كيف تكون محبوبًا؟
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ ♦♦♦ فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الْإِنْسَانَ إِحْسَانُ
ما مِن أحد إلاَّ ويتمنَّى أن يكون له الأثرُ الحسن عندَ الناس حيًّا وميِّتًا، يتمنَّى أن يكون محبوبًا عندَ القريب والبعيد، إذا حَضَر احتُفي به، ولم يُملَّ منه، وإذا غاب افتُقِد وتشوَّفت النفوسُ إلى معرفة خَبرِه، والاطمئنان على حاله، فطلبُ محبَّة المؤمنين، وفِعْل الأسباب التي تؤدِّي إلى تحابِّ المؤمنين - عبادةٌ وقُربةٌ يحبُّها الله.
وكون الشخصِ محبوبًا سببٌ رئيس في التأثير في الناس والإصلاح؛ لذا فمِن أهمِّ ما يجب أن يعتنيَ به مَن لديه التطلُّعُ إلى التأثير الحَسَن في الناس، وتعديلِ السلوك السيِّئ، سواءٌ في أولاده، أو طلاَّبه أو مجتمعه، أو أُمَّته: أن يكون محبوبًا عندَ الناس، فلا بدَّ أن يكسب قلوبَ الناس بحُسن خُلقه وصبره، وإحسانه أوَّلاً، فقبلَ الأمر والنهي والتوجيه تكسب القلوبَ، فهذا مِن أهمِّ أسباب التأثير في الناس.
فمن أسباب جَلْب المحبَّة:
مُراعاةُ أحوال الناس من صِحَّة ومرض، مِن قوَّة وضَعْف، مِن فَرَحٍ وتَرَح، فعلى مَن له ولاية خاصَّة أن يراعيَ هذا الجانبَ، فعدم مراعاةِ هذا الجانب يجلبُ البغضاءَ والتشاحُن؛ فعن أبي مسعود قال: قال رجل: يا رسولَ الله، إنِّي لأتأخَّر عن الصلاة في الفجْر مِمَّا يُطيل بنا فلانٌ فيها، فغَضِب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما رأيتُه غَضِب في موضع كان أشدَّ غضبًا منه يومئذٍ، ثم قال: «يا أيُّها الناسُ، إنَّ منكم مُنفِّرين، فمَن أمَّ الناسَ فليتجوزْ، فإنَّ خلفَه الضعيفَ والكبيرَ وذا الحاجة»؛ «رواه البخاري (704)، ومسلم (466)».
ومن الأسباب الجالبة للمحبة:
التحيَّةُ عندَ ملاقاة الناس بالسلام، أو بغيره من التحايا؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لا تدخلونَ الجنَّةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أَوَلاَ أَدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحابَبتُم؟ أفْشُوا السلامَ بينكم»؛ (رواه مسلم (54.
وإفشاء السلام يكون برفْع الصَّوت، فيسمعه مَن حوله، وكذلك بكثرة السَّلام، فيُسلِّم على كلِّ مَن يلاقيه صغيرًا أو كبيرًا، يَعْرِفه أو لا يَعرِفه؛ فعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - أنَّ رجلاً سأل النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أي الإسلامُ خير؟ قال: «تُطْعِم الطعام، وتقرأُ السلامَ على مَن عَرَفْتَ ومَن لَم تَعرِف»؛ (رواه البخاري (12)، ومسلم (39.
فالسَّلام عبادةٌ تُبذل طاعةً لله، فلا يُخصُّ به الشخص المعروف، فمَن يُلقي التحية يُريدُ ذُخرَها وبِرَّها عند ربِّه، وهذا حاصلٌ بتحية مَن يعرف ومَن لا يعرف، فتخصيصُ السَّلام بالشخص المعروف صفةُ نقص؛ لذا كانت من علامات الساعة؛ فعَن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنَّ مِن أشراط الساعة أن يُسلِّم الرَّجلُ على الرجل، لا يُسلِّم عليه إلاَّ للمعرفة»؛ (رواه الإمام أحمد (3838) بإسناد حسن).
والأصلُ في التحايا التي يَعْتادها الناس الإباحةُ، سواء كانتْ يوميَّة، كـ"صبَّحك الله بالخير، ومسَّاك بالخير"، أم كانتْ بسبب مناسبة، كالأعياد، ودخول العام، أو حصول خير للشَّخص.
والتحيَّة مِن أسباب جلْب المحبَّة بين المسلمين، فيؤجر المسلِمُ عليها؛ لأنَّها وسيلةٌ لأمر مشروع.
ومِن أسباب جلْب المحبَّة:
الزَّهادةُ فيما عندَ الناس، وعدمُ التطلُّع لِمَا في أيديهم، وعدم منازعتِهم في دُنياهم؛ فعن سهل بن سعد الساعدي قال: أتى النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلٌ فقال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل إذا أنا عملتُه أحبَّني الله، وأحبَّني الناس، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ازهْد في الدنيا يُحبَّك الله، وازهدْ فيما في أيدي الناس يُحبُّوك»؛ (رواه ابن ماجه (4201)، قال النووي في الأربعين (31): "حديث حسن، رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة").
فمَن سأل الناس، وطلَب رِفدَهم وإعانتَهم - ولو في غير المال - غالبًا يسقط مِن عيونهم، وقد كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُبايع بعضَ أصحابه على ألاَّ يسألوا أحدًا شيئًا، مع شِدَّة الحاجة، وضِيق ذات اليد؛ فعن عوفِ بنِ مالكٍ الأشجعيِّ قال: كنَّا عندَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تسعة، أو ثمانية، أو سبعة، فقال: «ألاَ تُبايعون رسولَ الله» ؟ وكنَّا حديث عهدٍ ببَيْعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسولَ الله، ثم قال: «ألاَ تُبايعون رسولَ الله» ؟، فقلنا: قد بايعناك يا رسولَ الله، ثم قال: «ألاَ تُبايعون رسولَ الله» ؟، قال: فبسطْنا أيديَنا، وقلنا: قد بايعناك يا رسولَ الله، فعلامَ نُبايعك؟ قال: «على أن تعبدوا اللهَ ولا تُشركوا به شيئًا» ، والصلواتِ الخمس، وتُطيعوا، وأسَرَّ كلمةً خفيَّة؛ ولا تسألوا الناس شيئًا، فلقد رأيتُ بعضَ أولئك النفر يسقط سوطُ أحدهم، فما يسأل أحدًا يناوله إيَّاه؛ رواه مسلم (1043).
ويتأكَّدُ التعفُّفُ عمَّا في أيدي الناس، والقناعةُ بما كتَبَ الله له في حقِّ طالب العِلْم والدَّاعية، فالأنبياءُ يُؤكِّدون لقومِهم استغناءَهم عن أموال قومِهم، وأنَّهم لا يتطلَّعون إلى دُنياهم، فلا يُريدون مِن وراء دعوتهم المالَ أو الحُكم، فهذا نوح - عليه السلام - يقول لقومه: {وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} [هود: 29]، وهذا هود - عليه السلام - يقول لقومه: {يَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [هود: 51].
فمَن تطلَّع إلى ما في أيدي الناس كَرِهوه وأبغضوه؛ لأنَّه نازَعَهم محبوبَهم، ومَنِ استغنى عمَّا في أيديهم، ولم يُنازِعْهم دنياهم، شَرُف عندَهم وجلَّ.
قيل لرجل من أهل البصرة: مَن سيِّدُ البصرة؟ قال: الحسن البصريُّ، قيل: بم سادَهم؟ قال: احتاجَ الناسُ إلى عِلمِه، واستغنى هو عن دُنياهم.
ومِن أسباب جلْب المحبَّة:
الهَدِيَّة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «تهادَوْا تحابُّوا»؛ (رواه البخاري في "الأدب المفرد" (594)، والحديث حسن بشواهده، والله أعلم).
فالهديةُ تُكذِّب سوءَ الظن، وتجلب المودَّة، وتَزْرع المحبَّة، وتَنفي الضَّغِينة، وتجعل العدوَّ صَدِيقًا، والبغيضَ وليًّا، فالهديةُ لها أثر، ولو كانت يسيرةً، كالسواك والقَلم، وتعطير الرجل.
ومِن أسباب جلْب المحبَّة:
الصبرُ على الأذى، وكَظْم الغَيْظ، ومقابلة السيِّئة بالحسنة، فلنصبرْ على مَن أساء إلينا، ولنقابلْ إساءتَه بإحسان، وعُبوسَه بابتسامةٍ وطلاقةِ وجْه، وإعراضَه بالسلام، مع توطين النفس على أنَّ الأمر ربَّما يطول، ومَن فعل ذلك ولم يملَّ، تحقَّق له وعْدُ ربِّه: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 - 35].
فالإحسانُ إلى الناس ببذْلِ الخير لهم، ومساعدتِهم، والتعاون معهم على البِرِّ والتقوى، والصبرُ على أذاهم - مِن أعظم أسباب المحبَّة.
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ ♦♦♦ فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الْإِنْسَانَ إِحْسَانُ
فالقلوبُ مجبولةٌ على حبِّ مَن أحسن إليها، وبُغْضِ مَن أساء إليها، ومن الإحسان إلى الناس أن تفسح لهم المجلسَ إذا دخلوا، تَحْتفي بهم في القول، تُثني على الخير الذي فِيهم، تُراعِي أحوالَهم، تتلمَّس العُذرَ لِمَا تراه من أخطاء، تترك المعاتبةَ والمجادلة.
معاشرَ الإخوة:
جِماعُ كسْب محبَّة الناس الخالصة التي لا تزول ولا تتبدَّل: طاعةُ الله، فمَن أطاع الله، وامتثل أمرَه في فِعْل المأمور - واجبًا أو مستحبًّا - وتَرْك المنهيِّ عنه - مُحرَّمًا أو مكروهًا - مَن فَعَل ذلك محبَّةً في سيِّده ومولاه، وطلبًا لرضاه، أحبَّه ربُّه، وجَعَله مِن جملة أحبابه؛ ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما يرويه عن ربِّه – عزَّ وجلَّ - : «مَا تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مِمَّا افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه»؛ (رواه البخاري (6502).
فإذا أحبَّه سيِّدُه ومولاه، أحبَّه أهلُ السماء تبعًا لمحبَّة الله، فصار محبوبًا عندَ الملائكة، فإذا أحبَّه أهلُ السماء، أحبَّه أهلُ الأرض، فحنَّت له الأنفسُ، ومالتْ إليه القلوب؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا دعَا جبريلَ فقال: إنِّي أُحبُّ فلانًا، فأحبَّه، قال: فيحبُّه جبريل، ثم يُنادي في السماء فيقول: إنَّ الله يحبُّ فلانًا فأحِبُّوه، فيحبُّه أهلُ السماء، قال: ثم يُوضع له القَبولُ في الأرض، وإذا أبغضَ عبدًا دعَا جبريلَ فيقول: إنِّي أُبْغِضُ فلانًا فأبْغِضْه، قال: فيبغضُه جبريل، ثم يُنادي في أهْل السَّماء: إنَّ الله يُبغِض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونَه، ثم تُوضَع له البغضاءُ في الأرض»؛ (رواه البخاري (7485) ومسلم (2637).
فمحبَّةُ الناس للشَّخص على قَدْر محبَّة الله له، ومحبَّة الله للشخص على قَدْر طاعتِه له؛ فلذا حاز نبيُّنا محمَّد وأبوه إبراهيم - عليهما السلام - أعظمَ مراتب المحبَّة، فهُما خليلاَ الرحمن.
اعلمْ أخي:
أنَّ قدرَك في قلوب الخَلْق على قَدرِ صِدقك مع ربِّ الخلق - عزَّ وجلَّ - في امتثال أمرِه، واجتناب نهيه.
_______________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان
- التصنيف: