بين بيئتين
تُعد البيئة من أهم مصادر التعلم ومن أهم المؤثرات على الشخصية، وذلك من كل النواحي؛ النفسية، والبدنية، والروحية، والتربوية، وغيرها، ومن هنا وجب الاهتمام الكبير بالبيئة من خلال الفرد والمجموعة، فإن الإنسان يكون ابن بيئته...
- التصنيفات: تربية النفس -
تُعد البيئة من أهم مصادر التعلم ومن أهم المؤثرات على الشخصية، وذلك من كل النواحي؛ النفسية، والبدنية، والروحية، والتربوية، وغيرها، ومن هنا وجب الاهتمام الكبير بالبيئة من خلال الفرد والمجموعة، المجال الشخصي والمجال المؤسسي، وكما هو الواقع الذي نراه فعلًا؛ فإن الإنسان يكون ابن بيئته، وهو إذْ يعيش حياته فيها؛ يؤثر ويتأثر بكل ما فيها من إيجابيات أو سلبيات، فالبيئة يوجد فيها الأرحام والأقارب والأصدقاء والزملاء والجيران، وهو متداخل معهم جميعًا وفي شتى المناسبات والأحوال والمواقف، وهم جميعًا تحكمهم قيمٌ وعاداتٌ وتقاليد وقوانين معيَّنة، هذا طبعًا عند الكلام عن البيئة الأصلية للولادة والنشأة، وهناك بيئة أخرى قد تتكوَّن لدى المرء غير بيئته الأصلية في بلده الأم، إذْ قد يهاجر أو يسافر لعملٍ أو دراسةٍ أو غيرها، وبهذا يكمِل حياته في تلك البيئة، وينضوي تحت قوانينها وعاداتها وتقاليدها، لأنه يخالط أصحابها بمختلف فئاتهم وشرائحهم وقيمهم وأخلاقهم، وهنا يكون المحك والاختبار، فهل سيبقى ذلك الشخص على ما نشأ عليه من قيم وأخلاق ومعتقدات وسلوك، أم أنه سيتأثر بالبيئة الجديدة والمجتمع الجديد بما فيه؟
باستقراء الواقع؛ نجد الناس صنفين: منهم من يبقى متمسكًا بما نشأ عليه، ومنهم من يتأثر بالبيئة والمجتمع الذي ذهب إليه، وأسباب هذا أو ذاك تعود إلى ذات الشخص أولًا؛ فعلى قدْر ما يحمله في قلبه من حب وتقدير وتقديس واحترام لقيمه ومعتقداته؛ يتشكَّل الموقف والسلوك الجديد، ويزيد من ذلك الأثر أو التأثر وجود أهم المؤثرين في البيئة وهم الأصدقاء، إلى جانب المؤثرات الهائلة اليوم التي غدت ملء سمع الدنيا وبصرها، وهي التكنولوجيا بكل عناصرها ومجالاتها.
وبالحديث عن الفرد المسلم؛ نجد لديه حافزًا آخر، يُعد من أهم الأسباب المؤثرة بدورها على ذلك الحب والتقدير والمعتقدات التي في قلبه، وتتمثَّل في رجاء الثواب ومخافة العقاب من الله سبحانه وتعالى، ولذلك تجد المسلم الحق متمسِّكًا بمبادئ دينه الحنيف على كل حال وفي كل ظرف وفي كل مكان، بينما نرى بعض المنتسبين للإسلام قد غيَّروا وبدَّلوا، ولم يقتصر ذلك التغيير أو التبديل على بعض الأمور اليسيرة، بل وصلت إلى حدِّ التشبُّه بالقومِ في كل أو جُلِّ مظاهر حياتهم، ولو كانت مخالفة لما أمر الله به أن يوصل!
(م. س) شابٌ صالح، في عمر السادسة عشرة، نشأ في بيئة طيبة، كل من كان حوله ساعده على تلك النشأة، وفي مرحلة من مراحل عمره الدراسية؛ انتقل إلى بيئةٍ أخرى ولفترة وجيزة فقط، يؤدي خلالها اختبارات الشهادة العامة... هناك جلس مع زملاء وأصدقاء لم يعهد مثلهم من قبل، كما تعرَّف على آخرين من نفس طينة أولئك، وبهذا أُحيط بمجموعة مثَّلت أمامه سلوكيات أخرى، بعيدة عمَّا نشأ عليه وعرفه، فتأثَّر بهم، وسار معهم، وفعل بعض ما يفعلون، وحتى كان كثيرًا يفكِّر كما يفكِّرون، وبهذا أثبتت البيئة سيادتها وانتصارها عليه بما فيها من عناصر وممكِّنات.
لم تنتهِ القصة هنا؛ فذلك الشاب تميَّز بفارقٍ مهمٍ جدًا، كان أحد الأسباب في عدم تأثُّره المُطلق بالبيئة الجديدة وما فيها، هل تعلمون ما كان ذلك الفارق؟ وما سبب وجوده أو بالأحرى بقائه لديه؟
لقد تمثَّل الفارق لديه في عدم انسجامه التام مع الثُّلة الجديدة، وبالتالي لم يكن يقوم بأفعالٍ وسلوكياتٍ مُعيَّنة هم كانوا يفعلونها، بل اقتصر على بعض الأفعال دون الأخرى، أي: أنه -بالرغم من تأثُّره بهم- ما زال يميِّز بين الخطأ والخطأ الكبير أو الأكبر، وهذا بحدِّ ذاته أمرٌ طيب، ويدل على العنصر الطيب، والقلب الموفَّق، وبهذا نشير إلى السبب الذي جعله يفعل ولا يفعل، فذلك السبب هو البيئة الأصلية التي نشأ فيها؛ إذْ كانت قيمها وعاداتها وما أخذه منها ومن أهلها ما تزال عالقة في قلبه وكيانه، ولم يتفلَّتْ منها تمامًا، أو لم تنفك هي عنه، وكان الله قد تفضَّل عليه وأعانه؛ فحفظه وصانه.
وما هي إلَّا أيام حتى عاد إلى بيئته الأصلية مفارقًا تلك البيئة المُحدثة، فعاد هو إلى ما كان عليه في النشأة الأولى، ولم يكتفِ بصلاحِ ذاته وتصحيح مساره؛ بل شعر أن عليه واجبًا تجاه أولئك الذين خالطهم ثم تركهم، فكتب رسالة طويلة بخط يده، تحمل جملة من الوصايا والموعظة والتذكير بقيمة الدنيا وحقيقة الآخرة ونحو ذلك، وأرسلها إلى من كان أقربهم إليه، وأكثرهم لينًا واتزانًا على حسب تقديره...لكنها للأسف وصلتْ إلى من كان أقربهم إليه نسَبًا وأبعدهم منه نشأةً وخُلُقًا؛ فجعل لها حدًا لم تتجاوزه إلى غيره ومزَّقها.
قصة ذلك الشاب واحدة من مئات أو ربما آلاف القصص التي تدل على مبلغ تأثير البيئة والبيئة الأخرى، لذلك قال ذلك الرجل العالِم الفقيه لقاتل المائة نفسٍ حينما سأله: هل له من توبة؟ فقال: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ (انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ) (مسلم 4/2118)، بيئته الأصلية لم تثبِت أنها البيئة الصالحة لنشأته وطُهره واستقامته، لذلك ليست مؤهلة بعدُ لعودته إليها أو لبقائه فيها؛ فهو إن عاد سيبقى على ما هو عليه، ويبقى مُحاطًا بمن ألِفهم وتعوَّد عليهم، ويبقون هم يسرحون ويمرحون بين يديه، كما سيتذكَّر الأيام الماضية ويحنُّ إلى ما كان فيها، أو يُعيَّر بما فعله مع هذا وذاك، وهكذا لن تنتهي مساوئها وفتنها، بل ستبقى مطلَّة عليه مهدِّدة له بطريقة أو بأخرى، والحل فقط هو النجاة منها والفرار إلى أرضٍ تصلح أن ينشأ عليها من جديد، وتعينه بمن فيها على الاستقامة وتصحيح المسار.
(ص .ع) فتاة مسلمة، نشأت في بيئة محافِظة، كانت تذهب مع رفيقاتها لتحفيظ القرآن الكريم، وتمكنت من حفظ عشرين جزءًا، مرَّت الأيام وتزوجت الفتاة، ثم طُلِّقتْ وتزوجتْ رجلًا آخر، وانتقلت إلى بيئته، وتبدَّل حالها تمامًا؛ حيث تغيَّر مظهرها، ولبستْ ملابس قوم زوجها، ونحتْ منحاهم، وحين قيل لها: لماذا لم تتمسكي بمبادئ دينك وعادات قومك؟ ردَّتْ قائلة: لقد انتقلت إلى بيئة أخرى، وزوجي (منفتح)! وأنا أعيش مثلهم.
أرأيتم أيها السادة... طبعًا مع وضع عشرين خطًا تحت مصطلح (منفتح)، فليس هذا المقام لمناقشته أو الكلام حوله، ولكن لنشعر بمبلغ أهمية البيئة الأولى والبيئة الأخرى، البيئة الأصلية والبيئة البديلة، وبناء على ذلك؛ لزم الاهتمام البالغ باختيار بيئة العيش والحياة، فهي أيضًا بيئة التعلُّم والتخلُّق والسلوك، ولنحرص على أنفسنا وأولادنا وأهلنا في البيئتيْن حتى لا يضيعون فيهما أو بينهما، فإذا كنا قد عرفنا دور كلٍ منهما في صناعة الشخصية وثباتها كما هو تطورها إيجابًا أو تغيرُّها سلبًا؛ فنحن من لدينا الخيار -في الغالب- لاختيار البيئة، واختيار عناصر المُحيط ومؤثِّراته.
________________________________________________________
الكاتب: د. محمد علي السبأ