الهوية الإسلامية والمؤامرة عليها - (2) خصائص الهوية الإسلامية التي جعلت الأعداء يخافونها
لماذا كلُّ هذا الخوف من الهويَّة الإسلاميَّة، بالرَّغْم من الضَّعف الواضِح الَّذي يَحياه المسلِمون؟
السؤال الذي يطْرح نفسَه: لماذا كلُّ هذا الخوف من الهويَّة الإسلاميَّة، بالرَّغْم من الضَّعف الواضِح الَّذي يَحياه المسلِمون؟
والإجابة عن هذا السؤال تكمُن في اشتِمال هذه الهويَّة على خصائص معيَّنة، جعلتْها قادرةً على صهْرِ الهويَّات الأخرى في بوتقتِها، في أيِّ حالةٍ، سواء أكانت قويَّة أم ضعيفة.
من أهم هذه الخصائص:
أوَّلاً: هويَّة عقيدة صحيحة صادقة تأبَى الذُّلَّ والخضوع:
تعتبر هذه الخصيصة هي الأساس الَّذي تقوم عليْه هويَّتنا الإسلاميَّة، فليْس الولاء عندَنا للجِنس ولا للَّون ولا للأرْض، وإنَّما الولاء للإسلام، وليْس معنى هذا أنَّ الإسلام يَمنع حبَّ القَوم والوطَن، بل إنَّ الإسلام يحثُّ عليْه ويرحِّب به.
وهنا يظهر الفرْق بين حبِّ ذي العقيدة الصَّحيحة لقوْمِه ووطنِه، وحبِّ أدْعياء القوميَّة والوطنيَّة؛ فالمسلم الصَّحيح يعتبِر حدود الوطنيَّة بالعقيدة، والقوميُّون والوطنيُّون يعتبرونَها بالتُّخوم الأرضيَّة والحدود الجغرافيَّة.
وإذا كانت مهمَّة أدْعياء الوطنيَّة والقوميَّة المجرَّدين عن العقيدة يروْن مهمَّتهم عند حدود تحرير الوطَن واستِرْداد مجده، فإنَّ أصحاب الهوية الإسلامية يروْن ذلك بعض الطَّريق أو مرحلة من مراحله، ويبقى عليهم بعد ذلك أن يعملوا لتُرفع راية الوطن الإسلامي على كلِّ بقاع الأرض، ويخفق لواء المصحف في كلِّ مكان[1].
ولعلَّ هذا الجمع بين الولاء للعقيدة والانتِماء والحب للقوم والوطن، يعدُّ من البدائع التي وفَّق بها الإسلام بين أمرَين قد يبدوان مُتناقِضَين:
الأمر الأوَّل: إذابة كلِّ الأعراق والأجناس والانتِماءات في رسالة واحدة، وهي الإسلام.
الأمر الثاني: عدَم إلغاء انتِماء الأفراد والجماعات للقبائِل والأجناس واللغات، فهذا عربي وهذا بربري، لهم لغاتُهم وأصولهم، ولكن كل ذلك في إطار الإسلام والتفاضل بالتقوى.
وكونها عقيدة صادقةً جعلها تغرس في نفوس أبنائِها حبَّ الجهاد والشِّهادة، والاستِعلاء على الخضوع للغُزاة المحتلِّين، ويُعتبر هذا الأمر من أخْوف ما يَخافه الأعْداء؛ لذا نجِدُهم دائمًا حريصين على تغْيير مسار الثَّورات في عالمِنا الإسلامي من اتِّجاهها الإسلامي إلى اتِّجاهات قوميَّة أو وطنيَّة؛ وما ذلك إلاَّ لعلم المستعمر أنَّه لا يستطيع احتِواء الإسلاميِّين؛ لأنَّ الأمر عندهم لا يعْدو أحد غايتين: النَّصر أو الشهادة، أمَّا القوميُّون والوطنيُّون فيمكن احتواؤُهم بشيء من الوعود الكاذبة أو المعاهدات الخادعة.
ولعلَّ هذا الكلام يذكِّرنا بثورة القاهرة 1919م ضدَّ الاحتِلال، فلمَّا وجد الإنجليز الثورة تخرُج من الأزهر، أدْركوا أنَّها ثورة إسلاميَّة ولا طاقة لهم بها؛ ولذلك أسْرعوا بالاستِجابة لطلب اللورد "اللنبي" المندوب السَّامي في مصر، حينما قال: "إنَّ الثورة تنبع من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة".
ومن ثَمَّ طلب منهم الإفراج عن سعد زغلول وإرجاعه إلى القاهرة، وكان سعد زغلول مسيطرًا على الرأْي العام، فاستطاع وقْف الثَّورة على أساس التفاوُض مع الإنجليز، ولمَّا فشلت المفاوضات قال كلمتَيْه الشَّهيرتَين: "خسرنا المعاهدة وكسبْنا صداقة الإنجليز" و "الإنجليز خصوم شرفاء معقولون"[2].
وبذلك هدأت الجماهير على يد قوَّادها القوميين، وهذا المغنم ما كان يَحصل عليه الغزاة من قادةٍ إسلاميِّين أصحاب عقيدة راسخة، وحرص صادق على إحدى الحسنَيَين.
"إنَّ خطر القوَّة الكامنة في العقيدة على الاستِعمار ينبُع أوَّلاً من أنَّ الإسلام قوَّة تحريريَّة هائلة، وروحه تأبَى كلَّ اعتداء على الحرية، وتقاوم هذا الاعتداء بصلابة، تقاومه مقاومة إيجابيَّة تهون في سبيلها الأرْواح، ويهون فيها البذل والتَّضحية، فإذا ما استيقظت روح الإسلام في أمَّة، فمن المحال أن تتخلَّى عن حرِّيَّتها، ومن المحال أن تسكت عن الصراع الإيجابي الذي يحطِّم قواعد الاستعمار تحطيمًا.
كذلك ينبع الخطَر على الاستِعْمار في العقيدة الإسلامية من أنَّها: عقيدة استعلاء واعتزاز وكبرياء؛ فالمسلم حين تستيقظ فيه روح الإسلام، لا يُطيق أن يعلو عليه أحد، ولا يُطيق أن يذلَّ لأحد، ومن ثم ينظر إلى الاستِعمار الأجنبي نظرتَه إلى المنكر الذي تتحتَّم إزالته، ويتحتَّم كفاحه؛ تحقيقًا لعزَّة الإسلام، وصيانة لكرامة المسلمين، وابتغاءً لمرضاة الله.
وثمَّة منبع ثالث للخطَر على الاستِعمار من العقيدة الإسلامية: أنَّها عقيدة تجعل من الوطن الإسلامي كلِّه وحدةً، من اعتدى على شبر منهم فقدِ اعتدى عليهم جميعًا، وعندئذٍ يتحتَّم على كلِّ مسلم في أطراف الأرض كلِّها أن يُعْلِن الجهاد لردِّ الخطر عن ذلك الشبر الواحد من تلك الرقعة الإسلاميَّة العريضة.
وما من مسلم في أقصى الأرض، ما من مسلم حقٍّ، يسمع أو يعلم أنَّ عدوًّا داس على شبر من أرض الإسلام، ثمَّ لا يندب نفسه للذَّود عن أرْض المسلمين وكرامة المسلمين.
وهنا يَكمن الخطر الأكبر على الاستِعمار، خطر التجمُّع والتكتُّل تحت لواء واحد للمقاومة والكفاح، بروح التَّضحية والفداء"[3].
ثانيًا: شموليَّتها وملاءمتها لجوانب الإنسان وأطوار حياتِه:
تعدُّ هذه الخصيصة من أعظم الخصائص التي تميَّزت بها الهوية الإسلامية، والتي كانت سببًا في إذابتها لكثير من الهويَّات في بوتقتها، لقدِ ارتفعت بعض الهويات في فترات زمنيَّة - طويلة أو قصيرة - ولكنَّها كانت ترتكز في ارتِفاعها هذا على الحديد والنَّار كوسيلة للقضاء على كلِّ هويَّة تعترض طريقها.
أمَّا الهويَّة الإسلاميَّة، فإنَّها في سعْيِها للارتفاع تسعى لفتْح الإنسان عبر متطلَّبات فطرته الشموليَّة، وإذا تمَّ فتح الإنسان باقتِناع عقله وانفِتاح قلبه، استسلم الحديد والنَّار تلقائيًّا بإسْلام حاملِهما.
إنَّ الواقع الأليم والتِّيه الذي تَحياه البشريَّة لا يمكن الخلاص منه، والعالم يرفض الإسْلام ويلتمس الشِّفاء من مواضع الدَّاء.
يقول الأستاذ وحيد الدِّين خان: "إنَّ دراسة العالم المعاصر تدلُّنا على أنَّ فيضان النَّهضة المادِّيَّة قد وصل إلى آخر مداه، وأنَّها غير قادرة على إعْطاء السَّكينة لقلْب الإنسان، إنَّ موجةً من انعِدام الثِّقة والطمأنينة النفسيَّة تغْزو العالم، إنَّ الدين ينهض اليوم من جديد في روسيا، بعد نصف قرن من القهر، وحركات الشباب الفوضويَّة في الغرب نتاج لانعِدام الطمأنينة، ويُطْلِق شباب اليابان اسم "ثقافة التجارة" على ثقافتهم التي لا توافق سوى جزءٍ من حاجات الوجود البشري.
إنَّ داء "القلق" وانعدام الثِّقة قد غزا الجيل الجديد في العالم كلِّه، إنَّ هذه الأحوال تُتيح فرصة ذهبيَّة لحاملي دين الفطرة لإرْواء عطش العالَم ولإظهار دين الله"[4].
نعم، إنَّ الواقع الغربي وما فيه من خواء رُوحي زاد من نسب الانتِحار من توفُّر المتع واللَّذائذ والشهوات، وهذا خير دليلٍ على مدى احتِياج البشريَّة إلى هذا الدين - دين الفِطَر التي فطر الله النَّاس عليها - الَّذي يشبع في النَّفس البشريَّة كلَّ متطلَّباتها، ويأخذها من كلِّ جوانبها، فلا يأخذ جانبًا ويدَع الآخر، بل يأخذ الإنسانَ في تناسُق وانسجام من جَميع جوانبه.
بل ويضاف إلى كونِها شاملةً للإنسان من كلِّ جوانبه، فهي كذلك شاملة للبشر جميعًا، لا تقرُّ فرقًا بين إنسانٍ وآخَر بناءً على لونِه أو جنسه؛ إذ القاعدة: "إنَّ أكرمَكم عند الله أتْقاكم"، و "لا فضْلَ لأبيض على أسودَ إلاَّ بالتقوى والعمل الصالح" و "النَّاس سواسية كأسنان المشْط".
وهذه المعاني وإن كانت البشريَّة تحْلم بنزولها إلى أرْض الواقع في عالمنا المعاصر، فقد نزلت في ظلِّ الإسلام إلى هذا الواقع المعاش في فترات طويلة من التَّاريخ الإسلامي.
نعم، أوليستْ هويَّتنا الإسلاميَّة هي التي جعلت عبدالملك بن مرْوان يأمر المناديَ أن يناديَ في موسم الحج أن: لا يفتي النَّاس إلاَّ عطاء بن أبي رباح إمام أهل مكَّة وعالمها وفقيهها، ومَن عطاء؟ كان مولى لبني فهر، وكان - رضي الله عنْه - أسود، أعور، أفطس، أشلّ، أعرج، مفلْفل الشعر، لا يتأمَّل المرء منه طائلاً، وكان إذا جلس في حلْقته العلميَّة بين الآلاف من تلاميذِه، بدا كأنَّه غراب أسود في حقْل القطن[5].
بل أليستْ هي الهويَّة التي أعطت الفرْصة لبلال الحبشي - رضِي الله عنه - أن يصْعد فوق الكعبة ليؤذِّن، وبجوارها الكثير من أشْراف العرب؟!
فانظر إلى هذا المستوى من الإنسانيَّة الذي تميَّزت به هويَّتنا الإسلاميَّة، على خلاف ما يَحدث بين أصحاب الهويَّات الأُخرى في البلد الواحد، حتى إنَّك لتجد التفرقة العنصريَّة في أشدِّ دول العالم الغربي مناداة بالحريَّة والمساواة، وبالطَّبع كان لهذه الخصيصة أعظمُ الأثر في إقْبال النَّاس على الإسلام ودخولهم فيه.
ثالثًا: هوية حيويَّة قادرة على إخضاع الهويَّات الأخرى:
وتعتبر هذه الخصيصة كذلك من الخصائص التي تَجعل أعداء الإسلام يخافون أشدَّ الخوف من الهوية الإسلاميَّة، ولقد سبق أن ذكرْنا كدليلٍ على مدى هذا الخوْف قولَ نيكسون رئيس أمريكا سابقًا: "إنَّنا لا نخشى الضَّربة النوويَّة، ولكن نخشى الإسْلام والحرب العقائديَّة الَّتي قد تقْضي على الهويَّة الذاتيَّة للغرب".
ولقد تحدَّث علماء الغرْب عن حيويَّة الإسلام وقدرته على استِيعاب أطوار الحياة، وقدرته كذلك على توليد أفكار جديدة، ومن هؤلاء العلماء "هوكنج" أستاذ الفلسفة في جامعة هارفارد، حيث يقول في كتابِه "روح السياسة العالميَّة": "أحيانًا يتساءل البعض، عمَّا إذا كان نظام الإسلام يستطيع توْليد أفكار جديدة، وإصدار أحكام مستقلَّة تتَّفق وما تتطلَّبه الحياة العصريَّة، فالجواب عن هذه المسألة: هو أنَّ في نظام الإسلام كلَّ استعداد داخلي للنموّ، بل إنَّه من حيث قابليَّته للتطوُّر يفضل كثيرًا من النظم المماثلة، والصعوبة لم تكُن في انعدام وسائل النمو والنهضة في الشَّرع الإسلامي، وإنَّما في انعدام الميْل إلى استخدامها، وإنِّي أشعر بكوْني على حقٍّ حين أُقرِّر أنَّ الشَّريعة الإسلامية تحتوي بوفْرة على جميع المبادئ اللازمة للنهوض".
وهذا أيضًا الكاتب الأيرلندي "برنارد شو" يتحدَّث عن حيويَّة الإسلام، واستيعابه أطوار الحياة المختلفة، فيقول: "الإسلام هو الدِّين الوحيد الَّذي يمتلك القُدْرة على استيعاب أطوار الحياة المختلفة في كلِّ العصور".
وهذا أيضًا المبشِّر "لورنس براون" يقول: "لقد كنَّا نخوف بشعوب مختلفة، ولكنَّنا بعد اختِبار لم نجد مبرِّرًا لمثل هذه المخاوف، لقد كنَّا نخوف من قبل بالخطر اليهودي، وبالخطر الأصْفر، وبالخطر البلشفي، إلاَّ أنَّ هذا التخوُّف كله لم يتَّفق كما تخيَّلناه، إنَّنا وجدنا اليهود أصدِقاء لنا، وعلى هذا يكون كلُّ مضطهد لهم عدوَّنا الألد، ثمَّ رأيْنا أنَّ البلاشفة حلفاء لنا، أمَّا الشعوب الصفر فهناك دول ديمقراطيَّة كبرى تقاومها، ولكنَّ الخطر الحقيقيَّ كامن في نظام الإسلام وفي قوَّته على التوسع والإخضاع، وفي حيويَّته، إنَّه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي"[6].
فانظُرْ إلى نصائح المبشِّرين لقومهم، بالرَّغم من أنَّ المفروض وهم يدَّعون أنَّهم أتْباع دين سماوي أن يكونوا في صفِّ الإسلام باعتِباره دينًا سماويًّا كذلك، أو أن يكونوا مُحايِدين على أقلِّ تقدير، لا أن يتآزَروا ضدَّه مع الماديِّين الَّذين لا يؤمِنون بالأدْيان كافَّة.
ولكن لا عجبَ، فقد سبقهم سلَفٌ لهم من أهل الكتاب نهجوا أمامَهم هذا النهج، وقال الله - عزَّ وجلَّ - عنْهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِيـنَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء: 51، 52].
ــــــــــــــــــــ
[1] ينظر: رسالة دعوتنا، ص 19 : 22 بتصرف، طبعة دار التوزيع والنشر الإسلامية.
[2] ينظر: واقعنا المعاصر، محمد قطب ص 323 : 324 ط الأولى، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر 1986.
[3] دراسات إسلامية، ص 170، 171 طبعة دار الشروق ط 10، 1422 هـ - 2002 م.
[4] الإسلام والعصر الحديث، وحيد الدين خان، ص 51 مطبعة المختار الإسلامي للطباعة والنشر والتَّوزيع، الطبعة الثانية 1978.
[5] ينظر: من روائع حضارتنا، مصطفى السباعي ص 67، 68.
[6] ينظر: أجنحة المكر الثلاثة، عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، ص 74، ط 6 دار القلم، دمشق 1990.
____________________________________________
الكاتب: د. ناصر دسوقي رمضان
- التصنيف: