قواعد مواجهة الفتور والكسل في العبادة وطلب العلم
إذا شعر الإنسان من نفسه بشيء من الكسل، بعد فعل الطاعات من طلب للعلم أو تنوع في العبادات، فإن عليه أن يستريح بما يجدد نشاطه
المقدمة:
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فهذه قواعد في مواجهة الكسل والفتور الذي يعتري الإنسان في العبادة وطلب العلم، والله أسأل أن ينفع بهذه القواعد ويتقبلها.
القاعدة الأولى:
معرفتك حقيقةَ الدنيا، وتذكُّرك دائمًا وفي كل يوم أن هذه الحياة قصيرة، وأنه لا مجال فيها للكسل والفتور وتضييع الأوقات بدون جد واجتهاد.
فدائمًا عش يومك واجتهد فيه كأنك لا تعيش بعده أبدًا.
- يقول تعالى في وصف الدنيا: ﴿ {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ﴾ [يونس: 24].
قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية: وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا، فإن لذاتها وشهواتها وجاهها، ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا، فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، أو زال صاحبه عنه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها، فذلك {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} ؛ أي: نبت فيها من كل صنف، وزوج بهيج {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} ؛ كالحبوب والثمار، ﴿ و ﴾ مما تأكل ﴿ الْأَنْعَامِ ﴾ كأنواع العشب، والكلأ المختلف الأصناف.
{ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ}؛ أي: تزخرفت في منظرها، واكتست في زينتها، فصارت بهجة للناظرين، ونزهة للمتفرجين، وآية للمتبصرين، فصرت ترى لها منظرًا عجيبًا ما بين أخضر، وأصفر، وأبيض وغيره.
{وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} ؛ أي: حصل معهم طمع، بأن ذلك سيستمر ويدوم، لوقوف إرادتهم عنده، وانتهاء مطالبهم فيه.
فبينما هم في تلك الحالة {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} ؛ أي: كأنها ما كانت فهذه حالة الدنيا، سواء بسواء.
{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} ؛ أي: نبينها ونوضحها، بتقريب المعاني إلى الأذهان، وضرب الأمثال ﴿ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾؛ أي: يعملون أفكارهم فيما ينفعهم.
وأما الغافل المعرض، فهذا لا تنفعه الآيات، ولا يزيل عنه الشك البيان؛ انتهى.
• وفي الحديث عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخُذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك؛ رواه البخاري.
• وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك؛ حلية الأولياء ( ١١٧/٢).
• وﻋﻦ ﻣﻴﻤﻮﻥ ﺑﻦ ﻣﻬﺮاﻥ ﻗﺎﻝ: اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﻗﻠﻴﻞ، ﻭﻗﺪ ﺫﻫﺐ ﺃﻛﺜﺮ اﻟﻘﻠﻴﻞ، ﻭﺑﻘﻲ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻘﻠﻴﻞ؛ ذم الدنيا لابن أبي الدنيا (ص ٤٦).
• فلا ينبغي لمن عرف حقيقة الدنيا وسرعة زوالها - أن يكسل فيها ويفتر عن العبادة وطلب العلم و الخير، فاليوم عمل وغدًا تموت فحساب ولا عمل.
القاعدة الثانية:
تذكر عاقبة الكسل والفتور من الخسارة والندامة في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ﴿ {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } ﴾ [الزمر: 56].
وقال تعالى: ﴿ { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ﴾ [المؤمنون: 99، 100].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما الكسل فيتولَّد عَنهُ الإضاعة والتفريط والحرمان وأشد الندامة، وهُوَ مناف للإرادة والعزيمة التي هي ثَمرَة العلم؛ مفتاح دار السعادة ( ١١٣/١).
القاعدة الثالثة:
تذكر العاقبة الحسنة للجد والاجتهاد، وترك الكسل من الأجر والثواب والرفعة في الدنيا والآخرة، وكما يقال: من جد وجد ومن زرع حصد، والاجتهاد له لذة وفرحة والكسل بعكس ذلك؛ قال تعالى: ﴿ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ﴾ [آل عمران: 133].
• ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله)؛ رواه الترمذي.
الكيس: هو العاقل، ومعنى قوله: من دان نفسه: حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة، ويروى عن عمر بن الخطاب قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا، ويروى عن ميمون بن مهران قال: لا يكون العبد تقيًّا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه من أين مطعمه وملبسه.
• قال أبو حاتم: سبب النَّجاح تَـرْك التَّواني، ودواعي الحِرْمَان الكَسَل؛ روضة العقلاء (ص، ٢١٨).
• قال القِنَّوجي: قيل: مَن دام كسله خاب أمله؛ روح البيان (3 / 448).
• وقال الرَّاغب: مَن تعوَّد الكَسَل ومال إلى الرَّاحة، فَقَدَ الرَّاحة؛ فيض القدير (1 / 278).
القاعدة الرابعة:
عليك بالدعاء في مواجهة الكسل والفتور؛ لأن الدعاء استعانة بالله القوي الذي يعين ويقوي ولا حول ولا قوة إلا به.
• قال تعالى: ﴿ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ﴾ [غافر: 60].
• وكان صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاء والاستعاذة من الكسل؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: (التمس لنا غلامًا من غلمانكم يخدمني، فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل، فكنت أسمعه يكثر أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم، والحزن، والعجز، والكسل، والبخل، والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال)؛ رواه البخاري.
قال ابن بطال: الاستعاذة من العجز والكسل؛ لأنَّهما يمنعان العبد من أداء حقوق الله، وحقوق نفسه وأهله، وتضييع النظر في أمر معاده، وأمر دنياه، وقد أمر المؤمن بالاجتهاد في العمل، والإجمال في الطلب، ولا يكون عالةً، ولا عيالًا على غيره، ما متِّع بصحة جوارحه وعقله؛ شرح البخاري (10 / 119).
القاعدة الخامسة:
توكل القلب على الله في الثبات على العبادة وطلب العلم وفي ترك الفتور والكسل.
فمن توكل على الله كفاه؛ قال تعالى: ﴿ { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ﴾ [الطلاق: 3].
• وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (...وعليك توكلت...) في البخاري.
القاعدة السادسة:
الأخذ بالأسباب ومن ذلك تنظيم الوقت وتشجيع النفس، وترك الأكل والشرب كثيرًا، فإن هذا يورث الكسل؛ قال ابن قدامة: كثرة الأكل تورث الكَسَل والفُتُور؛ مختصر منهاج القاصدين (٣٧/١)، ومن ذلك النوم لساعات كافية، فإن لنفسك عليك حقًّا كما جاء في الحديث.
القاعدة السابعة:
• الصبر وتسلية النفس به، فإن الصبر من أجل القربات، وهو من أعظم الوسائل للتغلب على الفتور والكسل.
فصبر نفسك وعِدها الجميل إذا صبرت، وتذكر قوله تعالى: ﴿ {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾} [آل عمران: 146].
فما ضعفت القلوب ولا وهنت الأبدان، وهذا كله رجاء ثواب وفي سبيل الله تعالى.
• وعلى العبد أن يحمل نفسه على الصبر، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: (ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ من عطاء خيرًا وأوسع من الصبر)؛ رواه مسلم.
• وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الصبر مطية لا تكبو)؛ أدب الدنيا والدين للماوردي ( ص، ٢٩٤).
ومعنى يكبو: كبى يكبو كبوة: إذا عثر؛ لسان العرب (٢١٣/١٥)
القاعدة الثامنة:
عدم إجهاد النفس وتحميلها ما لا تطيق؛ لأن هذا يؤدي إلى إملالها، ومن ثم إلى فتورها وكسلها وتركها للعبادة وطلب العلم؛ قال تعالى: ﴿ { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ﴾ [البقرة: 185].
ومن أمثلة إجهاد النفس: ما جاء من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلِّي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)» ؛ [رواه البخاري] .
• وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: « دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: (ما هذا الحبل؟)، قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد)» ؛ [رواه البخاري] .
• قال الإمام النووي: فيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق، والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وأنَّه إذا فتر فليقعد حتى يذهب الفتور؛ شرح مسلم (6 / 73).
• وعن عائشة رضي الله عنها « أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون، فجاءه، فقال: (يا عثمان، أرغبت عن سنتي؟)، قال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب، قال: (فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتَّق الله يا عثمان؛ فإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لضيفك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، فصمْ وأفطر، وصلِّ ونَمْ» )؛ [رواه أبو داود وأحمد] .
• ومن أمثلة ذلك السرعة واستعجال أخذ العلم في زمن قصير وعدم الصبر والتدرج فيه، فإن هذا يؤدي إلى ذهاب العلم والفتور والكسل وترك طلبه.
فعن يونس بن يزيد قال: قال لي ابن شهاب: يا يونس، لا تكابر العلم، فإن العلم أودية، فأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه، ولكن خذه مع الأيام والليالي ولا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الليالي والأيام؛ جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر (ص ٤٣١).
• وينبغي الترويح عن النفس لتجديد نشاطها من فعل المباحات، وبما لا يقطع الطريق إلى العبادة وطلب العلم بل يساعد في ذلك، وهذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن عدم الترويح عن النفس يجعلها تَمل ثم تكسل ثم تترك العمل.
وفي هذا الباب أحاديث؛ منها:
• «عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت: فسابقته، فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: (هذه بتلك السبقة)» ؛ رواه أبو داود وأحمد.
• عن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه قال: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله، إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟)، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «(والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فُرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة)» ؛ «ثلاث مرات» ؛ [رواه مسلم وغيره] .
القاعدة التاسعة:
تذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين والعلماء المتبوعين، فهم القدوة في الهمة العالية وفي ترك الكسل والفتور.
وسأنقل بعض النماذج في طلب العلم التي تجعل طالب العلم يسعى ولا يكسل، وإليك بعضها:
• سافر ورحل جابر بن عبدالله رضي الله عنه مسيرة شهر إلى عبدالله بن أنيس في طلب حديث واحد؛ صحيح البخاري.
• ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت آتي باب أُبيِّ بن كَعْب وهو نائم، فأقيل على بابه، ينتظر حتى يخرج يأخذ منه الحديث؛ رواه الدارمي وغيره (١٥٠/١).
• قال سعيد بن المسيب: كنت لأسيرُ الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد؛ الطبقات الكبرى (٩٠/٥).
• عن سعيد بن أبي مريم: سمِعت مالكًا يقول: جالس نعيم المجمر أبا هريرة عشرين سنة، (١٠٧/٨).
• وعن إسماعيل بن يحيى قال: سَمِعت الشافعي يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين؛ صفة الصفوة (٤٣٤/١).
• قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: قال لي أبو زرعة: أبوك يحفظ ألف ألف حديث؛ يعني: مليونًا؛ السير (١٨٧/١١).
• وقال عبدالله بن نافع: جالست مالكًا خمسًا وثلاثين سنة (١٠٨/٨).
• عن ابن إسحاق سَمِعت مكحولًا يقول: طفت الأرض كلها في طلب العلم؛ السير (١٥٨/٨).
• كان الإمام أبو زرعة يحفظ ستمائة ألف حديث؛ تاريخ بغداد (٣٢٥/١٠).
• البخاري قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح؛ تاريخ بغداد (٢٤/٢).
• وقال: كتبتُ عن ألف شيخ وأكثر، عن كلِّ واحدٍ منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده؛ تاريخ بغداد (١٠/٢).
• قال جرير: جلست إلى الحسن سبع سنين لم أخرم منها يومًا واحدًا؛ تذكرة الحفاظ (١٤٨/١).
• قال أبو العباس ثعلب: ما فقدتُ إبراهيم الحربي من مجلس لغة ولا نحو خمسين سنة؛ معجم الأدباء (٤٤/١).
• عبدالله بن محمد - فقيه العراق - طالع المغني للشيخ موفق الدين ثلاثًا وعشرين مرة، وَكَانَ يستحضر كثيرًا منه، أَوْ أكثره، وعلَّق عَلَيهِ حواشي، وفوائد؛ ذيل طبقات الحنابلة (٥/٢).
• قرأ ابن حجر معجم الطبراني في مجلس واحد في صالحية دمشق؛ تحفة المخلصين (ص٢٧).
• كان الإمام النووي يحضر في اليوم اثني عشر درسًا؛ تحفة الطالبين (ص ٤٩).
وأختم هذا بكلام للإمام ابن الجوزي في وهو من أجود ما قال رحمه الله تعالى: من أعمل فكره الصافي دلَّه على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضا بالنقص في كل حال، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا
كنَقْصِ القادرين على التَّمام
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يُمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات، لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوَّة تحصل بالاجتهاد، رأيت المقصِّر في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يمكن ذلك، فينبغي أن يطلب الممكن، والسيرة الجميلة عند الحكماء: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل؛ (صيد الخاطر، ص١٧٣).
القاعدة العاشرة:
الإخلاص لله تعالى وهو أهم القواعد ورأسها، وهو الذي يدعو إلى العمل والثبات والاستمرار عليه وترك الكسل، بما يرجو العبد من رضا الله والدار الآخرة؛ قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
وإذا أخلص العبد في عبادته حصل له منها اللذة والراحة، وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «(يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها)» ؛ [رواه أبو داود] .
• فكان اشتغاله بالصلاة راحة له، فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعبًا، فكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالى.
القاعدة الحادية عشرة:
تعاهد الإيمان وتجديده؛ لأن ضعف الإيمان يدعو إلى الفتور والكسل، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «(إنَّ الإيمانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أحدِكُمْ كَما يَخلَقُ الثوبُ، فاسْألُوا اللهَ تعالَى: أنْ يُجَدِّدَ الإيمانَ في قُلوبِكمْ)» ؛ [صحيح الجامع] .
شرح الحديث:
الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعصية، وعلى المؤمن أن يحرص على تجديد إيمانه وزيادته، (إنَّ الإيمانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أحدِكم)، أي: يضعف في قلب المسلم، ويكون ذلك بسبب الفتور في العبادة أو ارتكاب المعاصي أو الانغماس في الدنيا، (كما يَخْلَقُ الثَّوبُ)، أي: مثل الثوب الجديد يبلى بطول استخدامه، (فاسْأَلوا اللهَ تعالى) بالدعاء والأعمال الصالحة من الفرائض والنوافل من الصدقة وصلة الرحم، وصلاة التطوع وكثرة الذكر، وقراءة القرآن ومجالس الذكر، وغير ذلك من الطاعات التي تزيد الإيمان، فيعود إلى ما كان عليه ويزيد.
القاعدة الثانية عشرة:
معرفة فضائل الأعمال الصالحة، وما جاء فيها من الفضل الخاص، وما يتبع ذلك من دخول الجنات، ورفع الدرجات والوقاية من النار، كل ذلك يدعو إلى الثبات والنشاط وترك الفتور والكسل.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: 57].
القاعدة الثالثة عشرة:
كثرة ذكر الله تعالى من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه صفة أهل الإيمان، وما ينتج للعبد من الذكر من قوة وهمة على العبادة وطلب العلم؛ قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 191].
• ومن يحصل من الذكر من طمأنينة وجمعية للقلب؛ قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
• والذكر حياة ونشاط للقلوب، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر، مثل الحي والميت)؛ رواه البخاري.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابه أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعه وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا، وقد علم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنته فاطمة وعليًّا رضي الله عنهما أن يسبِّحا كل ليلة إذا أخذوا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويكبرا أربعًا وثلاثين لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها ذلك وقال: إنه خير لكما من خادم، فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه مغنيه عن خادم؛ الوابل الصيب (ص ٧٧).
القاعدة الرابعة عشرة:
عليك بالصحبة الصالحة، فإن الصاحب ساحب، فمن صحب أهل الفتور والكسل، فلا بد أن يتأثر بهم ومن صحب أهل الجد والاجتهاد، فلا بد أن يتأثر بهم؛ قال تعالى: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية: يأمر تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وغيره أسوته، في الأوامر والنواهي - أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} ؛ أي: أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله، فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراءَ فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى؛ انتهى.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «(المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)» ؛ [رواه أحمد] .
شرح الحديث:
أي: المرءُ يشابِهُ صَديقَه وصاحِبَه في سِيرتِه وعادتِه؛ فهوَ مؤثِّرٌ في الأخلاقِ والسلوكِ والتصرُّفاتِ، ونظرةِ الناسِ إلى كلٍّ مِنهما من خلالِ مَعرفتِهم بأحوالِ الصَّاحبِ؛ ولهذا أرشدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى حُسنِ اختِيارِ الصدِيقِ.
وفي حديثٍ آخرَ قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «(لا تصاحِبْ إلَّا مُؤمنًا)،» أي: لا تتَّخِذْ صاحبًا ولا صَديقًا إلَّا مِن المؤمنينَ؛ لأن المؤمنَ يدلُّ صديقَه على الإيمانِ والهدى والخيرِ، ويكونُ عونًا لصاحبِه.
الخاتمة:
إذا شعر الإنسان من نفسه بشيء من الكسل، بعد فعل الطاعات من طلب للعلم أو تنوع في العبادات، فإن عليه أن يستريح بما يجدد نشاطه، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (إنَّ لكلِّ عمل شِرَّة، والشِّرَّة إلى فَتْرة، فمَن كانت فَتْرَته إلى سنَّتي فقد اهتدى، ومَن كانت فَتْرَته إلى غير ذلك فقد ضلَّ)؛ رواه أحمد.
شِرَّةٌ: أي الرغبة والنشاط والحرص على الشيء.
فترة: أي وهنًا وضعفًا وتراجعًا عن النشاط السابق.
وفي معنى الحديث يقول ابن القيِّم رحمه الله تعالى: فتخلُّل الفترات للسَّالكين أمرٌ لازمٌ لا بدَّ منه، فمَن كانت فَتْرَته إلى مُقَاربة وتسديد، ولم تُخْرِجه مِن فرضٍ، ولم تُدْخِله في محرَّمٍ، رُجِي له أن يعود خيرًا ممَّا كان، قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وأرضاه: إنَّ لهذه القلوب إقبالًا وإدبارًا، فإذا أقبلت فخذوها بالنَّوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض؛ مدارج السالكين (3 / 126).
اللهم نعوذ بك من العجز والكسل والفتور، ونسألك العافية والنشاط على ما تحب وترضى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبها : يزن الغانم
- التصنيف: