أعظم محفز على العبادة
تأملتُ فإذا أكثر حافزٍ على العبادةِ وتذوُّق حلاوتها هو استشعار معنى الشكرِ أثناء تأديتها والقيام بها، وهذا المعنى كفيلٌ بأن يغيِّر نظرتك للعبادة..
تأملتُ فإذا أكثر حافزٍ على العبادةِ وتذوُّق حلاوتها هو استشعار معنى الشكرِ أثناء تأديتها والقيام بها، وهذا المعنى كفيلٌ بأن يغيِّر نظرتك للعبادة، ويفتح لك فيها آفاقًا رحبة واسعة، وهو معنى عظيم القدر، واسع الدلالة، ويكفيك أن عائشة رضي الله عنها رَوَتْ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلتُ له: لمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أحبُّ أن أكونَ عبدًا شكورًا» ؟.
نعم، إن وقوفه طويلٌ، ومداومته على الصلاة، وصبره على مقاساة الوقوف؛ ليكون شاكرًا لله تعالى، فما أعظمه وأجلَّه وأفضله وأكمله وأزكاه من معنى يحلق بالعابد كالطير غريدًا في سماء العبودية!
قد يستحضر العبد الرغبة في الثواب أو النجاة من العقاب، لكن ما مثل استحضار معنى الشكر، فمن أسدى إليك نعمة ولو يسيرة، فكيف تشعر بالامتنان له؟ فما بالك بصاحب النعم كلها عليك قديمها وحديثها، كبيرها وصغيرها؟ فهو معنى عظيم يحفزك للطاعة، ويدفعك لها، فما أروعك وأنت تقف في محراب العبودية شاكرًا الله على آلائه الجسيمة، ونِعَمِهِ العظيمة، وعطاياه العميمة! فنِعَمه لا تعد ولا تحصى، فمن نعمة الصحة والعافية إلى نعمة المال والأهل والولد، إلى نعمة العقل، إلى أعظم نعمة وأجل كرامة؛ وهي نعمة الإسلام، ومن ثم نعمة الهداية إلى الإيمان، وفي كل نعمة تفاصيل مدهشة ومعانٍ منعشة.
إن هذا الحديث له نكهةٌ خاصةٌ جديرة بالتأمل، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أتقى الناس، وأعبدهم لله، وأدومهم على الطاعة، ومن هنا تَلمَح سرَّ الحافز له على تكليف نفسه في أدائها، والدافع له في الاستمرار عليها، رغم ما يحصل له أثناءها.
ولتعلم أن استشعار هذا المعنى في العبادة، والاستمرار على تذكره يقلبُ مشقتها إلى حلاوة، وعناءها إلى هناء، وتعبها إلى راحة، وقليل من يستشعر هذا المعنى؛ ألم تقرأ قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وخصَّ بالذكر عباده، ولم يقل: الناس أو الخلق، فالشاكرون خيار من خيار، وقليل من قليل، وهم خواص الخواص، وخُلص الخُلص.
إذًا؛ ليس من غايات العبادة محو السيئات، وتحصيل الحسنات فقط، بل مَن عرَفَ نعم الله عليه، وكيف أنه مغمور بها، سينجذب قلبه، وتهفو روحه؛ لأن يعترف بهذا الإفضال، وينغمس في الشكر على هذا النوال، ولا يملك إلا أن ينقاد لله في عبادته معظمًا لجلاله، مكثرًا من كل عمل صالح يقربه منه شكرًا لربه، وإنَّ استشعار معنى الشكر أثناء تأدية العبادة مما يصفيها من الشوائب، وينقيها من الأكدار، وكما أن الله وصف به خواص خلقه، فقد جعله غاية خلقه، بل غايته من عبده؛ فقال: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، ومن تأمله وجده مقابل الكفر؛ فقد قال سبحانه: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
ومن تأمل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها عرف أن الشكر يكون أيضًا بالجوارح والأركان، لا باللسان فقط؛ ومن تأمل في قوله تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، عرف أن العبادة برمتها إما ذكرٌ أو شكرٌ، وأن الشكر مقرون بالإيمان؛ كما قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147].
وخذ لمحة عن نعم الله عليك التي لا بد أن تستحضر شكره عليها قبل صلاتك، وتخيَّل عدَّاد النعم التي تُعدُّ بالمليارات، بل لا يقدر الناس، ولو اجتمعوا على حصرها في جسد رجل واحدٍ منهم، ودنياك هذه مهما بَلغْت فيها، حتى وإن ملكتها لا تقدر أن تعطيك شَربة، أو تسهل لك خروجها، وتأمل معي موقفًا واحدًا فقط، فقد "دخلَ ابنُ السَّمَّاك عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَقَالَ لَهُ: عِظْنِي، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَوْ مُنِعَ عَنْكَ الْمَاءُ سَاعَةً وَاحِدَةً كُنْتَ تفتديها بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَوْ مُنِعَ عَنْكَ الْبَوْلُ سَاعَةً وَاحِدَةً كنت تفتديها بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَمَا تَصْنَعُ بِدُنْيَا لَا تَشْتَرِي بَوْلةً وَلَا شَرْبَةَ مَاءٍ؟".
هذا غير أعظم نعمةٍ على الإطلاق وهي نعمة الإسلام التي وفقك لها وأنعم بها عليك دون طلبٍ منك، فكيف لو استحضرت جلال هذه النعم أثناء كل عبادة تقربت بها إلى ربك؟
أعتقد أن تحفيز النفس بهذا عند الدخول في العبادة سيغير طريقة عبادتك، بل أكاد أجزم أن هذا الشعور سيغير حياتك بالكلية.
_________________________________________
الكاتب: عامر الخميسي
- التصنيف:
- المصدر: