آيات الله في الشتاء
عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر
من آيات الله العظيمة اختلافُ الأحوال؛ ليلٌ ونهار، حرٌّ وبرد، شتاء وصيف، ربيع وخريف، ولله الحكمة البالغة في ذلك، وتأمَّل - رعاك الله - نعمة الله على عباده في دخول الشتاء على الصيف، والصيف على الشتاء، كيف يكون بالتدرُّج والمهلة
- التصنيفات: مناسبات دورية -
ومن آيات الله العظيمة اختلافُ الأحوال؛ ليلٌ ونهار، حرٌّ وبرد، شتاء وصيف، ربيع وخريف، ولله الحكمة البالغة في ذلك، وتأمَّل - رعاك الله - نعمة الله على عباده في دخول الشتاء على الصيف، والصيف على الشتاء، كيف يكون بالتدرُّج والمهلة؟! ولو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأةً، لأضرَّ بالأبدان وأهلكها، ولأفسد النبتات وأتلفها، فما أعظمها من نعمة وما أجلها!
عباد الله:
ولله آيات عظيمة تكثر في الشتاء؛ كالرعد والبرق، والصواعق والمطر والبَرَد، يقول الله - تعالى -: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد : 13].
وثبت في المسند، وسُنن الترمذي وغيرهما عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال "أقبلت يهودُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا أبا القاسم، نسألك عن أشياء إن أجبتنا فيها، اتبعناك وصدَّقناك، وآمنَّا بك، قال فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على نفسه، قالوا: الله على ما نقول وكيل، فسألوه أسئلة، وقالوا في جملة أسئلتهم أخبرنا عن الرعد ما هو قال: الرعد ملك من الملائكة مَوْكولٌ بالسحاب بيديه، أو في يده مخراقٌ من نار يزجر به السحاب، والصوت الذي يسمع منه زجره السحاب، إذا زجره حتى ينتهيَ إلى حيث أمره الله، قالوا: صدقتَ، ويقول الله - جل وعلا - في شأن المطر والبرد؛ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور : 43].
عباد الله:
والبرد الشديد من زمهرير جهنم، كما أن الحرَّ الشديد من سمومها في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اشتكت النار إلى ربِّها، فقالت يا رب، أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نفسين؛ نفسًا في الشتاء، ونفسًا في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها»، فهلاَّ ذكرنا عباد الله ذلك بالنار، ومن يتحمل البرد والحر الشديد في الدنيا، فكيف بحرِّ جهنم، و زمهريرها؟! أجارنا الله وإياكم منها.
عباد الله:
لقد حملنا نفوسنا همومًا كثيرًا تتعلق بالدنيا؛ هموم السنين والأزمنة، وهموم الغلاء والرخْص، وهموم الشتاء قبل أن يجيء وهم الصيف قبل أن يجيء هموم متلاحقة، فماذا أبقينا في قلوبنا من هَمِّ الآخرة وأهوالها وأحوالها؟! وفي الدعاء المأثور "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنا ولا مبلغ علمنا".
عباد الله:
ومع دخول الشتاء، هل تذكَّر أهلُ الجِدَةِ واليسار إخوانهم الفقراء وذوي الحاجة ممن يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، ممن لمس البرد الشديدُ أجسامَهم، واخترقت شدتُه عظامهم، ألا اتقينا حرَّ جهنم وزمهريرها بالعطف على هؤلاء، وفي الحديث: «اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة»، والتمرة - عباد الله - لحافٌ يفيد هؤلاء في البرد، كما أن الغطاء لحاف والثوب الدافئ لحاف، والمعطف لحاف، فتصدق يا من وسَّع الله عليه، ولو بشيء يسير؛ فربما يكون في نظرك حقير وهو عند ذلك الفقير المحتاج كبيرٌ عظيم، ولا تحقرنَّ من المعروف شيئًا.
عباد الله:
والشتاء غنيمة باردة للعباد والمطيعين؛ فنهاره قصير يسهل صيامه، وليله طويل يهون قيامه؛ يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "الشتاء غنيمة العابدين"، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "مرحبًا بالشتاء؛ تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام"، وقال الحسن البصري - رحمه الله -: "نعم زمان المؤمن الشتاء؛ ليله يطول يقومه، ونهاره قصير يصومه"، هذه مشاعر السلف - رحمهم الله - في الشتاء فرحٌ وغبطةٌ هِمَّة ونشاط، جِدٌّ واجتهاد فيما يقرِّب إلى الله، وأما أحوال كثير من الناس في هذا الزمن، ففي تضييع الفرائض والواجبات، وغَشَيان المحرَّمات والمكروهات، والاجتراء على حدود ربِّ الأرض والسماوات، والسهر الطويل في الليل على ما يُغضِبُ الله، ويُظلِمُ القلوبَ ويُضعِفُ نور الإيمان، اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، ورُدَّنا إليك ربِّنا ردًّا جميلاً، واهدنا سُبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعل لنا إلهنا في تعاقب الليالي والأيام عبرة ومُدَّكرًا، وفي توالي الشهور والفصول والأعوام عظة ومعتبرًا، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله:
وإن مما ينبغي علينا أن نتذكّره في هذا الزمان أن المسلم العظيم الصلة بالله الواثق بربِّه - جل وعلا - إذا خاف من الأعداء ومن مداهمتهم، لا يزيده ذلك إلا صلةً بالله - عز وجل - والتجاءً إليه، ورجوعًا إليه - سبحانه - بامتثال أوامره والبُعد عن نواهيه، وقد ثبت في السُّنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خاف عدوًّا قال: «اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم».
فالمسلم في أموره كلها وأحواله جميعها ملتجئٌ إلى الله معتصم به - سبحانه -: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران : 101].
ومن السُّنة - عباد الله - أن يقول المسلم في مثل هذا المقام: حسبنا الله ونعم الوكيل، كما قال الصحابة - رضي الله عنهم - وفي ذلك يقول الله - جل وعلا -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران : 173].
ومعنى حسبنا الله؛ أي: كافينا الله، والله - جل وعلا - كافٍ مَن توكَّل عليه واعتمد عليه ولجأ في أموره كله إليه، فنسأل الله - جل وعلا - ألا يَكِلَنا إلا إليه، فهو حسبنا ونعم الوكيل، فصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على النبي المصطفى محمد بن عبدالله، كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب : 56].