رعاية الإسلام للجانب الأخلاقي

منذ 2021-12-12

إنَّ الله تعالى جعل مدار شريعة الإسلام على تزكية النفوسِ وتطهيرها، وإصلاحِ الأخلاقِ وتنقيتِها؛ ولهذا صحَّ عنه صلَّى الله عليْه وسلَّم قوله: «إنَّما بُعِثتُ لأتمِّم مكارمَ الأخلاق»

إنَّ الله تعالى جعل مدار شريعة الإسلام على تزكية النفوسِ وتطهيرها، وإصلاحِ الأخلاقِ وتنقيتِها؛ ولهذا صحَّ عنه صلَّى الله عليْه وسلَّم قوله: «إنَّما بُعِثتُ لأتمِّم مكارمَ الأخلاق» [1]، فكأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم حَصَر بَعْثَتَه على تقويم الأخلاق، وإتمام مكارمها؛ ولذلك فإنَّ المتأمِّل في أرْكان الإسلام يجِد أنَّها جميعًا تدْعو إلى تقْويم الأخلاق، وتهذيب الطِّباع، واستِقامة السلوك.

 

فكأنَّ مكارم الأخلاق بناءٌ شَيَّده الأنبياءُ، وُبعِث النَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم لِيُتِمَّ هذا البناء، فيكتمل صرْح مكارمِ الأخلاق ببَعْثَتِه صلَّى الله عليْه وسلَّم.

 

ولأنَّ الدِّين بغَيْر خلُق ومنظمة آداب كمَحْكَمة بغير قاضٍ، وكذا فإنَّ الأخلاق والآداب بغير دِينٍ عبثٌ، والمتأمِّل في حال الأمَّة اليوم يَجد أنَّ أزْمَتَها أزْمة أخلاقيَّة؛ لذلك نتناول في هذه السلْسلة بعضَ المفاهيمِ الأخلاقيَّةِ، وبعضِ محاسنِ الأخلاقِ والآدابِ التي يَجب على المسلم أن يتحلَّى بها، ومساوئ الأخلاق التي يجب على المسلم أن يتخلَّى عنها.

 

حثُّ الإسلامِ على مراعاة الآداب

العبادات طريق لإصْلاح الأخْلاق، وغرْسِ الآداب السَّامية:

فالصَّلاة: تُبعِد المسلم عن الرَّذائل، وتطهِّره من سوء القول والعمل؛ قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

 

والزكاة: ليست ضريبة تُدفَع أو مالًا يُبذَل مجردةً عن المعاني والحِكَم، إنما هي لِتطهِير النفسِ وتزكيتِها؛ قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

 

والصوم: ليس حرمانًا من الطَّعام والشَّراب والنكاح، بل هو خطوة إلى كفِّ النَّفس عن شهواتها المحْظورة ونَزَوَاتها المنكورة؛ قال صلَّى الله عليْه وسلَّم: «مَن لَم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ به، فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامَه وشرابَه» [2].

 

والحج: ليس رحلةً خالية من المعاني الأخلاقيَّة، إنَّما هو سبيل إلى إبعاد النَّفس عن سَفَاسِف الأمور؛ قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].

 

فهذه أرْكان الإسلام العظيمة، وعباداته الجليلة، ليست طقوسًا مُبْهَمَة، ولا أعمالًا مجرَّدة لا معنى لها، بل هي في مجْملها لها صِلاتٌ وثيقة تعمل في نَسَقٍ واحد يكملُ به بناءُ الأخلاقِ الشَّامخُ، إنَّها عبادات مختلفة في مظْهرها، ولكنَّها جميعًا تلتقي عند الغاية التي بُعِث محمَّد صلَّى الله عليْه وسلَّم مِن أجلِها: «إنَّما بُعِثْتُ لأتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ» [3].

 

تهذيب الأخلاق ومراعاة الآداب هو أساس الدَّعوة الإسلاميَّة:

بُعِث نبيُّنا ليصدِّق ما يدعو إليه بعمله، فكانت أخلاقُه عنوانًا لدعوته، وبرهانًا على نبوَّته، وتبيانًا لصِدقِ رسالته؛ ولهذا أثْنى الله عليه بثناءٍ يتردَّد في سمع الوجود، ويتْلوه الملأ الأعلى والمؤمنون، ولا تُنْسِيه سَرْمَدِيَّة الزَّمان؛ قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

 

وجاء في "صحيح مسلم"؛ أنَّ سعد بن هشام سأل أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خُلق النَّبيّ صلَّى الله عليْه وسلَّم؟ فقالتْ: "أليس تقرأ القرآن؟!" قال: بلى، قالت: "فإنَّ خُلُقَ نبيِّ اللهِ كان القُرآن"[4].

 

قال ابن كثير: "صار امتثالُ القرآنِ أمرًا ونهيًا سَجِيَّةً له، وخُلُقًا تَطَبَّعَهُ، وتَرَكَ طبعه الجِبِلِّي، فمهما أَمَرَهُ القرآنُ فَعَلَهُ، ومهْما نهاه عنه تَرَكَهُ"[5].

 

فكان صلَّى الله عليْه وسلَّم عظيمَ الخلُق بعد بَعْثتِه وقبْل البَعْثة، فالمشرِكون لم يجدوا منه إلَّا أفضل الأخلاق، حتَّى لقَّبوه بالصَّادق الأمين، ولمَّا فاجأَه الوحيُ قال لزوْجِه خديجة رضي الله عنها: «لقد خشِيتُ على نفسي»، قالتْ: كلَّا، واللهِ لا يخزيك اللهُ أبدًا؛ إنَّك لتصِل الرَّحِم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ[6]، وتَقْرِي الضيفَ[7]، وتُعين على نوائب[8] الدَّهر[9].

 

ما ذكرتْه خديجة رضِي الله عنْها مآثرُ حسَنة، وأخلاقٌ كريمة، ومعاملاتٌ سامية، تَدفَع الأذى عن صاحبِها بإذن الله.

 

فإنَّ ثمَّةَ تلازمًا؛ بل تلاحُمًا بين السُّلوك والاعتقاد، والإيمَان والأخلاق، فالسُّلوك الظَّاهر مرتبطٌ بالاعتِقاد الباطِن، ومن ثَمَّ فإنَّ الانحرافَ الواقعَ في السّلوك والأخلاق ناشئٌ عن نقصٍ وخلل في الإيمان والباطن، يُقَرِّر ذلك شيخُ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله حين يقول: "إذا نقصَت الأعمالُ الظَّاهرةُ والباطنةُ كان ذلك لِنقْصِ ما في القلب من الإيمان، فلا يُتصوَّر مع كمال الإيمانِ الواجبِ الَّذي في القلْب أن تُعدَم الأعمالُ الظَّاهرة الواجبة، بل يلزم مِن وجودِ هذا كاملًا وجودُ هذا كاملًا، كما يَلزم مِن نقصِ هذا نقصُ هذا"[10].

 

كما يقول: "فما يَظهَر على البدنِ من الأقوالِ والأعمالِ هو مُوجَب ما في القلبِ ولازمُه"[11].

 

ويقول الشَّاطبيُّ: "الأعمالُ الظَّاهرةُ في الشَّرع دليلٌ على ما في الباطن، فإن كان الظَّاهرُ مُنْخَرِمًا حُكِم على الباطن بذلك، أو مستقيمًا حُكِم على الباطنِ بذلك أيضًا"[12].

 

بالأدب الحسَن، وحُسْنِ الخُلُق تزْداد منزلة العبد عند ربِّه:

إنَّ المتأمِّل في أحاديث الحبيب محمَّد صلَّى الله عليْه وسلَّم يَجد أنَّها رَفَعَت مِن منزلة الأخلاق الفاضلة وأصحابها، وجعلتْها ميدانَ سَبْقٍ ليتنافس فيه المتنافسون؛ قال صلَّى الله عليْه وسلَّم: «أَكْمَلُ المؤمنين إيمانًا أحسَنُهم أخلاقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم» [13]، وقال صلَّى الله عليْه وسلَّم: «أنا زعيمٌ - ضامن - ببيتٍ في رَبَض الجَنَّة - أدناها - لِمَن تَرَكَ الجِدَالَ ولو كان محقًّا، وببيتٍ في وسط الجَنَّة لِمَن ترك الكذِب وإنْ كان مازحًا، وببيتٍ في أعْلى الجَنَّة لِمَن حسن خُلُقه» [14].

 

وقال صلَّى الله عليْه وسلَّم: «إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنُكم أخلاقًا» [15]، وقال صلَّى الله عليْه وسلَّم: «ما مِن شيءٍ في الميزان أثْقلُ مِن حُسْن الخلُق، وإنَّ الله ليُبغِض الفاحشَ البذيءَ» [16]، وبيَّن النبي صلَّى الله عليْه وسلَّم أنَّ صاحبَ الأخلاقِ الحسَنةِ يُدْرك مقامَ العابِد الزَّاهدِ، فقال صلَّى الله عليْه وسلَّم: «إنَّ الرَّجُل لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِه درجةَ الصَّائمِ القائِم» [17].

 


[1] أخرجه الحاكم (2 /670، رقم 4221) وقال: صحيح على شرط مسلم.

والبيهقي (10 /192، رقم 20572)، وأخرجه أيضًا: الديلمي (2 /12، رقم 2098)، والبخاري في الأدب المفرد وصحَّحه الألباني.

[2] أخرجه أحمد (2 /443، رقم 9717)، والبخاري (5 /2251، رقم 5710)، وأبو داود (2 /307، رقم 2362)، والترمذي (3 /87، رقم 707) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (1 /539، رقم 1689)، وابن حبَّان (8 /256، رقم 3480)، والنسائي في الكبرى (2 /238، رقم 3246)، والبيهقي (4 /270، رقم 8095).

[3] سبق تخريجه.

[4] أخرجه مسلم برقم: 746، وأحمد في المسند: (6 /54، 91، 111، 163، 188، 216)، وأبو داود برقم: 1342، وابن ماجه برقم: 2333، والنسائي: (3 /199).

[5] تفسير ابن كثير: (ج 4، ص 403).

[6] الكَلُّ: الثِّقَل مِن كل ما يُتَكلَّف، وقيل: العيال ومَن يحتاج إلى رعاية ونفقة.

[7] القِرَى: ما يُقَدَّم إلى الضيف.

[8] النوائب: جمع نائبة، وهي ما ينزل بالإنسان من الكوارث والحوادث المؤلمة.

[9] أخرجه البخاري: (6 /2561، رقم 6581)، ومسلم (1 /139، رقم 160)، وغيرهما.

[10] مجموع الفتاوى: ج 7، ص 582.

[11] مجموع الفتاوى: ج 7، ص 541.

[12] الموافقات: ج 1، ص 233.

[13] أخرجه الترمذي (3 /466 رقم 1162) وقال: حسَن صحيح، وابن حبَّان (9 /483، رقم 4176)، والبيهقي في شعب الإيمان (1 /61، رقم 27).

[14] أخرجه أبو داود: (4 /253، رقم 4800)، والطبراني (8 /98، رقم 7488)، والبيهقي (10 /249، رقم 20965)، وأخرجه أيضًا: الطبراني في الأوسط: (5 /68، رقم 4693).

[15] أخرجه البخاري في الأدب المفرد: (1 /104، رقم 272)، وأحمد: (2 /185، رقم 6735)، قال الهيثمي (8 /21): إسناده جيد، والخرائطي في مكارم الأخلاق: (32 /26).

[16] أخرجه الترمذي: (4 /362، رقم 2002) وقال: حسَن صحيح.

[17] أخرجه أحمد: (6 /90، رقم 24639)، والحاكم (1 /128، رقم 199) وقال: على شرط الشيخين، وأخرجه أيضًا: أبو داود (4 /252، رقم 4798)، والبيهقي في شعب الإيمان: (6 /237، رقم 7998)، والديلمي (1 /194، رقم 731).

____________________________________________________
الكاتب:محمد الطايع

  • 2
  • 0
  • 3,261

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً