حدة ابن حزم وأسبابها
لعل هذه الحدة من أكثر ما عُرف عن ابن حزم رحمه الله تعالى، فلم يكن يكتفي بالتصريح بما يراه حقًا، بل ربما جاوز ذلك بتشنيعه على المخالف بعبارات قوية فيها بعضُ العنف، وهذا ما جعل النفوس تنفر عنه، وتنصرف عما لديه من علم كبير.
لعل هذه الحدة من أكثر ما عُرف عن ابن حزم رحمه الله تعالى، فلم يكن يكتفي بالتصريح بما يراه حقًا، بل ربما جاوز ذلك بتشنيعه على المخالف بعبارات قوية فيها بعضُ العنف، وهذا ما جعل النفوس تنفر عنه، وتنصرف عما لديه من علم كبير.
قال الإمام الذهبي واصفًا شدة ابن حزم وتقريعه على مخالفيه:
(وصنَّف في ذلك – يعني نفي القياس - كتبًا كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجَّج العبارة، وسبَّ وجدَّع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها، ونفروا منها، وأُحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقادًا واستفادة، وأخذًا ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجًا في الرصف بالخرز المهين، فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزؤون.
وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر.
وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكبا على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار)[1].
بل بلغت شدته عند مخاليفه أن شُبِّهَت بسيف الحجاج، فقد قال أبو العباس ابن العَرِيف: كان لِسَانُ ابن حزم وسيفُ الحَجَّاج شقيقين[2].
ومن أجل هذه الحدة والقسوة أيضًا قارن الحافظ السخاوي –رحمه الله تعالى- في "الإعلان بالتوبيخ لمن ذَمَّ التاريخ" بين ابن حزم وابن تيمية، فقال: ( وكذا ممن حصل من بعض الناس منهم نفرة وتحام عن الانتفاع بعلمهم، مع جلالتهم علمًا وورعًا وزهدًا؛ لإطلاق لسانهم وعدم مداراتهم، بحيث يتكلمون ويجرحون بما فيه مبالغة كـ: ابن حزم وابن تيمية وهما ممن امتحن وأوذي، وكل أحد من الأمة يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله، صلى الله عليه وسلم)[3].
وقد أرجع المهتمون بشخصية ابن حزم أسباب هذه الحدَّة، والشدة في الخطاب عند الرد على المخالف إلى عدة أسباب، منها:
1– ما ذكر هو عن نفسه أنه أصيب بمرض في الطحال فولّد عليه ذلك من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر والنَزَق، حتى أنّه نفسه أنكر تبدّل خُلقه، فقد قال عن ذلك: (وَلَقَد أصابتني عِلّة شَدِيدَة ولَّدت عَليّ ربوا فِي الطحال شَدِيدًا فولد ذَلِك عَليّ من الضجر وضيق الخُلق وقلة الصَّبْر والنزق أمرًا حاسبت نَفسِي فِيهِ إِذْ أنْكرت تبدل خلقي وَاشْتَدَّ عَجبي من مفارقتي لطبعي وَصَحَّ عِنْدِي أَن الطحال مَوضِع الْفَرح إِذا فسد تولد ضِدّه)[4].
2– ما أحسه من إرادة السوء به وإنزال الأذى، وأي أذى أشد وأعظم أثرًا في نفس العالم من أن يرى جهوده وثمرات فكره تحترق بين يديه ويشهد العالم احتراقَها، إن ذلك يخرج الحليم عن حلمه، فكان – بلا شك- كيدُ خصومه له من أسباب حدته بل إنه أعظم أسبابها[5]، فألوان الظلم التي لحقت به هي التي أنضبت معين اللين والرقة في نفسه[6].
وإن كنا نريد من ذلك العالم العبقري والحكيم الخلقي أن يعلو عن الحدة حتى في هذه الأحوال[7].
3– إن إخلاص ابن حزم قد كان سببًا في الصفة التي اشتهر بها، وهي الصراحة في الحق. ينطق بقول الحق، لا يهمه رضي الناس أم سخطوا، ويستوي عنده الإيذاء والثناء ما دام الحق يدفعه إلى أن يقول ما قال[8].
قال أبو مروان بن حيان: (وكان يحمل علمه هذا ويجادل من خالفه فيه، على استرسال في طباعه ومذل بأسراره واستناد إلى العهد الذي أخذه الله على العلماء من عباده {لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه}، لم يكُ يُلطّف صدعَه بما عنده بتعريض، ولا يزفّه بتدريج، بل يصكّ به معارضه صكّ الجندل)[9].
فحدة ابن حزم إنما هي نوع من الصراحة والوضوح والشجاعة والجرأة وعدم المداراة والصدق الكامل، والتدين الذي لا يخشى معه صاحبه إلا رضا الله سبحانه وتعالى، ويبدو أن هذه الأخلاق كلها قد ضاعت أيام ابن حزم، فأصبح بها ابن حزم غريبًا بين أهله جاهلًا بسياسة العلم[10].
والحق أن ما ورد في رسالته الرائعة "مداواة النفوس" يعتبر مرآة تشف عن ابن حزم، وقد لا تكون أخلاقه صورة كاملة لكل ما ورد فيها إلا أنها تجلي لنا أعماق إنسان لم يفهمه عصره... عصر الفتنة والطوائف!![11].
4– ابن حزم مواطن أندلسي، والإنسان ابن بيئته بالطبع كما يقول ابن خلدون، فالأندلسيون كالمغاربة اعترفوا من قديم: بأن في طِباعهم حِدَّة، وفي خَلْقهم شَكاسَة، فإذا أرادوا أن يصفوا لطيفًا من بينهم، وادع النفس سَمْحها، قالوا: هو على رِقَّةِ أهل المشرِق[12].
على أن علم النفس يقول: إن مع الحِدّة والشكاسة سلامة الطَّوِيَّة، وطيبة النفس.
نعم! حِدَّة ابن حزم سليمة الطوية، طيّبة العاقِبَة، وهي منه صلابة في الدِّين، وغيرة على الحق، سرعان ما يرجع بعدها ويفيء إلى المُوادَعَة والمُؤانَسَة. فأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، هم عنده كما هم عند الناس أئمة هدى وخير، ومُجْتَهِدون مأجورون على أيِّ حال، ناصِحون للإسلام والمسلمين، يدعو لهم برحمة من الله ورضوان[13].
يقول ابن حزم في الإحكام: إن أبا حنيفة ومالكًا -رحمهما الله- اجتهدا وكانا مما أُمِرَا بالاجتهاد... وجريا على طريق مَن سَلَف في ترك التقليد فأُجِرا فيما أصابا فيه أجرين وأُجِرَا فيما أخطآ فيه أجرًا واحدًا وسلما من الوزر في ذلك[14].
ويقول عن الإمام مالك –رحمه الله-: كان عندنا أحد الأئمة الناصحين لهذه الملة، ولكنه أصاب وأخطأ، واجتهد فوفِّق وحُرِم، كسائر العلماء ولا فرق[15].
5– وهناك وصف آخر في ابن حزم ربما كان من أسباب حدته وهو بلا ريب سبب من أسباب ذوقه الفني في النثر والشعر، فالله تعالى قد أعطاه فوق ذلك صدق حس، وبعد غور في إدراك حقائق النفوس، وأعطاه مع ذلك قوة معها عقل مدرك، وخلق كامل أنتجت صدق نظر، ومدارك تشبه الإلهام، ومشاركة وجدانية بينه وبين الناس تجعله يدرك كنه نفوسهم، ويكون بذلك صادق الفراسة يدرك أغوار النفوس بلقانة سريعة، وإحساس قوي عميق[16].
وكتابه "طوق الحمامة" خير دليل على إحساسه القوي، وفكره المستقري.
[1] سير أعلام النبلاء: 18/186-187.
[2] وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: 3/328؛ ومرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان: 3/62. وتذكرة الحفاظ: 3/231، وسير أعلام النبلاء: 18/199، وتاريخ الإسلام: 10/74.
[3] الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التوريخ: 211.
[4] الأخلاق والسير في مداواة النفوس: 71.
[5] ابن حزم، لأبي زهرة ص 63.
[6] تاريخ الفكر الأندلسي: ص 216.
[7] ابن حزم، لأبي زهرة ص 63.
[8] ابن حزم، لأبي زهرة ص 62.
[9] معجم الأدباء: 4/1655.
[10] ابن حزم الأندلسي وجهوده في البحث التاريخي والحضاري: ص 73.
[11] المرجع السابق: ص 73-74.
[12] معجم فقه ابن حزم: ص 31.
[13] المرجع السابق، نفس الصفحة.
[14] الإحكام في أصول الأحكام: 2/120.
[15] المرجع السابق: 2/122.
[16] ابن حزم، لأبي زهرة: ص 64.
- التصنيف: