غربة التوحيد

منذ 2021-12-30

هناك ظاهرةٌ تتكرَّر كلَّ حين، في شكل مَوْجات عاتية من الهجوم على ثوابتِ الأمَّة وعقائدها ومناهجها، وهي موجاتٌ وهجمات تتَّحِد في غاياتها، وإن كانت تختلف في أساليبها وأدواتها ورموزِها

عباد الله:

هناك ظاهرةٌ تتكرَّر كلَّ حين، في شكل مَوْجات عاتية من الهجوم على ثوابتِ الأمَّة وعقائدها ومناهجها، وهي موجاتٌ وهجمات تتَّحِد في غاياتها، وإن كانت تختلف في أساليبها وأدواتها ورموزِها، وإنَّ هذه الهجمات والظواهر تُعدُّ من أخبث وأخطر ما يُواجه المسلمين في عصرِهم الحاضر، حيث يُرادُ لها أن تمحوَ شريعة الله الحقَّة من الأرض، وتُقصِيها من واقع المسلمين.

 

أيها المسلمون:

لقد ظلَّت معالِمُ التوحيد والعقيدة السلفية إلى عَهْد قريب في مأمن من السِّهام الطائشة، والآراء المارقة، حتى نبتتْ نابتة، ومَرَقتْ مارقةٌ في بلاد المسلمين، جنَّدوا أنفسَهم لهدْم مجتمعاتهم، وبثِّ بذور الشرِّ والفساد فيما يقولون ويكتبون، فخاضوا في مُسلَّمات العقيدة، وثوابتِ الملَّة، بما تُمليه عليهم عقولُهم وأهواؤهم الفاسدة.

 

أيها المسلمون:

ما كنَّا نتصوَّر أن يوجد في بلاد المسلمين مَن يُصحِّح عقائدَ الكفرة، أو يشكُّ في كفرهم.

وما كنَّا نظنُّ أنه يوجد في أرض المسلمين مَن يرى أنَّ "لا إله إلا الله" لا تُثبت معبودًا فردًا، ولا تَنفي دينًا باطلاً.

ولكنَّها غُربة التوحيد التي استحكمتْ في هذا الزمن، حتى أضحتْ مظاهرُ منافاةِ التوحيد لا يصحُّ إنكارُها، أو كشْف باطلها.

 

عباد الله:

ضَاقَتْ فِجَاجُ الْأَرْضِ عَنْ صَرَخَاتِنَا   ***   وَتَكَسَّرَتْ بِأَكُفِّنَا الْأَقْـــــــــــلاَمُ 

فُتِحَتْ لِأَهْلِ الشَّرِّ أَبْوَابُ الْمَـــــدَى   ***   فَتَقَاطَرُوا وَعَلَى الدُّرُوبِ زِحَامُ 

وَتَدَاعَتِ الْأَوْبَاشُ تُعْلِنُ غَيَّهَـــــــــا   ***   وَيَؤُزُّهَا نَحْوَ الْخَنَا الْإِعْـــــــلاَمُ 

رَقَمُوا وَكَانَ الْكُفْرُ فِي كَلِمَاتِهِــــــمْ   ***   مَا دُونَهُ شَكٌّ وَلاَ أَوْهَــــــــــــامُ 

 

عباد الله:

إنَّ كُفرَ مَن لم يؤمن بدِين الإسلام مِن مُسلَّمات الشريعة وقواطع الملَّة، وممَّا هو معلوم من الدِّين بالضرورة، وإنَّ الآياتِ الدالةَ على كفر من لا يَدين بدِين الإسلام قطعِية الثبوت والدلالة، فرسالةُ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ناسخة لكلِّ شريعة سابقة.

 

ومِن الآيات التي تدلُّ على ذلك: قوله - تعالى -: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]، وقوله – تعالى -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

 

أيها المسلمون:

إنَّ مَن بلغتْه رسالةُ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يؤمنْ بها، فهو كافر في الدنيا، ومستحقٌّ لعذاب النار في الآخرة، وفي هذا يقول المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «والذي نفسي بيده لا يَسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمَّة؛ يهوديٌّ ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي أُرْسِلتُ به إلاَّ كان من أهل النار» ؛ (رواه مسلم) .

 

وخصَّ الحبيبُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - اليهودَ والنصارى؛ لأنَّهم أكثرُ الأديان انتشارًا في عهده، ويَدَّعون اتِّباعهم لكتاب منزل، ويدَّعون أنَّهم على التوحيد.

 

عباد الله:

لقد حَكَم الله - جلَّ جلاله - مِن فوق سبع سموات بكُفْر اليهود والنصارى، بل قد جاء ذلك صريحًا في كتابه، الذي جعله الله نورًا وهُدًى للناس؛ فقال - عزَّ مِن قائل سبحانه -: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72]، وقال – تعالى -: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73]، وقال – تعالى -: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1].

 

عباد الله:

إنَّ مَن لم يُكفِّر اليهود والنصارى أو شَكَّ في كفرهم، أو سوَّغ اتباعَ دِينهم، أو صحَّح ما هم عليه من اعتقادات باطلة - فهو كافرٌ باتِّفاق المسلمين، قال العلاَّمة محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - في نواقض الإسلام: مَن لم يُكفِّر المشركين، أو يشكُّ في كفرِهم، أو صحَّح مذهبهم - كَفَر.

 

أيها المسلمون:

إنَّ لفظةَ (كافِر) ليستْ لفظة اصطلاحية مبتكَرة، بل هي لفظةٌ قرآنيَّة مُحكَمة لا لبس فيها، فكلمة (كافر) ليست خاصَّة باليهود والنصارَى فقط، بل تُطلق على كلِّ من لم يبتغِ الإسلام دينًا، كالبوذيِّ والمجوسيِّ والشيوعي، ناهيك باليهوديِّ والنصراني، بل حتى مَن يدَّعي الإسلام وهو يمارِس ناقضًا من نواقضه معلومًا من الدِّين بالضرورة، فهو كافر، يعامل كما يعامل أمثاله من الكفَّار.

 

أيها المسلمون:

إنَّ الرِّدَّة هي الرجوعُ عن الإسلام، إمَّا باعتقاد أو قول أو عمل، فقد تكون الرِّدة قولاً باللِّسان كسبّ الله - تعالى - أو رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو الاستهزاء بدين الله – تعالى - وقد تقع الرِّدةُ بعمل ظاهرٍ من أعمال الجوارح كالسُّجود للصَّنم، أو إهانة المصحف، وقد تقع الرِّدةُ كذلك بقَوْل القلْب وعملِه.

 

والمرتد خارجٌ عن دين الإسلام يجب قتلُه، ولا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَن بدَّل دِينَه فاقتلوه»، وقد الْتزمَ الصحابة - رضوان الله عليهم - بهذا الحكم، وقام خلفاءُ وملوك الإسلام، وفي عصور مختلفة بإقامة حُكم الله - تعالى - في المرتدين أسوةً برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا يَخفَى موقف الصِّدِّيق - رضي الله عنه - تجاه المرتدين وقتاله لهم، وسار على ذلك بقيةُ الخلفاء، ومن تبعهم بإحسان.

 

عباد الله:

لقد ظنَّ كثيرٌ من الناس أنَّ ظاهرة الرِّدة قد وُئدِتْ إلى غير رجعة، بوأدِ أبي بكر - رضي الله عنه - لها، ولكنَّ الأمر على العكس من ذلك، فها هي الرِّدة عن الإسلام تُطفأُ نارُها تارة، وتُضرَم تارة أخرى، وفي الآونة الأخيرة تطاول شِرذمةٌ من السفهاء، فوصفوا الأحكامَ الشرعيَّة المترتبة على الرِّدة بأنَّها استبدادٌ وقسوة، ومناقضة لحرية الرأي وحرية التعبير؛ {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83].

 

أيها المسلمون:

إنَّ الرِّدة التي جاهَر بها بعضُ شراذم هذا العصر ليستْ مجرَّد رِدَّة فقط، بل ضمُّوا إلى هذه الردة المحاربةَ لله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والإفراطَ في العداوة، والمبالغةَ في الطعن في دِين الله – تعالى - وصاحِبُ هذه الرِّدة المغلظة لا يَسقطُ عنه القتل - وإن تاب - بعدَ القدرة عليه، كما حَرَّر ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بقوله: "إنَّ الرِّدة على قسمين: ردة مجرَّدة، ورِدَّة مغلَّظة شُرِع القتل على خصوصها، وكلتاهما قد قام الدليل على وجوب قتْل صاحبها، والأدلة الدالةُ على سقوط القتل بالتوبة لا تعمُّ القسمين، بل إنَّما تدلُّ على القسم الأول (الرِّدة المجرَّدة) كما يظهر ذلك لِمَن تأمل الأدلة على قَبول توبة المرتد، فيبقى القسم الثاني (الردة المغلظة)، وقد قام الدليل على وجوب قتْل صاحبها، ولم يأتِ نصٌّ ولا إجماعٌ بسقوط القتْل عنه" ا.هـ.

 

عباد الله:

إنَّ حمايةَ جَنَاب التوحيد، والحِفاظَ على مقام الدِّين من أن يُمسَّ - من أعظم الواجبات، وإنَّ جهاد هؤلاء المفسدين من أعظمِ جهاد الكلمة، والنُّصح للأمَّة، والتواصي بتعرية هؤلاء وتجلية هذه المسائل من أشرف أنواعِ التواصي بالحقِّ والصبر.

 

وكلُّنا أملٌ - بعد الله تعالى - في علمائِنا ودُعاتِنا ووُلاةِ أمْرِنا أن يبقى صوتُهم بالحقِّ مجلجلاً، فبهم تَهتدي الأمَّة وتَرشُد، وبهم يَقتدي الأنامُ؛ لأنهم ورثةُ الرُّسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام.

 

عباد الله:

إنَّ حرية الرأي مزلَّة في مثل مُسلَّمات العقيدة، ويجب ألاَّ تنال حريةُ الرأي من المقدَّسات الدينية والثوابت الشرعيَّة؛ إذ مسُّ المقدَّس يُعتبر خروجًا عن إطار الحرية الفرديَّة، ونكاية بمعتقدات الجماعة، وخاصَّة في بلدٍ يقوم على اعتبار الإسلام مرجعيتَه النهائية التي لا يجوز لأحدٍ أن يتعدَّى عليها أو يمسَّها بسوء.

 

أيها المسلمون:

إنَّ الحرْب على الإرهاب والتكفير لا يعني انتفاءَ الرِّدَّة من الإسلام، ولا يعني أن تُتَّخذ هذه القضية وسيلةً وحِيلةً لكلِّ مَن تُسوِّل له نفسه أن يقول في الإسلام ما يشاء، فكما أنَّ المجتمع كله يقف ضدَّ من يتخذ من التكفير وسيلةً لإزهاق الأرواح وترويع الآمنين، فإنَّ اتِّخاذ حرية الرأي والتعبير وسيلةً لإشاعة الكُفْر لا يقلُّ خطورة عن الأول.

 

عباد الله:

إنَّه متى ما قُدِح في التوحيد ونِيل منه، اختلَّ الأمن، واضطرب الحال، وإليكم مِصداقَ ذلك من كتاب ربكم في قوله: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

 

أيها المسلمون:

حَتَّى مَتَى يَتَطَاوَلُ الْأَقْــــــــزَامُ   ***   وَإِلَى مَتَى يَغْشَى النَّهَارَ ظَـلاَمُ 

إِنِّي أَرَى خلَلَ الرَّمَادِ تَوَقُّـــــــــدًا   ***   وَأَرَى الْوِهَادَ تَهُزُّهَا الْأَلْغَـــــــامُ 

إِنْ ضَيَّعَتْ شَأْنَ الثَّوَابِتِ أُمَّــــــةٌ   ***   وَغَدَتْ بِأَبْخَسِ مَا يَكُونُ تُسَامُ 

فَهُنَاكَ يُهْدَمُ كُلُّ صَرْحٍ شَامِـــــخٍ   ***   وَيُبَاحُ أَصْلٌ وَهْوَ قَبْلُ حَـــــرَامُ 

وَهُنَاكَ يُهْزَأُ بِالشَّرِيعَةِ جَهْــــــرَةً   ***   وَتُزَيَّنُ الزَّلاَّتُ وَالْآثَـــــــــــــــامُ 

وَلَسَوْفَ يُكْرَمُ كُلُّ خِبٍّ فَاسِــقٍ   ***   وَكَأَنَّهُ الصَّوَّامُ وَالْقَــــــــــــــوَّامُ 

فَاسْتَيْقِظُوا يَا قَوْمَنَا مِنْ رَقْـدَةٍ   ***   مَا حَازَ مَجْدًا مَعْشَرٌ نُــــــــــوَّامُ 

 

اللهمَّ أبرِمْ لهذه الأمَّة أمرًا رشدًا، يعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتك، اللهم أجِرْ عبادك الموحِّدين من كيد الأعداء، واحفظ عليهم دِينَهم، وحماةَ دِينِهم.

__________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الفقيهي

  • 3
  • 0
  • 3,336

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً