من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الاحتلال- تبادل المنافع)
كما قامت علاقة وطيدة بين الاحتلال والاستشراق، قامت علاقة أيضًا بين الاحتلال والتنصير، حتى عَد الباحثون كثيرًا من المنصرين على أنهم محتلون.
كما قامت علاقة وطيدة بين الاحتلال والاستشراق، قامت علاقة أيضًا بين الاحتلال والتنصير، حتى عَد الباحثون كثيرًا من المنصرين على أنهم محتلون.
ودعا التنصير الاحتلال إلى البلاد العربية والإسلامية؛ ليسهِّل له الحملات التنصيرية، التي كانت تواجه رفضًا رسميًّا من بعض حكام البلاد العربية والإسلامية آنذاك، فكان من الأنسب للمنصرين أن ينضوي هؤلاء الحكام تحت الحماية الغربية؛ ليخلو الجو لأرباب الحملات التنصيرية للتوغل في المجتمع المسلم باسم المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - أو باسم العِلْم أو الطب أو الإغاثة أو التدريب أو التنمية، أو غيرها من الوسائل الخفية للتنصير[1]، هذا من وجه.
وفي الوجه الثاني استخدم المحتلون المنصرين ممهدين لهم للولوج في الفكر العربي الإسلامي للناس البسطاء في عمومهم آنذاك، عندما أوهم المنصرون المسلمين أن الاحتلال إنما يقصد رفع مستوى المسلمين المعيشي، وعمارة بلادهم وأنفسهم، والارتقاء بهم إلى مستوى حضاري بعيد قطعًا عن الانتماء الديني للإسلام، بل إن هذا الاحتلال كما يصوره المنصرون إنما جاء بسبب بَركة المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - ودعوته المستمرة للمنصرين أن ينقذوا الناس في المشرق، ويخلصوهم من الظلام والضلال الذي هم فيه.
ومن وجه ثالث ربما استُخدِم المنصِّرون من المحتلين، من دون أن يدرك المنصِّرون هذا الاستخدام ومغزاه؛ ذلك أن من المنصرين من كان بعيدًا عن السياسة، ومنهم كذلك مَن أخذ التنصير بجدية لا تحمل خلفها أي مغزى آخر، سوى زعمهم بأنهم إنما يلبون تعاليمَ النصرانية في نقل الناس من الضلالة إلى الهدى.
وكان هذا هو مبلغ علمهم، لا سيما أن هذه الفئة لم تكن لتتعرف على الإسلام على أنه دين سماوي، وإنما تعرفت عليه بإيحاء من الاستشراق على أنه تعاليمُ محمديةٌ جاء بها ذلك الرجل في مكة، وألف كتابًا لقومه سماه القرآن، جمع فيه من تعاليم اليهودية والنصرانية والفارسية والهندية والرومانية واليونانية![2] ولذا نجد أن بعض فرسان هذه الفئة من المنصرين يتخلَّون عن التنصير، عندما يتبين لهم خلاف ذلك، فيقبعون في دورهم وديارهم ينصرون بني قومهم، وقد يعتنقون الإسلام ويصبحون دعاة له بين أبناء جلدتهم! وهذه الفئة التي أسلمت شكلت تهديدًا واضحًا وقويًّا، لا للحملات التنصيرية فحسب، بل للحملات الاحتلالية كذلك، إلا أنهم إعلاميًّا لم يظهروا على الساحتين التنصيرية والاحتلالية، وهذا أمر واضح ومعلوم بالضرورة والممارسة الإعلامية التي لا تُظهِر إلا ما تريد هي إظهارَه.
وكان بعض المنصرين من ذوي الفئة البعيدة عن السياسة على قدر من السذاجة والطيبة، بحيث أصبحوا نهبًا للأطماع الاحتلالية، بحجة أن الاحتلال إنما هو امتداد للجهود التي ينبغي أن توجد في المجتمعات الضالة، ليقوم التنصير على هدايتها والرفعة بها من الظلام إلى النور؛ أي من ظلام الدين الذي هي عليه، وهو الإسلام هنا، إلى النور الذي عليه المنصرون، وهو النصرانية أو المسيحية، وهم، كما سبق، إنما جاؤوا لهذا.
ويتأخر تبينهم النوايا واكتشافهم الحقائق من وراء استغلال الاحتلال لسذاجتهم، عندها تكون ردود الأفعال لديهم قويةً وعنيفة، ولكنها تأتي متأخرة، وقد ينساق بعضهم وراء هذه المؤامرة عليهم من بني جلدتهم، فيتركون التنصير الذي جاؤوا من أجله، وينخرطون فيما يمكن أن نسميه بتسييس التنصير، لا سيما إذا كانوا يحملون للمجتمع المسلم شحناء وبغضًا مترسبتين من خلفية صليبية لا تزال تطغى على كثير من العقول والأذهان[3].
ولعله في هذه الوقفة، والوقفة التي سبقتها، اتضحت الرؤية في العلاقة بين الاستشراق والاحتلال من جهة، وبين التنصير والاحتلال من جهة ثانية، وعندها يمكن لنا الولوج في الاحتلال، من حيث كونه محددًا من المحددات الرئيسية التي قامت عليها العلاقة بين المسلمين والغرب، وهو من المحددات التي يصعب علينا نحن المسلمين إغفالها، ولو في عقولنا الباطنة، عند الحديث عن الحوار بين المحورين الشرق والغرب.
[1] انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة،التنصير: المفهوم - الوسائل - المواجهة - مرجع سابق - ص 295.
[2] انظر: الفصل الأول المستشرقون والقرآن الكريم - ص 79 - 144 - من كتاب الباحث: نقد الفكر الاستشراقي: الإسلام - القرآن الكريم - والرسالة - الرياض: المؤلف، 1432هـ/ 2010م - ص 280.
[3] انظر: زينب عبدالعزيز،حرب صليبية بكل المقاييس - مرجع سابق - ص 184.
_____________________________________________________
الكاتب: أ. د. علي بن إبراهيم النملة
- التصنيف: