الجرائم الأخلاقية

منذ 2021-11-24

مهما تزيَّا الباطِلُ أثوابَ زورٍ، بما يوحي شياطينُ الإنس والجن من خطيئاتِ الفِكرِ وفواحِشه زُخرفًا وغرورًا[3]، إلا أن فِطرية الأخلاقَ الحميدة تظلُ ثوابتًا لا مُتغيِّرات

كفى بكتابِ الله أبلغ موعِظة، ولقد أحسن إلى نفسِهِ من أوردها موردًا عذبًا زُلالًا بلزوم كلامِ الله تعالى فأشبعها وأرواها كأحسَنِ ما يكونُ من شِبَعٍ وَ رِيِّ، فابتعثَ فيها روحًا سعيدةً ساميةً بإذنِ ربِّه، لم ينتَهِ بها حطُّ الرِّحَالِ إلا في دارِ كرامةِ الرحمن عز وجل؛ حيثُ منتهى النعيمِ الغَدِقِ أبدًا سرمدًا، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].

 

وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهُ، قَالَ: "لَيْسَ مِنْ مُؤَدِّبٍ إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى أَدَبُهُ، وَإِنَّ أَدَبَ اللَّهِ الْقُرْآنُ"[1]، وعنهُ أيضًا رضي الله عنه مرفوعًا: "إنَّ كُلَّ آدِبٍ يُحِبُّ أن تُؤتى مأدبتُه، وإنَّ مأدُبة الله هي القرآن"[2].

 

ومهما تزيَّا الباطِلُ أثوابَ زورٍ، بما يوحي شياطينُ الإنس والجن من خطيئاتِ الفِكرِ وفواحِشه زُخرفًا وغرورًا[3]، إلا أن فِطرية الأخلاقَ الحميدة تظلُ ثوابتًا لا مُتغيِّرات[4].

 

وتظلُّ العفَّةُ[5] إكليلًا زاهرًا يُتوِّجُ نفوسًا لم تزل على الفطرةِ أبِيَّاتٌ ذاتَ مروءةٍ وسُمُو وطُهر..

 

العرض القرآني لقصةِ قوم لوط عليه السـلام:

لقد اشتد تشنيع القرآن العظيم للجريمة الأخلاقية التي كان عليها قوم لوط عليهِ السلام؛ فظهرَ ذلك المعنى جليًّا واضحًا، من خلال:

أولًا: تعريف الجريمة النكراء التي كانوا عليها بـ (أل) في جميع مواضعِ القصة وسِياقاتها: قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]، وقال: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل: 54].

 

يقول مؤلف كتاب "أثر الغزو الفكري على الأسرة المسلمة": "ومما يُظهر فظاعة عمل قوم لوط وعظيم فحشه أن الله تعالى سمَّى الزنا (فاحشة)؛ قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، وسمَّى عمل قوم لوط (الفاحشة)؛ قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]، والفرق بين التسميتين عظيم، فكلمة (فاحشة) بدون الألف واللام نكرة، ويعني ذلك أن الزنا فاحشة من الفواحش، لكن عند دخول الألف واللام عليها تصير معرفة، ويكون حينئذٍ لفظ (الفاحِشة) جامعًا لمعاني اسم الفاحشة، ومعبِّرًا عنها بكل ما فيها من معنًى قبيحٍ"[6].

 

كما خلت ذاتُ المفردة من التعريف في سياقٍ تحذيريٍ آخر في معرِضِ حفظِ المقامِ الأبوي وتحذيرِ البنين من انتهاكه - رغم التشنيعِ بمفردة أخرى وهي "المقت" - فقال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22].

 

مما يُبيِّن عِظَم هذه الكبيرة من كبائر الذنوب والعياذُ بالله، وبالتالي فلا ينبغي التهوينُ من شأنها بحال، وإلا بات استخفافًا بحدودِ الله عز وجل.

 

ثانيًا: عدم إيراد وصف (الملأ) في جميعِ سِياقات قصة قوم لوط: ففي معرِض ذكر الأنبياء وقصصهم مع أقوامهم من الكفار وردود الآخِرين على أنبيائهم، تنوَّع العرض القرآني لذلك، فجاء نعت أولئك الأقوام تارةً بـ(الملأ)، وهم الأشراف وعِلِّيَّةُ القوم، بينما خلت جميع مواضع قصة لوط عليه السـلام من وصف قومِهِ بـ(الملأ)، وكأن الإشارة: أن صاحِب النفس الشريفة العالية يأبى طبعًا وجِبِلَّةً وفطرةً تلك الجريمة الأخلاقية النكراء.

 

ثالثًا: أن الله عز وجل قد جَمَع عليهم أكثرَ من عقوبةٍ ساحِقة، فقُلِبَت ديارُهم رأسًا على عَقِب، وأخذتهم الصيحة، واتبِعُوا بحجارةٍ من سجيلٍ منضود، قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 73، 74].

 

ووردت الإشارة إلى المعنَيان[7] في سياقِ بيعَةِ النساءِ، بآخرِ سورةِ الممتحَنة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12].

 

ما يدلُّ دلالةً واضحة على عِظَمِ تلكم الجرائم الأخلاقية، التي بات الإعلام الفاسِد مروِّجًا ومبررًا لها، بل حاميًا ومؤطِرًا لها بمزاعم شتى، في حينِ أن ذلكم الزخم الزائف ليسَ بمغيِّرٍ من حقيقتها شيئًا، وليس بمضفٍ عليها من الشرعية قَيدَ أُنملة!.

 

يقول الباحث محمد هلال: "ولما كانت هذهِ الفعلة من أعظمِ المعاصي والكبائر التي توجب غضب الرب تعالى، كان عقاب أصحابها من أفظعِ العقوبات وأشنعها، فقد حكى الله سبحانه وتعالى كيف عاقبهم بعد أن عَتَوْا واستكبروا، فقال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82، 83].

 

ولم تكن هذهِ الفاحشة معروفة لدى العرب في جاهليتهم، ورغم هذا فقد حذَّر الرسول صلى الله عليـه وسلم منها، وكأنَّهُ أُلْهِمَ وقوعها في الأمة، وابتلاء البعض بها؛ حيث قال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط»[8]، وبالفعل ظهرت حالات كثيرة من الشذوذ في أوساط المسلمين بعد أن تسرَّبت العدوى إليهم من المجتمع الغربي[9] الذي انحدر إلى دركٍ سحيق من الانحراف والشذوذ، بل أصبحت هناك جمعيات رسمية تحمي الشاذين وتنظم عملهم القبيح"[10].

 

إن من المُؤسِفِ المُحزِنِ حقًّا أن يتخلى بعض الكِبار من الأبوين أو بعضِ المربين[11]، عن أدوارهم التربوية العظيمة المناطةِ بهم، والنصح الواجب عليهم إزاء مثل تلك الحالات الأخلاقية، واتباع النصح بالكلمة الحانية الطيبة الصالحة تارةً، وما تقتضيه الحالة تارةً أخرى؛ من احتواءٍ وتعرُّفٍ على أسباب المشكلة، ونصحٍ وإرشاد وتوجيهٍ للطاقات[12]، واستنفاد الوسائل في ذلك التقويم ترغيبًا وترهيبًا، وذكرُ ما اشتملت عليه النصوص الشرعية من التحذير والوعيد في ذلك، بدعوى أن التوجيه غير مُجدٍ في هذا الزمان؛ حيثُ استشراء تلكم الجرائم الأخلاقية وانتشارها بسبب الإعلام الفاسد وعبر وسائلِ التواصلِ المختلفة، وبدعوى أن الأمرَ هيِّن، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].

 

ختامًا: كان من دُعائه صلى الله عليـه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِي أَسْأَلُكَ الهُدَى، وَالتُّقَى، وَالعفَافَ، والغنَى»[13].

 

فجميلٌ أن نعلمَهُ الأبناءَ والناشئة ونذكرُهم به كل حين، سائلين الله الولي الحميد الحفيظ أن يكلأهم بحفظه وعنايته، وأن يرُدَّ عبادَهُ إلى دينِهِ ردًّا جميلًا، ويهدي الحَيارى لسبيلهِ القويم، والحمدُ للهِ أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا وكل حين..

 


[1] صحيح الدارمي.

[2] قال شيخ الإسلام رحمهُ الله: "رُوي مرفوعًا وموقوفًا".

[3] أنكرت إحدى الأخوات استخدامَ أخرى لرمز "قوسِ الألوان" ببرنامج المحادثة (الواتس) بدعوى أن ذلك شِعارَ ما أسمتهم وسمَّاهم العقل المشوَّه بـ (المثليين)، فقالت المتحدثة: "سبحان الله!؛ نحنُ أولى بمعاني الجمال في الحياةِ منهم!، وليس من العقلِ - مهما شُوِّهت الفطرة وأُلبِسَ الباطلُ أثوابَ زور - أن نتنكَّر لجمالٍ أبدعهُ الخالق في مُلكهِ وملكوتِهِ العظيم، لمجرد أن بعض الخلق قد استخدمَهُ استخدامًا زائفًا مُشوَّهًا لتبريرِ الباطِل!. أفلا تركتِ شُرب الماءِ البارد لأن كافرًا لا يؤمن بالله واليومِ الآخرِ يشربه ويمتدحُهُ في كتاباته! أفَنَدَعُ معالم الجمالِ لهم لمجرد اتخاذهم لها أمثلةً وشِعارً؟! أفلا يُفضحُ باطلهم انتصارًا للحق بدلًا من الركون إلى مزاعمهم، والتحامُل على آيةٍ من آياتِ الله العظيمة الرامزةِ للبُشرى والبشائر؟!".

[4] قالوا في الكذب: "تواطأ البشر من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا على ذمِّ الكذب". وبنى شيخ الإسلام رحمهُ الله قاعدة مفادها أن: (الأمور التي يتفق عليها عقلاء بني آدم لا تكون إلا حقا)؛ فعقلاء بني آدم متفقون على حمد الصدق وعلى تقبيح الكذب، قال شاعر:

لا يَكْذِب المرء إلّا مِن مَهَانَتِهِ ♦♦♦ أو عَادَةِ السُّوءِ أو مِن قِلَّة الأَدَبِ.

وقال آخر عن قيمة الصدق:

عليك بالصدق ولو أنه 

أَحْرقَكَ الصدقُ بنار الوعيد 

وابْغِ رضا المولى فأَشْقَى الورى 

من أسخط المولى وأرضى العبيد 

[5] "العِفَّة": مصدر من (ع ف ف) التي تدل على الكفِّ عن القبيح، وهي اصطلاحًا: ضبط النفس عن الشهوات، واجتناب السَّرف في الملَذَّات وقصد الاعتدال، وعرَّفها بعضهم بأنها: الكَفُّ عما لا يَحِلُّ ويَجْمُل. وهي نوعان: أحدهما العفة عن المحارم، والثاني العفة عن المآثم. فأما العفة عن المحارم فنوعان: أحدهما: ضبط الفرج عن الحرام، والثاني: كف اللسان عن الأعراض. انظر: الدرر السنيَّة، موسوعة الأخلاق؛ أقسام العفة: https://2u.pw/Xtitw

[6] أثر الغزو الفكري على الأسرة المسلمة وكيفية مقـاومته، رسالة مقدمة لنيل درجة التخصص "الماجستير" في الدعوة والثقافة الإسلامية، بكلية أصول الدين والدعوة بالزقازيق، إعداد الباحث: محمد هلال الصادق هلال، 1421هـ - 2000م، ، ص240.

[7] كلًا من الزنا والبهتان والعياذُ بالله. فأولاهما؛ فطرةٌ غير شرعية، وأخراهما؛ يدخلُ فيه معنى الشذوذ والانحراف عن الفطرة - وهو أشد-، وكِلا الأمرَينِ عظيم.

[8] إسنادُهُ حسن.

[9] لولا حياءُ المِدادِ لسطَّرتُ بعضًا من تصريحاتِ دهاقِنَةِ المكرِ الكُبَّار ممن لا يؤمن بالله واليوم الآخر بعالمنا المُعاش اليوم، والتآمر الموجَّه؛ ليس ضد العالم الإسلامي فحسب، وإنما ضد الفِطرةِ والفضيلةِ والأخلاقِ والإنسانيةِ جمعاء.

[10] أثر الغزو الفكري على الأسرة المسلمة وكيفية مقاومته، ص241.

[11] لقد كان الباعث على كتابة هذه الأسطر كلام أحد الآباء عن ابنهِ الذي يدرس بالمرحلة المتوسطة حين أُخبِرَ عن ابنهِ، فقال: "دعهُ يُجرِّب الحياة"!، وقول آخر: "إنهم صِغار"!!.

[12] بإشغال الناشئة فيما يفيد ويعود عليهم وعلى أمتهم بالنفع؛ كإثراءِ خبرتهم بمختلف الأنشطة اللاصفيَّة وإعلاءِ هِمَمِهم بترغيبهم في مختلف مناحي التطوع وأعمال الخير والبِر، فمثلًا عمد أحد الأساتذة الفضلاء إلى توجيه شباب الفصل لتنظيف حديقةِ الحي في فعاليات يوم الشجرة العالمي؛ وذلك ضمن فِرقٍ تولى ترتيبها وتنظيم مهامها رائد الفصل، فكان عملًا بديعًا ومظهرًا حضاريًا فذًّا رَسَمَ على مُحيا الطلاب ابتسامات الرضا عما قاموا به من أعمالِ خيرٍ وطَّدت الصِّلات بينهم جرَّاء ذلك التعاون البنَّاء، وزَرَعَتِ الألفة والمحبة في أوساطهم، فيُقال: ماذا لو كانتِ الأيَّامُ كُلها يوم شجرة، ويوم معلم، ويومَ أُم وأبٍ، إذ الأخلاقُ في ديننا سجيَّة، والمعالي منها، مكرُماتٌ فِطرية بأرضٍ طيَّبة ومجتمعٍ كريمٍ مِعطاء؟!

[13] رواهُ مسلم.

________________________________________

المؤلف: مريم بنت حسن تيجاني

  • 1
  • -1
  • 1,956

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً