الدعوة إلى الله رؤية فكرية معاصرة
إنَّ من شأن الكيِّسِ الأريب أن يشتغلَ بما هو أقلُّ وقتًا وجهدًا، وأكثرُ أجرًا وإنجَازًا، وجوهر هذه المعادلة القيِّمة في مقام الدعوة إلى الله تعالى؛ لأنَّ الداعية يُضِيف لنفسه أعمارًا مضاعفةً بعد أن يفتحَ الله عليه باحتواء الآخرين..
إنَّ من شأن الكيِّسِ الأريب أن يشتغلَ بما هو أقلُّ وقتًا وجهدًا، وأكثرُ أجرًا وإنجَازًا، وجوهر هذه المعادلة القيِّمة في مقام الدعوة إلى الله تعالى؛ لأنَّ الداعية يُضِيف لنفسه أعمارًا مضاعفةً بعد أن يفتحَ الله عليه باحتواء الآخرين في منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ولأنَّ الأمر كذلك، كانت هذه الصنعة الدعوية لا يُتقِنها إلَّا صادِق، ولولا جهلُ الأكثرين بحلاوة هذه اللَّذَّة، وعِظَمِ قدْرها، لتجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفَّت بحِجَابٍ من المكاره، وحُجِبوا عنها بأسوار من الجهل؛ ليختصَّ اللهُ بها مَن يشاء مِن عباده، والله ذو الفضل العظيم.
لهذا وجدنا أربابَ الدعوةِ، وأعلامَ الصَّحْوة قد اشتغلوا بتأليف الرجال، فذاك داعية وهو في عتبات دعوته، يخاطبه والده: يا بُنيَّ، لو سلكتَ مسلك تأليف الكتب لنفعَ الله بك أكثر، وابتعدتَ عن طريق الأشواك، وعشتَ مستريحًا معافًى، فقال له: يا أبتِ، مكتباتنا عامرة بالكتب، ومتعطشة لِمَن يقرؤها، أما أنا فأؤلِّف الرجال، فألقي بالواحد منهم في طريق الحيِّ فيُحيِيه - بإذن الله.
وهذا هو فقه الأولويات، فكثيرٌ يتلهَّفون لبناء المساجد ودُور العبادة، ويتغافلون عن دعْم مسيرة الصحوة الإسلامية، فيقدِّسون بناء الأحجار، ويتركون بناء الرجال!
وتَعلَمُ - أخي القارئ - أنه لولا مقامُ الدعوة إلى الله تعالى، لَمَا ظهر الدِّين، ولا انتشر الإسلام، وما عَبَد اللهَ عابدٌ، وما دخل المساجدَ أحد، ومن أجل ذلك أنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
واقِعٌ مرير.. وَتَبِعَةٌ ثقيلة:
ولعلَّ أهمية هذه المسيرة الدَّعوية في هذا الزمان باتتْ أمرًا يُؤرِّق الصادقين من أبناء الأمَّة، فلو سمحْنا لِبَصَرِنا أن يجُول حول العالَم، لوجدْنا أنَّ عددَ غيرِ المسلمين يفوق مراتٍ ومراتٍ عددَ المسلمين، فمَن يتصدَّى لهؤلاء إن لم يكن شباب الصحوة الصادقين؟!
فهُم أملُ الأمَّة الواعد، وبُشرَى الغدِ المرتقَب، إليهم ترنو أنظارُ المؤمنين، وبهم تتعلَّق آمال الراكعين الساجدين، كيف لا، وبعد أن مَنَّ الله على صحوتنا بالانتشار في أرجاء المعمورة، وجدْنا أعداءنا يسهرون لَيلَهم، ويتعبون نَهارَهم في حرْبِنا، فتارة يُغرِقون أبناء الجيل الراهن في محيط الشهوات، وبحور الملذَّات، من خلال محطَّات التلفزة الهابطة، والشبكة العنكبوتية المُتَوَرِّمَة الخطيرة، وتارةً بالعمل على تغيير العقلية القائمة؛ لتتربَّعَ فيها همومٌ طفوليَّة، وطموحات دنيئة، لا تُسمن ولا تُغني من جوع؛ ليعبدَ أبناؤنا صنمَ الحضارة الزائفة، والثقافة الماكرة، والحبَّ الجبان، وينسون الغاية التي من أجلها وطئتْ أقدامهم ظهرَ هذه البسيطة؛ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، ويتوحَّلون في المخططات العميلة، ويتصَدَّرون أمرها؛ ظنًّا منهم أنهم سيخرقون الأرضَ أو يبلغُون الجبال طولًا؟!
فهذا شأن أعدائِنا في غزوهم الفِكري، ولا يزالون يقاتلوننا حتى يردُّونا عن ديننا إن استطاعوا، وهم الذين أنفقوا أموالَهم ليصدُّوا عن سبيل الله، بل وسخَّروا حياتَهم خدمةً لمشروعهم.
وَانْظُر إِلَى تِلكَ الكَافِرَة:
فهذه (إيزابيل) الكافرة، ملكة إسبانيا في القرن الخامسَ عشرَ، التي كرَّسَت أكثر من ثلاثين سنةً من عُمُرِها في سبيل النصرانية الكاثوليكية؛ بل قطعت على نفسها عهدًا بعدم استبدال ثيابها حتى تسقط غرناطة في يدها بالأندلس المفقود، فَوحَّدَت جهود ملوك النصارى تحت راية واحدة ابتداءً، ورهنَت مجوهراتِها لدفع مرتَّبات الجنود، وقامت بتجييش الجيوش والإشراف عليها، حتى أرغمَت أبا عبد الله الصغير – آخر ملوك غرناطة – أن يدفع جزية سنوية، قدرها اثنا عشر ألف قطعة ذهبية، فضلًا عن شرطها أن يكون وفيًّا لأسياده من الملوك الكاثوليك، ويقدِّم دَلالةَ صِدقه بأن يُسلم لهم ابنه الصغير ريثما يخرج منها، فضلًا عن تسليم أربعمائة أسير حالًا، ويُطلِقَ مِن بعدها ستين أسيرًا سنويًّا.
إنها (إيزابيل) الكافرة صاحبة محاكم التفتيش في إسبانيا، التي حرَّقت المسلمين وهم أحياء، بل وحرَّقت الموتى بعد إخراجهم مِن قبورهم، حتى لم يَبقَ في الأندلس مِئذنة ولا أذان ولا مؤذن يصدح بلا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولأن لها رسالةً وطموحًا دعويًّا تنصيريًّا؛ فقد موَّلَت رحلة اكتشاف القارَّة الأمريكية، وتنصير العالم الجديد، وضمَّت ثرواتِها للخزينة الإسبانية؛ كي تمثِّل عطاءً عظيمًا للمنصِّرين في كل مكان بالأندلس.
فهذا ما قدَّمَت لباطلها ومُجونها، فماذا قدَّم شبابنا لدين ربهم؟! وهل عملوا بمقتضى الأمانة التي حملوها بكل قوة؟! وبماذا سيجيب الصادقون ربهم حين يسألهم عن قصورهم؟! ألم تقرؤوا: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8]؟! ومن ذا الذي سيعيد أمجادنا إلى سابق عهدها؟!
تاريخ مجيد في الأندلس المفقود:
لقد حدَّثَنا التاريخُ أن الأندلس هي مركز النهضة والحضارة على وجه الأرض؛ فقد كانت متميزة في بُنيانها وشوارعها وأسواقها وصناعاتها وزراعتها، وجيشها وأُسطولها، وجامعاتها وعلمائها، يأتيها الطلاب من أوروبا وغيرها؛ لينهلوا من مَعِين علمها، ويتتلمذوا على أيدي علمائها، ويأتيها ملوك النصارى؛ ليقدِّموا فُروض الولاء والطاعة، وليطالبوا (عبد الرحمن الناصر) بالتدخل بقوته العسكرية في حسم الخلافات القائمة بينهم! فإننا قوم أعزَّنا الله بالإسلام، وإنِ ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله تعالى، لقد كانت هذه سيرتَنا الأولى في الأندلس، فمن أجل هذا وذاك وجب علينا أن نحمل هَمَّ دعوتنا، ونُعليَ الراية من جديد؛ لأننا أصحاب مشروع يتخطى الحدود، ويختصر المسافات، ويتطلع لأستاذيَّة العالم، وتحكيم العباد إلى دين ربهم تعالى، وما تلك الخطوات التي تُجريها حركات الصحوة الإسلامية في هذا الزمان إلا خطوة على طريق الوصول لتِلكُم الغايةِ الكريمة، وستذكرون ما أقول لكم، ومما يَشِي بالفأل الحسن: أن ربنا جلَّ جلاله جعل كلمةَ الذين كفروا السفلى، وكلمتُه دائمًا هي العليا، وهذا وعدٌ غير مكذوب.
لذا؛ يحق لنا أن نسابقَ الزمن حتى يكون الدين كله لله، فهل أدركنا أهمية مشروعنا؟ وهل باشر الإيمانُ بقضيتنا شِغافَ قلوبنا؛ لننطلق سويًّا ندعو إلى الله تعالى على بصيرة؟ علَّنا أن نكون من أولئكم الذين ينتصر بهم دِين ربنا، عبادًا له أولي بأس شديد، يمضون في سبيل دعوتهم، ولا يخافون لومةَ لائم؛ خشية أن نكون مع الخالفين، الذين كره الله انبعاثهم، فثبطهم، وقيل: اقعدوا مع القاعدين.
الدعاة والعلماء حرَّاس الأرض:
وإنه ليتبين لنا بعد ذلك العرض الموجز العِلَّةُ في مدى الترغيب النبوي للدعاة إلى الله تعالى خاصة؛ فهم ورثة أنبياء الله في أرضه، والذين يتكفَّلون بنشر شريعة الله في عباده؛ {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
ولذا راح نبينا عليه الصلاة والسلام يبشِّر الداعية قائلًا لعلي بن أبي طالب يوم خيبر: «لأَنْ يهديَ الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم» ، وفي الحديث الذي أخرجه مسلم: «مَن دعا إلى هُدًى كان له مِن الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا يَنْقُص ذلك مِن أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه مِن الإثم مثل آثام مَن تبعه، لا ينقص ذلك مِن آثامهم شيئًا».
وبعد هذا، فليس عجبًا أن نجد في الحديث الذي رواه البيهقي والهيثمي والمنذري، وضعَّفه الألباني في السلسلة الضعيفة ـ وهو على الرغم مِن ضعفه الشديد إلا أن معناه يصلح للاستدلال في هذا المقام ـ: أن موت العالِم مصيبة لا تُجبر، وثُلمةٌ لا تُسَدُّ، ونجم طُمِس، وموتُ قبيلةٍ أيْسرُ مِن موت عالِم؛ لما يمثله مِن خيرية مباركة للأمة، ونفع متعدٍّ لعموم أهلها، ولذا كان الملائكة حُرَّاسَ السماء، والدعاة والعلماء حُرَّاس الأرض، ومَن مَنَّ الله عليه فَقَّهَهُ في الدين، وعلَّمه التأويل، ونَصَّبه داعية إليه سبحانه وتعالى، فهل منَّ الله عليك وكنت منهم؟ أم ما زلت في سُباتٍ عميق؟
وجوب إعادة النظر في آليات الدعوة المعاصرة:
وعليه؛ أرى في المرحلة الراهنة وجوبَ إعادة النظر في آليات العمل الدعوية، فما عادت تلك التي كانت قبْل عقودٍ أو سنوات تفي بالهدف المرصود، فلكلِّ زمانٍ كلامُه، ولكل مرحلةٍ حديثُها، ولعلَّ القرآن الكريم يشجعنا في طرْح هذه الفكرة، فهو الذي كان له خطاب في مكة المكرَّمة، وخطاب آخر في المدينة النبوية، وعلى إثر هذا تعلمون أنَّ الإمام الشافعي كان له مذهب في العراق يُسمَّى بالقديم، ولمَّا انتقل إلى مصر كان له مذهب آخر يُسمَّى بالجديد، ولم يَبقَ من القديم إلا سبعَ عشرةَ مسألةً يعمل بها، وما ذلك إلا لاختلاف الظروف والأحوال، وهذا - بلا شكٍّ - في الفروع، أما في الأصول، فالدِّين في كلياته العقدية والتعبدية والشرعية لا يتغيَّر، فالهدف ثابت، والوسائل متحرِّكة، وإنَّ المحقِّقين من العلماء الكرام قد قرَّروا - بناءً على ذلك - اختلافَ الفتوى حسبَ الزمان والمكان، وهذا ما قرَّره متأخِّرو الحنفية عن متقدِّميهم لَمَّا خالفوهم بقولهم: الخلاف الذي بيننا وبينهم خلاف زمان ومكان، لا خلاف حُجَّة وبرهان.
ولذا؛ فإنَّ مخاطبة فئة تختلف عن خطاب أختها، فللشباب خِطاب، وللشيوخ خطاب، وللنِّساء خطاب، وللأطفال خطاب، وللحاكم خطاب يُخالِف خِطابَ الرعيَّة، ولِكُلِّ أُناسٍ مشربُهم.
الحلُّ السِّحري في جرأة الطرح الدعوي:
وبناءً على ذلك؛ فالذي أقترح في هذه المرحلة من حياة الصحوة الإسلامية أن تكون الجرأة في ميدان الدعوة إلى الله تعالى هي سيدة الموقف، فما عادت تُجدِي المراحل الدعوية مع الشخص المدعوِّ، التي تلبث زمانًا طويلًا، ما بين فترة تعارفيَّة لا تقلُّ عن شهر، وزيارة خلال شهرين، ورسالة جوَّال كلَّ ثلاثة أشهر مثلًا، حتى إذا مضى الزمان وجدْنا أنفسنا بين هدف دعوي أو اثنين، وأعداء الأمَّة يسابقون الزمن في استئصال الدين من قلوبنا، وتأتي الماجنة الغانية الفاجرة تتصدَّر مسرح الفِتنة، وتخاطب الملايين بلهوها وعبثها وغنائها، وتُضلُّ شبابنا، وتَحصر فكرهم في حب فتاة هابطة، أو ممثِّل جبان، ولا تستحيي من طرح إِفكِهَا وبهتانها، ودُعاتنا ما زالوا يعيشون في سراديبَ بعيدةٍ عن معترك الحرب، ويستحيون أن يَخرجوا للناس برسالتهم الناصعة، وفطرة الله التي فطر الناسَ عليها، ولا يجرؤون أن يقتحموا مواطن وجود الشباب الذين استحوذ عليهم الشيطان.
فلا بدَّ أن نعترف بأننا الذين جعلْنا بيننا وبينهم حاجزًا، وأقمْنا في علاقتنا معهم سياجًا منيعًا، ثم نتباكى في خُطَبِنا ودروسنا: اللهم رُدَّ شباب المسلمين ورجالهم ونساءهم إلى دِينك ردًّا جميلًا، ثم نستكمل الدعاء بخضوع وخشوع: اللهم اهدِنا، واهدِ بنا، واجعلنا سببًا لمن اهتدى!
وإن كان هذا مهمًّا مطلوبًا، لكنه يتَأتَّى وكأننا قد قطعنا على أنفسنا عهدًا بلسان الفعل: ألَّا نقترب من ثغور الدعوة، ولا نحاورهم أو نحادثهم، بل وَفِينا مَن لا يتَبسَّم في وجوههم بدعوى أنهم عصاة مجرمون!
وهنا أسأل:
من الذي سيبلِّغ أولئك وهؤلاء رُوحَ الدعوة؟! لقد قال قِسٌّ نصراني كبير على خبرةٍ بالأديان، بعد أن أسلم: والله ما كنَّا نعرف عن المسلمين إلا أنَّ هناك قومًا يعبدون حجرًا أسودَ في الصحراء، ويطوفون حوله، ويبكون في حِجرِه.
فاللهَ اللهَ أيها الدعاةُ، وطلبة العلم الميامين، لا بدَّ أن تتغلغلَ الدعوةُ في عظمنا ولحمنا وعصبنا، نحيا بحياتها، ونعيش في رحابها؛ لأنَّنا إن لم نقُم بها على الوجه الأمثل، فبطنُ الأرض خيرٌ لنا مِن ظهرها، وهل الوقوف على المنابر وحده يتكفل بأن تصل رُوح الدعوة إلى كل ضالٍّ؟! أم أنَّ ادِّعاء صِدْق النية والإخلاص لله تعالى - دون جهد دعوي - يحول بيننا وبين عتاب ربنا لنا يوم العَرْض عليه جلَّ وعلا؟!
أم أننا ما زلنا نردِّد قول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]، مع سابق علمنا أنَّ جبريلَ بدأ إهلاك القرية بذاك العابد الذي صمَتَ ولم يتكلم، بل ولم يتمعَّر وجهُه في سبيل الله تعالى؟!
مواقف زكية من ثمرات الجرأة الدعوية:
فالجرأة في الطرْح اختصارٌ للمسافات، وكسرٌ لتلك الحواجز بيننا وبينهم؛ فجلسةٌ تعارفية مباغتة، تعقبها زيارة سريعة، ثم الشروع في رسالتنا بكلِّ قوة وحِكمة بالغة، حتى وإن لم تُجدِ، فهناك الآلاف المتعطشون لدعوتكم، المحبُّون لرسالتكم، المنتظِرون كلمة خير، وإشارة هُدى، حتى ينقلبوا هداةً مهديِّين، دعاة إلى الله تعالى.
وهنا أذكر أن أحد الدعاة عندنا في غزة دخل يومًا خمَّارة يدعو مُدمنيها - وذلك في عهد قد مضى في سنة 1998 - فوجدهم في غيِّهم أجمعين، لا يعقل أحدهم شيئًا، فَحَادثَ البائع لحظات بكلمات مِن الحق المبين، وخرج بعدها ليلتقي به في مسجد مِن مساجد غزة، وذلك بعد سَنة أو يزيد، وإذا بهذا يسأله أمام جمع مِن الشباب: أتذكُر لقاءنا في الخمَّارة؟ فقال الشيخ الداعية – بعد نسيانه الموقف -: أأنا في الخمَّارة؟! أعوذ بالله، لم يحصل هذا، وأخذ يرفع صوته مُنكِرًا، والجميع يرقبون الموقف في عجبٍ، وبقيَت الدائرة عليه تدور حتى تذكَّر الأمر، فقال له ذاك الشاب: إنه بعد أن تحدثتَ إليَّ يومها بكلماتٍ طيباتٍ، أويتُ إلى بيتي متذكرًا تائبًا، وزوجتي حثَّتْني على اتخاذ القرار في الفرار إلى الله تعالى، وكانت الهداية بفضل الله، والله ذو الفضل العظيم.
وأذكُر يومًا قبل سنوات أننا أردنا أن نفتتح العمل الدعوي في مسجد، ولم يكن فيه مِن شباب الصحوة الإسلامية أحد، وبعد السؤال تبيَّن أن هناك شابًّا مضى مِن عمره خمسَ عشرةَ سَنة، فاجتهدتُ أن يكون هو اللبنةَ الأولى، وذهبتُ إلى مسجدهم وأنا لا أعرفه، فلمَّا صليتُ المغرب بدأتُ أتفحص وجوه شباب القوم، فكلما رأيتُ أحدهم بادرت نيَّة الحديث معه، ثم يغلب على ظنِّي أنه ليس المستهدَف.
وقدَّر الله تعالى - بحوله وكرمه - أن يأتي ذلك الشاب، وفي يديه نَشرةٌ وَعْظِيَّةٌ أراد أن يضَعَها على لوحة المسجد، ولأنه - كما يبدو - ليس له في هذا الميدان مِن الخبرة نصيب، أخذ يضعها بطريقة تخالف الصواب، فوقفتُ إليه أنصحه بالحلِّ الأمثل، ويغلب على ظني أنه مَن قطعتُ الطريق للقائه، وكان العجب الذي لم يخطر لي ببال، أنه رفع رأسه قائلًا: أإنك لَأَنتَ فلان؟ فقلتُ له: نعم، فسألتُه عن اسمه، فكان هو، والحمد لله.
فبادرتُه بالسؤال: وكيف عَرَفتَني؟ فقال: كنتُ في مجلس مع الطلبة بالمدرسة، وورَد ذِكْرك في قضية ما، فهجم عليَّ خاطرٌ أن الذي يقف أمامي الآن هو ذاك الذي كان الحديث عنه، وهنا حمدتُ الله تعالى أن قدَّر التعارف كما أردت وزيادة، وتذكَّرتُ أن الأرواح جنود مجنَّدة، ما تعارف منها ائتلف.
ترشيد أبناء الصحوة لتوصيف عمل المرحلة:
والذي أنصح به بعد مَقام الجرأة في الطرح الدعوي: هو تقسيم الفئة المستهدَفة إلى فريقين:
فريق في بداية شروده، وعلى عتبات الفِتن، فهذا أمره يسير، وبالإمكان تداركه على عجل إن شاء الله، إنْ توفَّر الداعية صاحب الحِكمة البالغة، والقول المبين.
والفريق الآخر هم الذين أُشرِبوا في قلوبهم حُبَّ الشهوات، وعاشوا فيها حينًا مِن الدهر، وأظلمَت عتمة الضَّلال عليهم، وهم الذين لمَّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم، فهؤلاء لم تنعدم فطرة الخير في أفئدتهم، ويحتاجون لطريقٍ أطول مِن أصحاب الفريق الأول، ولكنِّي على قناعة بأنهم سيستجيبون متى أَلْفَوُا الداعية المخلص، عَليَّ الهمِّة في مقام الدعوة، صاحب الحِكمة والموعظة الحسنة، الجريء في طرْحه، القوي في بيانه، ولو كان مِن غير أصحاب الشهادات العلمية، أو التخصصات الشرعية، ولكنه الذي ما عاش إلا لدعوته وإسلامه الذي هدانا الله تعالى إليه، فانطَلقَ بهذا الكَنْز، ومضى به في إرادة صادقة، وعزم متين.
ما عاد نظام البركة يُجْدِي:
ولا بأس أن يكون العمل وَفق خطط محكمة، وآليات مدروسة، فكلُّ ساعة من التخطيط الفاعل تُريحك خمس ساعات في المَيْدان الدعوي، ولعلَّ الله تعالى دعانا لهذا لمَّا قال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].
فما عاد نظام البركة يُجدِي، ولا فكرة العشوائية تفيد، وإذا كان الله تعالى قد ستر أمرنا في بداية دعوتنا لقلَّة علمنا، فهذا شيء نحمد الله تعالى عليه، ولكن بعد أن عَقَلْنا أبواب التخطيط، فلا يُعذر الجاهل بجهله، ومَن عبَد اللهَ على جهلٍ فكأنما عصاه.
مسألة واقعية خطيرة:
وهنا أمرٌ لا بد مِن الإشارة إليه، وهو أن كثيرًا مِن الدعاة ما زالوا يعيشون في مرحلة الصحوة الأولى، ويَبنون نتائج دعوتهم على أن يكون الشخص المدعوُّ في قمَّة التزامه بدقائق تعاليم الإسلام، ويريدون أن يصنعوا مِن جميع شباب الصحوة رواحلَ للبناء، الواحد منهم بألف مِن مِثْله، وإن لم يتحقق ما أراد وَجَد اليأسُ إلى قلبه مدخلًا، ووجدناه دائم السخط على شباب الدعوة والصحوة؛ بدعوى أنهم لا يرتقون إلى الدرجة المُثلَى في الْتزامهم وعلاقتهم مع ربهم تعالى.
وهنا أنوِّه بأنَّ المرحلة التي نعيش خلافُ التي مضت؛ فلا تقديسَ لفكرة الانتقاء الأُولى، بل وجب على حركات الصحوة الإسلامية أن تُعيد النظر مِن جديد إلى هذه القضية الهامَّة، وجزى الله الداعية عبدَ المنعم العزِّي المعروف بالراشد لَمَّا قال: "ويتطلب الأمر منا أن نَقبل في صَفِّنا بنصف الشجاع، وبنصف الذكي، وبالساذج المتعبِّد الذي لا يُحسن السياسة، وبالسياسي اللَّبِق جافِّ القلب، الحريص على مصالحه، وبالأقل كرمًا - ما داموا كلهم يقيمون فروضَ العبادة، ويلتزمون فكرنا وإسلامنا".
إن هذه المرحلة تقتضي أن نجنِّد كلَّ الناس لخدمة مشروعنا الإسلامي في ظل الهجمة العالمية ضدَّنا، وهذا ما كان على زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كُتِبَ الجهادُ على كل رجل منهم خِفافًا وثِقالًا، ولمَّا تخلَّف ثلاثة منهم يومَ تبوك، تعلمون ما حَدَث لهم من شديد عتابٍ وعقاب.
ومن الحِكمة كذلك أن نتنازل عن بعض مبادئنا في الوسائل؛ لنحقِّق خيرًا أعمَّ، فرسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم يومَ الحديبية قَبِلَ بعضَ الشروط المُجحِفَة؛ كَمَحوِ البسملة، وعدم التنصيص على صفة رسالته صلَّى الله عليه وسلَّم.
فيا أيها الدعاة، سِيروا وَفق السياسة التجميعية، لا القائمة على الانتقائية إذا اقتضَت المصلحة الشرعية ذلك؛ فإنها سمةٌ في الصفوف الأُولى، التي يقُوم عليها البنيان، وإني لأُومن بفكرة وجود مساحة كبيرة لهذه الأعداد الكثيرة من الوافدين لمَيْدان الدعوة، ورياض الصحوة، فلا يُغلَق البابُ في وجه أحد.
وإننا سنجني الكثير مِن فوائد هذا الطرح يوم يلتقي الجَمْعان، ولا بأس أن نجعل المرحلة مرحلتين: واحدة للدعوة العامة، ثم تبدأ فكرة الانتقائية مِن جديد داخل المرحلة الأولى.
وإني لأُذكِّر أحبابي الدعاة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتألف قلوبَ الناس ببعض الهِبات والغنائم؛ ليقول لنا أحدُهم بعد ذلك: واللهِ ما دخلنا الدِّين إلا لهذه الأموال، فلمَّا باشر الإيمانُ قلوبَنا تركْنا الأموالَ، وأقبلْنا على الله تعالى، ولهذا جنى الإسلامُ يومها خيرًا عميمًا، ولله الحمد أولًا وآخرًا.
وبقي لنا أن نُذكِّر الأخ السائر في درْب الدعوة إلى الله تعالى بأمرين، لهما من الأهمية حظ وافر:
أولهما: أن يكون للداعية رصيد إيماني؛ فهو على علاقة طيبة مع الله تعالى، لا يرعى حيث يرعى الناسُ، فهو له تميُّزٌ في كل شيء؛ لأنه القدوة الحسنة، والأُسوة الطيبة، والناس تسكن نفوسُهم بوجودِه بينهم، ولذلك لما عُوتِبَ أحد العلماء في زمن التابعين: لِمَ تَمكُثُ أكثر ليلِكَ بين علم وعبادة؟ فقال: وكيف أنام وجموع المسلمين نائمة تعوِّل على أمثالنا؟!
وعن مثل هؤلاء يقول ابن الجوزي في "صيد الخاطر": "لله أقوامٌ ما رَضُوا مِن الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالِغون في كل علم، ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة، فإذا ضعُفَتْ أبدانُهم عن بعض ذلك، قامت النيَّات نائبةً عنهم، وهم لها سابقون".
وثانيهما: الدعوة إلى الله تعالى على علمٍ وبصيرة، فلا بد أن يتَسلَّح الداعيةُ بالعلم النافع المفيد، ويُقبل على العلم إقبالَ الجائع على الطعام، فهو زادُه وسلاحه، ولن ينجح في دعوته نجاحًا مُؤزَّرًا مميَّزًا إلا بأخذ قسطٍ وافٍ منه، ويُؤسِفُنِي أَنَّ كثيرًا مِن الخطباء يرتقون منبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دون تحضير مُسبَق، أو إعداد قيِّم، ويُقنِعُون أنفسهم بأن الله يفتح عليهم أثناء الخُطبة، وكأن اعتلاء المنبر كفيلٌ بأن تأتي معهم العلوم مِن كل حدَب وصوْب، وقد تتصارع الإشارات والفوائد فور إرادتهم لها!
فلا ينبغي هذا لِمَن له رسالة كريمة يودُّ أن يزرَعَها في قلوب المدعوين، فما من خطيب إلا وتُعرَض له خُطبته يومَ القيامة، فلا بد للأخ الداعية في أي ميدان أن يتوفَّر لديه قسطٌ يُسعفه في أداء مهمته؛ لنمتثل قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46].
وختامًا أقول:
ينبغي لشباب الإسلام الكرام، الذين أخذوا على عاتقهم مشروع الدعوة إلى الله تعالى أن يَحملوا هَمَّ دعوتهم آناء الليل وأطراف النهار، وأن يُعلنوا حالة الطوارئ القُصوى، فما عُدنا مِلْكًا لأشخاصنا، بل إن الأمَّة تعقد أملًا كريمًا علينا - بعد الله تعالى - وتنتظر منا أن نعيد أمجاد سلفنا الصالح؛ كأبي بكر وعمر، وخالد والقعقاع، وسعد والمثنى، وسلمة بن الأكوع، الذين خلَّدهم التاريخ لمَّا عاشوا لعقيدتهم، وماتوا وهم مسلمون.
حتى وإنْ لم تكن النتائج الدعوية مُرضِيَةً، فلنكثر الدعاء والعزم، ونأخذ بكامل الأسباب، فالدعاة في نهاية المطاف أُجَرَاء عند الله تعالى، أينما وحيثما وكيفما أراد منهم أن يعملوا، ولا عليهم أن تتَّجه الدعوة بعد ذلك إلى أيِّ مصير، فذلك شأن صاحبِ الأمر، لا شأن الأجير، وإن الله لن يُضِيع أعمالكم، بل سيوفِّيها لكم؛ فإنه لا يضيع أجر مَن أحسن عملًا.
فسيروا أيها الشباب في طريق دعوتكم، ولا تلتفتوا إلى المثبِّطين أو المخالفين، فالأمل بكم معقود، والخير فيكم باقٍ؛ {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44].
هَذَا، وَصَلِّ اللهُم وَسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا المُصْطَفَى مُحَمَّدٍ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين.
___________________________________________________
الكاتب:محمد بن محمد الأسطل
- التصنيف: