد حَرمنا "كورونا" من كل هذا الثواب، وأصبحت زيارة المريض ممنوعة، بل يتم عزله عزلًا كليًّا عن أهله وذويه وخِلَّانه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
تقبيل الأولاد والأحفاد:
ومما حُرِمنا منه بسبب "كورونا" ليس المصافحة فحسب، بل حُرمنا من تقبيل أولادنا وأحفادنا، وأصبح لزامًا على الجد أو الأب أن يستقبل ولده العائد من سفر بعد غياب، وأن يستقبل حفيده الحبيب استقبالًا يخلو من فتح الذراعين، وتقبيل الجبين، واحتضان الطفل الحفيد الحبيب، وحل انكسار النفس - نفس الجد والأب ونفس الابن والحفيد - محل الفرحة والبهجة والسعادة.
♦ إنها رحمة وضعها الله في قلوبنا، ولكننا - بسبب "كورونا" - كتمناها في قلوبنا؛ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُقَبِّلُ الصِّبْيَانَ؟ فَوَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَمْلِكُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَزَعَ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ» [15]. وعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ» [16].
♦ فاللهم ارفع مقتك وغضبك عنا وعجِّل بزوال هذا الوباء يا أرحم الراحمين.
إعلان النكاح في المساجد:
من السنن التي عطَّلها "كورونا" في أيامنا هذه، سُنة إعلان النكاح في المساجد، لتعم البركة، وليكون المسجد هو المكان المقدس الذي يتم فيه هذا الرباط المقدس، ولكننا مُنِعنا من ذلك بسبب هذا الوباء، إنها سنة تربط بين العلاقة الأسرية والعلاقة بالله عز وجل؛ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي المَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ» [17].
♦ إننا في حاجة ماسة إلى التضرع إلى الله والتوبة الصادقة النصوح - مع اتخاذ إجراءات الوقاية والاحتراز - تطبيقًا لقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام 42-43].
♦ فاللهم إنا نعوذ بك من قسوة القلوب، وجمود العيون، ونسألك بعزتك أن ترفع عنا ما نحن فيه من وباء وبلاء يا خير المسؤولين ويا خير المعطين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] البخاري 1/ 146.
[2] ابن حجر 2/ 211.
[3] البخاري 8/ 59.
[4] البزار15/ 84.
[5] أحمد 30/ 517.
[6] أحمد 21/ 226.
[7] النسائي 9/ 191.
[8] البخاري 8/ 59.
[9] أحمد 35/ 378.
[10] البخاري 4/ 68.
[11] أحمد 22/ 162.
[12] مسلم 4/ 1989.
[13] الترمذي 4/ 365.
[14] مسلم 4/ 1990.
[15] أحمد 40/ 334.
[16] البخاري 8/ 7.
[17] الترمذي 3/ 390.
________________________________________________
الكاتب: خالد بن حسن بن أحمد المالكي