(2) موقف الشريعة الإسلاميَّة من العلْم والمعرفة
عبد الرحيم بن صمايل السلمي
كل مَن ينظر في القرآن والسنة يعلم يقينًا حثَّ الشريعة على العلم والمعرفة، والثناء على أهلها، والأمر بالنظر والتدبُّر، والثناء على العقل والعُقَلاء، والأمر بعمارة الأرض وبنائها على منهج الله تعالى
- التصنيفات: الإسلام والعلم -
كل مَن ينظر في القرآن والسنة يعلم يقينًا حثَّ الشريعة على العلم والمعرفة، والثناء على أهلها، والأمر بالنظر والتدبُّر، والثناء على العقل والعُقَلاء، والأمر بعمارة الأرض وبنائها على منهج الله تعالى، وهذه الخصيصة للشريعة الإسلامية حاصلة لها بسبب كونها (شريعة ربانيَّة)، ليس للإنسان أثرٌ فيها، فهي منَ العليم الخبير لإصلاح الإنسان في كل جوانب حياته، فالإنسان بعقْلِه وعواطفه من خلْق الله تعالى، والأرض وسُننها وقوانينها وما فيها من الخزائن من خلْقِه تعالى، والإسلام وعقائده وشرائعه منَ الله تعالى.
فمصْدرُ الجميع واحد، وهو الله تعالى؛ يقول تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54].
ولهذا جاءتْ متناسقة ومتوافقة؛ يقول تعالى: {أَلَا يعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
ويظهر موقفُ الشريعة من العلم والمعرفة من خلال ما يلي:
1 - الحث على العلم والتعلُّم:
فقد رغَّب الإسلامُ في العلْم والتعلُّم، وأثْنى على أهله ومدحهم؛ يقول تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[المجادلة: 11]، ويقول تعالى: {هَلْ يسْتَوِي الَّذِينَ يعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «طلَبُ العلم فريضة على كل مسلم»[5]، ويقول أيضًا: «مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّلَ الله له به طريقًا إلى الجنة»[6].
والعلم الممدوح نوعان:
1 - العلم الشرعي: إذا كان بإخلاصٍ، وغايته العمل.
2 - العلم الدنيوي: إذا أُريد به عمارة الأرض وإقامة العبودية لله تعالى.
ولكن الممدوح في الشرع بالأصالة هو العلم الشرعي، والعلم الدنيوي مدحه لغيره لا لذاته، ولهذا ذم الله تعالى من تعلَّم علم الدنيا، ونسي علم الآخرة؛ فقال تعالى: {يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].
فليس العلم بصورة عامة ممدوحًا حتى تتحقق فيه الشروط التالية:
1 - الإخلاص فيه، وابتغاء وجه الله تعالى.
2 - ألا يكونَ العلمُ في ذاته محرَّمًا؛ كعلم السحر، أو علمًا فاسدًا؛ كعلم الفلسفة، والكلام ونحوها.
3 - العلم بالعلْم الشَّرْعي.
4 - أن يقصد بالعلم الدنيوي كونه وسيلة لعبودية الله تعالى.
5 - ألا يكون وسيلة إلى محظور؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
وبهذا يَتَبَيَّن أنَّ العلاقة بين العلم والدين علاقة توافُق وانسجام، فالدِّين في ذاته يتضمَّن العلم ويأمر به، ويجعله منطلقًا لبناء الحياة وفْق منهج الله تعالى، ولكن يُستثنى من ذلك ما يلي:
1 - العلْم المشتمل على معلومات وتصوُّرات غير الصحيح.
2 - العلم المحرَّم، وهو ما يكون فيه من المفسدة ما تفوق المصلحة، وقد تكون مصلحة وهميَّة.
3 - الإرادة السيئة من العلْم في غاياته وأهدافه.
أما ما سوى ذلك فإن الشريعة تحثُّ عليه وتمدحه، وتطالب به، وتذم تاركه، ويعتبر تاركُه مذمومًا في الدِّين، ولهذا اتَّفق السلفُ الصالح على ذمِّ دراويش الصوفية الذين أعرضوا عن علم الدنيا والدين، والتفريط في علْم الدِّين أو الدنيا يكون بحسب نوع العلم المفرَّط فيه، فمَن فرط في تعلُّم العلم الشرعي الواجب؛ كمعرفة الله، وأصول الإيمان، وأركان الإسلام والواجبات، فهذا مذموم، وكذلك تفريط الأمة في علم الدنيا الواجب؛ مثل: صناعة السلاح للجهاد في سبيل الله، فهذا مذموم.
وعلى العموم فالعلم الصحيح ممدوح، سواء كان واجبًا أو مستحبًّا، وهو ممدوح عقلاً وفطرةً وشرعًا، حتى لو كان مباحًا، فإنه يكون مستحبًّا بالنِّيَّة الصالحة فيه.
2 - الأمر بالنظَر والتدبُّر والاعتبار:
لقد أثنى الله تعالى على العقل، وأمر بالنظر والتدبر والاعتبار لما فيه من تحرُّر الفكر من الأوهام والخرافات والأساطير؛ يقول تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20]، ويقول - جلَّ ذِكْرُه -: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
وقد مدح الله تعالى العقل وإعماله في التفكُّر والتدبر، ومدح مرادفاته؛ كالألباب، والأحلام، والتفكُّر، والتذكر، والاعتبار، والفقه، والعلم، ونحوها، وقد حرر الإسلام العقل من الأوهام والخرافات، ونهى عن كل ما يقدح فيه؛ مثل: الخمر، والتقليد الأعمى، والهوى، والجهل، والتعصُّب لغير الحق.
ولهذا لا يوجد في الإسلام سلطة كهنوتية بأي شكل من الأشكال، بل هو مبنيّ على التوحيد الخالص المحرِّر للعباد من عبودية العباد إلى عبادة الله وحده، فليس هناك واسطة بين العباد وبين ربهم، إلا الرسل على سبيل البلاغ، لا على سبيل العبادة، وهذا لا يعني أن العقل والنظر مطلق له العنان، بحيث يدخل في كل أمر، حتى لو كان لا يحسنه، بل له ضوابط تضبط مسيرته؛ منها:
1 - أن العقل يدرك الأشياء بوجْه جملي دون الإحاطة التامة والمعرفة التفصيليَّة.
2 - أن منزلة العقل من النَّقل بمنزلة الخادم من سيِّده، وهو بمنزلة البصر والنقل بمنزلة النور، فإذا فقد النقل عجز العقل، كعجز العين عند فقْد النور.
3 - أن حقائق الأمور الغيبية لا يدركها العقل إلا من جهة إثباتها ومعرفة ما تدلُّ عليه الألفاظ المعبرة عنها من ألفاظ الشرْع فقط.
3 - بيان أهمية عمارة الأرض:
لقد خلَق الله تعالى الإنسان في الأرض ليقوم بالعبودية له فيها، ويعمرها وفْق ما شرعه الله تعالى وأمر به، يقول تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
لقد خلَق الله تعالى الإنسان وهو متحرك حركة دائمة، إما في الخير، وإما في الشر، وأمره تعالى أن تكونَ حركتُه في الخير، وهو تحقيق ما أمَر الله به، وترك ما نهى عنه، وهذا أعظم ما تعمر به الأرض، "إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر، وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان"[7].
وعمارة الأرض تكون بما يلي:
1 - عمارتها بإقامة دين الله تعالى فيها، وتطبيق شرعه، وتنفيذ أمره وإرادته في حياة الناس.
2 - إقامة العدل، ورفع الظلم، وإظهار التوحيد والعقائد الربانيَّة الحقَّة التي لم يخالطْها خرافة ولا غبش فكْري.
3 - بناء الحياة وأنماطها وجميع جوانبها في العقائد والأحكام والأخلاق، وفي المال والحكم، وفي الرجال والنساء، وفي العلم والفكر، وفي كل شيء على هدْي الله ووحْيِه.
ولهذا لو نظرنا نظرةً فاحصة في خسارة الدنيا، عندما استولى الكفار على كثير من البلاد، لعرفنا الحاجة الماسة إلى عمارتها وفْق منهج الله تعالى، فإنَّ ظهور الكفر والفُجُور، ومحاربة الله تعالى مؤذن بفساد العالم وخرابه؛ يقول تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيدِي النَّاسِ لِيذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يرْجِعُونَ} [الروم: 41].
ويقول تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وينتج عن تفوُّق الكفار في عمارة الأرض، إعلاء أهواء العباد في قضايا الفكر والسلوك، وإخفاء كلمة الله تعالى، وحينئذٍ يشقَى الناس بالحيرة والتِّيه والاضطراب والأمراض والتحلُّل الأخلاقي، وتفَكُّك عرى المجتمع، وانقسامه إلى طبقات متصارعة، واضمحلال روح الإخاء الاجتماعي، وبروز الأنانية، وسيْطَرة الروح الفرديَّة، إلى غير ذلك مما يطالعه من يراقب حال العالَم اليوم الذي سيطر عليه الغربيون، وامتلكوا زمام التوجيه فيه.
وينتج أيضًا عن ذلك هلاكُ الحرْث والنسل؛ بسبب غياب العدل والرحمة، ولعل الحروب العالمية شاهدة على ما عانتْه الدنيا؛ بسبب سيطرة الكفَّار عليها، ولهذا تظهر أهمية عمارة الأرض من قبل أهل الإسلام، وإقامة الدِّين فيها، وبنائها بناءً ماديًّا يخدم الإنسانيَّة، كما يدلُّ على ذلك الحديث المشهور: «إن قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»[8].
ومن خلال ما تقدَّم يظهر لنا حثُّ الشريعة على العلم الصحيح الديني والدنيوي، وبيانها لأهمية استعمال العقل في مجاله الصحيح، وحثها على النظر والتفكر وعمارة الأرض، وهذا يدل على أن التزام الشريعة نفسها والعمل بها يدعو للعلم والمعرفة والإبداع، وبناءً على ذلك فليس هناك مجال للقول بضرورة (الانفتاح)؛ لأنه إذا أريد بالانفتاح الاطلاع والعلم والمعرفة والإبداع والاختراع، فهذا ما تأمر به الشريعة وتحث عليه عندما يكون صحيحًا نافعًا، وعلامة صحته أن يكون صحيحًا في ذاته، وألا يعارض قطعيًّا من قطعيَّات الشريعة، ومعارضته للقطعي فيها دليل على عدم صحته، وعلامة نفْعه أن يكون له حقيقة وفائدة واقعية في حياة الإنسان، أما إذا كان أمر لا نفع فيه، فإنه ضياع للعمر وللوقت، والإنسان سوف يُسأل عن عمره فيمَ أفناه؟ واشتغال الإنسان فيما لا يعنيه علامة على إعراض الله تعالى عنه.
وفيما يتعلَّق بموقف الشريعة الإسلاميَّة من العلم والمعرفة، هناك عدة مسائل لا بُدَّ من الوقوف عندها:
المسألة الأولى: الموقف الشرعي من عُلُوم غير المسلمين ومخلفات حضارتهم:
علوم غير المسلمين نوعان:
النوع الأول: علوم دينية، سواءً كانت تتحدث عن أديانهم، أو عن دين الإسلام:
والموقف الشرعي من هذا النوع فيه تفصيل كالتالي:
أ - العلوم الدينية التي ينقلونها عن أهل ملتِهم، فالموقف الشرعي منها يختلف بحسب نوع التعامل معها:
1 - فإنْ كان النقلُ منها لمعرفة دين أصحابها دون اعتقاد مضمونه، فهذا لا بأس به، إذا كان النقل عن مأمونٍ خبير فيما يتحدث فيه، وقد أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن يتعلم التوراة فتعلمها في خمسة عشر يومًا[9]، ولا يزال العلماء ينقلون عن أهلِ الأديان مِنْ واقع مُصنفاتهم لِمَعْرفة حقيقة دينهم لبيان ما فيه من الباطل والتناقُض، وهذا منهج علْمي صحيح أن تنقل عن صاحب الشأن لا عن من نقل عنه، وهو من العدل الذي أمرنا به في قوله تعالى:{وَلَا يجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، ولكن لا ينبغي الاشتغال بهذا لمن لَم ينضج في فَهم دين الإسلام وذلك سدًّا للذريعة، وسيأتي الإشارة لهذا في ضوابط الانفتاح.
2 - وإن كان النقل عنها للاستدلال بها والاعتماد عليها أو ترجمتها للانتفاع بها، فهذا لا يجوز؛ لأنَّ في دين الإسلام غنية وكفاية في الدلائل والمسائل وفي العقائد والأعمال، وسيأتي الإشارةُ لهذا في الانفتاح الفِكْري المذْمُوم.
ب - العلوم الدِّينية التي ينقلونها عن الإسلام، سواءً في العقيدة أو الفقه أو العلوم المساعدة لها كاللغة والأُصُول والتاريخ ونحوها، وهذا مثل كُتُب المستشرقين في العلوم الإسلامية، فالموقف الشرعي عدم الاعتماد عليها لِمَا يلي:
1 - أن فيما كتبه علماء الإسلام غنية وكفاية في فَهم قضايا الإسلام ولُغته وتاريخه، وهم أعلم به من الدُّخلاء الذين يكتبون عنه وهم خارجه.
2 - أن مِن أصول الرواية عدم قبول رواية ونقل الفاسق المسلم، كما في قوله تعالى: {يا أَيهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَينُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]؛ فكيف برواية الكافر؟!
3 - أنه ثبت من واقع كُتُب المستشرقين أن لهم أغراضًا خبيثة، وأهدافًا سيئة، يريدون نشرها من خلال كتبهم، ويلوون أعناق النصوص ويبترونها ويُفَسِّرونها تفسيرًا غريبًا على التصوُّر الإسلامي، ويُحَرِّفون الكلم عن مواضعه، فلا شك أن من كانت هذا حاله لا ينقل عنه، فكيف وروايته مجروحة، وعندنا غنية وكفاية؟!
النوع الثاني: عُلُوم دنيويَّة بحْتة؛ مثل: الصناعات والاختراعات العمَليَّة:
فهذا لا بأس مِنْ أخْذه وقَبُوله، ويكون ذلك بعد إخْضاعِه لقوانين النقْد العِلْمي، وظهور صحته وصدقه، وهو إرثٌ إنساني يمكن لأي أمة أن تُطَوِّره وتزيد فيه، وهو علْمٌ تراكمي شارَكَ فيه عناصر من أديان متعدِّدة، لكن ينبغي التنبُّه لِما يلي:
أ - التفريق بين الحقيقة العلمية الضرورية، وبين النظرية الظنية، والتفريق بين العلوم المادية والعلوم الإنسانية؛ لأن للأخيرة ارتباطًا بالتوجُّه والدِّين والأخلاق.
ب - تصْفية بعض المخترعات من المخزون الثقافي الذي تتضمنه، فكلُّ تقنية لها ضلال ثقافي لا بُدَّ من تصْفيته منها قبل نقلها، وتكييفها لتناسب الأمة المسلمة ذات الرسالة الربانية.
ج - عدم الوقوف عند الأخذ والتلقي، وتجاوز ذلك إلى التفكير والإبداع والتطوير.
د - كل الأمور المادية تدخل في باب الإباحة والجواز، سواءً كانت من الصناعات المادية، أو غيرها؛ مثل: الفنون الإدارية والعسكرية، مع أهمية تصفية ذلك مما يعلق به من المضامين الفكريَّة.
هذا ما يتعلَّق بعُلُوم غير المسلمين، أما الآثار والمخلفات الحضارية للأمم البائدة، فهي متنوعة، ويتنوع الحكمُ عليها بحسب نوعها[10]:
1 - ما فيه فائدة علميَّة أو ماديَّة؛ مثل: الوثائق والنقوش وقطع النقود والجسور والآبار والعيون والسدود والقناطر والطرق ونحوه، فهذه يستفاد منها، وقيمتها بقدر الخدمة التي تؤديها للناس، وليس لها فائدة أكثر من ذلك، فلا يجوز الاهتمام بها باعتبارها أثرًا لا يقدم خدمة عمليَّة، ولا يجوز تعْظيمُها أو تقديسُها.
2 - ما في وجوده منافاة للعقيدة الصحيحة؛ مثل: التماثيل والصور والأصنام وبيوت العبادة لغير الله، والمشاهد المبنيَّة على القبور والمزارات ونحوها، فهذه يجب تحطيمُها وإزالتها؛ لأنَّه ذريعة إلى الشِّرْك.
3 - ما لا نفْع فيه ولا ضرر منه لذاته؛ مثل: المباني الخربة، وبقايا الأسوار والحصون، والبنايات الكبيرة؛ كالأهرامات، وإيوان كسرى، وحدائق بابل، ونحوها، فهذا يهمل كما أهمله الصحابة، ولا يعنى به؛ لأنه إرث لأمة جاهلية، فلا يهتم به، فالاهتمام به نوع تعظيم له ولِمَنْ خلَّفه.
وقد أرشدَنا القرآنُ للمنهج الصحيح في دراسة الآثار، وعرفنا القيمة الحقيقة لها، وهو أخذ العبرة والعظة من مصارع الذين هلكوا وظلموا أنفسهم؛ يقول تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل: 69]، ويقول جلَّ ذكْرُه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58].
المسألة الثانية: مدى الحاجة إلى (الانفتاح) على الفكر الآخر:
"إنَّ الإسلام تصوُّر مستَقلٌّ للوجود والحياة، تصور كامل ذو خصائص متميزة، ومِنْ ثَمَّ ينبثق منه منهجٌ ذاتي مستقل للحياة كلها، بكل مقوماتها وارتباطاتها، ويقوم عليه نظام ذو خصائص معينة، هذا التصوُّر يُخالف مخالفة أساسية سائر التصوُّرات الجاهلية قديمًا وحديثًا"[11].
وليس له حاجة في الانفتاح على أي فكرٍ آخر؛ لأنَّ هذا الفكر الآخر إنساني، والإسلام منهج رباني كامل، وإذا كان لا يستوي الخالق مع المخلوق، فكذلك لا تستوي شريعة الخالق مع أوهام المخلوق، وكلمة (الفكر الآخر) كلمة فضفاضة، يُراد بها أنواعًا متعدِّدة من الأفكار والأهواء، لكنها جميعًا تجتمع في خصيصة واحدة، وهي أن مصدرها (بشري) أرضي.
فإذا كان المقصود بالفكر: نتاج المعرفة الإنسانية فيما فيه منفعة دنيوية، فهذا أمر مشترك بين سائر البشر، يستفيد فيه بعضُهم من بعض دون نكير، وإذا أريد بالفكر ما يكون موافقًا لمعنى الدين؛ مثل: التفسير الفكري للكون والإنسان والحياة والغيب ونحو ذلك، ففي الإسلام غنية كافية وصادقة، وهذا ما نريد بمنع الانفتاح عليه؛ لما فيه من الضرر والشك في الدين الحق.
إذا عرفنا ذلك، وعرفنا منزلة العلم والنظر وعمارة الأرض في هذا الدين، وأدركنا إدراكًا جازمًا بالفرق بين الخالق والمخلوق، ندرك حينها أنه ليس هناك أي حاجة للانفتاح على الفكر الآخر - فيما يتعلق بالأمور الدِّينية والقيم الأخلاقية الثقافية - إلا في دعوته إلى الحق، وترْك الضلال بالأدلة البرهانية المقنَّعة.
فكل خصائص الكمال والتمام موجودة في الإسلام؛ لأنه منهج رباني ومصدره إلهي، "فهو وحده مناط الثقة في أنه التصوُّر المُبَرَّأ من النقص، والمُبَرَّأ من الجهل، والمُبَرَّأ من الهوى، وهذه الخصائص المصاحبة لكل عمل بشري، والتي نراها مجسمة في جميع التصوُّرات التي صاغها البشر ابتداءً من وثنيات وفلسفات، أو التي تدخل فيها البشر من العقائد السماوية السابقة، وهو كذلك مناط الضمان في أنه التصوُّر الموافق للفطرة الإنسانية، الملبِّي لكل جوانبها، المحقق لكل حاجاتها، ومن ثَمَّ فهو التصوُّر الذي يمكن أن ينبثقَ منه، ويقوم عليه، أقوم منهج للحياة وأشمله"[12].
إن القولَ بحاجة الفكر الإسلامي - بمعنى حقائق الإسلام العقَديَّة المتَّفق عليها - إلى أي فكر بشري آخر هو كالقول بحاجة الله تعالى للإنسان، ولكنّ المنهزمين فكريًّا ونفسيًّا لَم يتصوَّرُوا أولاً: طبيعة هذا الدين وخصائصه ومميزاته ومصدره، ثم لم يعرفوا - ثانيًا - الخلل الكبير الذي وقَع فيه الفكر الإنساني المبتعد عن الله تعالى في تصوُّره وقيمه وأدبياته، ونحن هنا لا نقصد أفكار آحاد المسلمين التي هي قابلة للأخْذ والرد، ولكن نريد الفكر الإسلامي المجمع عليه والمستند بقطيعة ووضوح إلى الوحْي الرَّبَّاني.
المسألة الثالثة: امتلاك الحقيقة المطلقة:
لا شك أن الإسلام يملك الحقيقة المطلقة في معرفة الله تعالى والنبوات والتوحيد والغيبيات والتشريعات؛ لأنَّها هي الحق، وغيرها المخالف لها هو الباطل: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32].
هذا فيما يتعلَّق بالأمور الواضحة في النُّصوص الشرعية، أما فيما يتعلق بالأمور الخفية التي يختلف فيها المجتهدون من المسلمين في القضايا الشرعية، فهذا لا يمكن فيه القول بامتلاك الحقيقة المطلقة لأحد من المجتهدين دون الآخر، مع وجود الحقيقة في ذاتها ثابتة.
وللمجتهد أن يُخَطِّئ مخالفه، ويعتقد بصواب قوله، أما الادِّعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة في أمر خفي، فهذا غير صحيح؛ لأنه يوحي بعدم إعذار المخالف له المنضبط في نظره واجتهاده، وهذا لا يعني أن الحق في قضايا الاجتهاد نسبي لا يوجد فيه حقيقة في نفس الأمر، بل الحقيقة ثابتة، والحق يمكن الوصول إليه في قضايا الاجتهاد، ولهذا كان المصيب من المجتهدين واحدًا، والآخر مخطئًا، وهذا هو الصواب، خلافًا لمن زعم أن كل مجتهد مصيب، ففي الحديث: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإن أخطأ فله أجر))[13].
وشعار "امتلاك الحقيقة المطلقة" تهمة يرفعها أصحاب الملل المنحرفة والمذاهب الزائفة في وجوه أهل السنة؛ ليقولوا لهم: إنكم قد حكمتهم على المخالف قبل الحوار، فما هي فائدته؟
والحقيقة أنه ليس هناك حوار ديني بين أهل الإسلام وأهل الأديان غير حوار الدعوة، وإقامة الأدلة العقلية المقنعة على صحة الحق، وأما الحوارات في القضايا الدنيوية المشتركة؛ مثل: محاربة الفقر، وحماية البيئة، وغيرها، فالأصل فيهما الجواز؛ لأن التعاون مع الكفار على أمور نافعة ومباحة جائز، كما يظهر ذلك في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن (الحوار بين الأديان) في صورته المعاصرة غير مقتصر على ذلك، فهو مشتمل على أبعاد سياسية تحقق مقاصد الدول الكبرى، ويتخذ الحوار مطيَّة لذلك، يتضمن - أحيانًا - المطالبة بإيقاف الدعوة بين الطرفين، أو الاعتراف بالأديان المحرَّفة؛ ونحو ذلك من الشروط الإضافية على الحوار في القضايا المشتركة.
وربط هذا الحوار بالدين ودعوة العلماء والقساوسة وغيرهم لا مبرر له؛ لأنهم ليسوا أهل اختصاص في الأمور الدنيوية التخصُّصيَّة، وارتباطها بالجانب السياسي ودعوة أهل الاختصاص هو الأجدر، ولهذا وقف أهلُ العلم موقف الارتياب من هذه الحوارات، ولا يعني هذا الحكم على كلِّ حوار بين أهل الأديان بحكم واحد، فالأصل في الحوار الدنيوي الجواز، أما إذا كان هناك مفاهيم إضافية على الحوار الدنيوي، فلكل مفهوم حكمه.