لكي يجدي العمل

منذ 2022-01-07

المؤمن حين يعمل ويجتهد كما أمر الله؛ فيختار العمل الحلال، ويُخلِص فيه ويُتقِنه - فإنَّ الله يُسعِده في الدنيا، ويَدَّخر له أجر عمله وكدِّه نورًا يرفعه يوم القيامة إلى درجات العامِلين، فتكون سعادته الدائمة في جنَّات النعيم...

أيُّها الإخوة في العقيدة، الإسلام دين عملٍ وكَدٍّ، ودين اجتهادٍ وجِدٍّ، فقد خلق الله الإنسان ليَتعَب؛ قال - تبارك وتعالى -: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، وسخَّر له الأرض ليَسعى؛ قال - تبارك وتعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]، وعرَّفه طريق الحق، وأنار له منهج الحلال ليتَّبِع؛ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وتَفرَّق بنو آدم أمام أمر الله إلى فريقين: فريق اهتَدَى أهلُه إلى الحق، فآمنوا {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، وفريق ضلَّ أهلُه، فكفروا {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29]، ومن رحمة الله وعدله أنه لا يحرم الكافر من فوائد كَدِّه وعمله؛ قال - جل جلاله -: {كُلاَّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]، إلاَّ أن الكافر يَنال جزاءَ عملِه في الدنيا، ولا يجد له يوم القيامة أجرًا؛ قال - عز وجل -: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20].

 

والمؤمن حين يعمل ويجتهد كما أمر الله؛ فيختار العمل الحلال، ويُخلِص فيه ويُتقِنه - فإنَّ الله يُسعِده في الدنيا، ويَدَّخر له أجر عمله وكدِّه نورًا يرفعه يوم القيامة إلى درجات العامِلين، فتكون سعادته الدائمة في جنَّات النعيم؛ قال - جلَّ وعلا -: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

 

أورد الإمام مسلم في "صحيحه" قول رسُول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنَّ الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً يُعطَى بها في الدنيا ويُجزَى بها في الآخرة، وأمَّا الكافر فيُطعَم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أَفْضَى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزَى بها»، لكن هل يكون من المؤمنين مَن يأتي يوم القيامة وقد عمل من الصالحات في الدنيا فلا يجد منها شيئًا؟ هل من الناس مَن يُصَلِّي فإذا عُرِضت صلاته على الله فتَّشت الملائكة له عنها فلم يجدوا له ركعة؟ وهل هناك مَن يصوم ويوم القيامة لا يجد له صومًا؟ وهل هناك مَن يُزكِّي ويتصدَّق ويُنفِق ذات اليمين وذات الشمال، ويوم القيامة يكون أفقر الناس؟ وهل هناك مَن يحجُّ الحجَّة بعد الحجَّة ويعتَمِر العمرة تِلْوَ العمرة، ويأتي يوم القيامة فلا يرى في كتابه حَجًّا ولا عمرة؟ هل يكون هذا في أمَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم؟

 

نعم يكون، ويكون بين يدي الله في عَرَصات القيامة - نسال الله ألاَّ يجعلنا منهم.

 

وهم على ثلاثة أصناف، أمَّا الصنف الأوَّل فهم أهل الرياء؛ الذين يستَرضُون الناس ويستَجدُون الدنيا وينسون ربهم، أورد الإمام مسلم في "صحيحه" قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنَّ أوَّل الناس يُقضَى يوم القيامة رجل استُشهِد فأُتِي به، فعَرَّفه نِعَمَه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استُشهِدت، قال: كذبت، ولكنَّك قاتلت لأن يُقال: جريء، فقد قِيل، ثم أمر به فسُحِبَ على وجهه حتى ألقى في النار، ورجل تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرَّفه نِعَمَه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلَّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنَّك تعلمت العلم ليُقال: عالم، وقرأت القرآن ليُقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقِي في النار، ورجل وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتِي به فعرَّفه نِعَمَه فعَرَفها، قال: فما عَمِلت فيها؟ قال: ما تركت من سبيلٍ تُحِبُّ أن يُنفَق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليُقال: هو جَوَاد، فقد قِيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه ثم أُلقِي في النار»، من أجل ذلك كان أمر الله للمؤمنين: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، فالإخلاص واجبٌ على المُؤمِن في حياته كلها، فإذا صلَّيتَ - أيها المؤمن - فاجعل صلاتك لله، لا تُدخِل عليها ما يُفسِدها.

 

عن أبى سعيد الخدري - والحديث من "صحيح الترغيب" - قال: خرج علينا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونحن نتَذاكَر المَسِيح الدجَّال فقال: «ألاَ أخبركم بما هو أَخْوَف عليكم عندي من المسيح الدجال»؟، قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: «الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يصلِّي فيُزَيِّن صلاته لِمَا يرى من نظر الرجل»، إن صلاَّها وحدَه عجَّل بها، وإن صلاَّها أمام الناس تَأَنَّى واعتَدَل، وما نوى المصلِّي أن يُشرِك بالله غير الله، ومع ذلك فهو شرك خفي، يُفسِد العبادة، ويَضُرُّ بالإيمان، فصلاتك - أيُّها المؤمن - مُناجاة بينك وبين الله، تذكَّر أنك أمام الله، وأنَّك تقرأ وتسمع كلام الله، وأن كلَّ آيةٍ فيها أمر هو أمر لك، وكل آية فيها نهي هو نهي لك، وافعل ذلك في عباداتك كلها، وفي معاملاتك كلها، أخلص جميع أمرك لله.

 

وأمَّا الصِّنف الثاني، فهم المُخالِفون؛ الذين يُخالِف قولهم عملهم، الذين يَأمُرون غيرهم بالمعروف ولا يعملون به، ويَنهَوْن عن المنكر ويأتونه، جاء في "صحيح الإمام البخاري" قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقَى في النار فتندَلِق أقتابُه [أي: تخرج أمعاؤه] في النار، فيَدُور كما يَدُور الحِمار برَحَاه، فيجتَمِع أهلُ النار عليه فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمُرُكم بالمعروف ولا آتِيه، وأنهاكم عن المنكر وآتِيه»، وقد خصَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - صنف الخطباء الذين يَنصحون الناس ويعلِّمون ويُرشِدون، ويأتيهم الناس ليستَمِعوا ويُنصِتوا، جاء في "صحيح الترغيب" قولُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أتيتُ ليلة أُسرِي بي على قومٍ تُقرَض شفاههم بمَقارِيض من نار، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: خُطَباء أمَّتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرَؤُون كتاب الله ولا يعملون به»، فمسؤولية الخطيب ومسؤولية الإمام ليست هيِّنة، وواجبه يَفرِض عليه أن يُكَلِّم الناس بفعله لا بقوله، وأن يُعَمِّم ما يقرأ من القرآن على كامل حياته، وأن يقتَدِي بالقرآن في كلِّ تصرفاته.

 

أمَّا الصنف الثالث فهم أهل الغفلة؛ الذين يسمعون حكم الله، ويغفلون عن تطبيقه، يسمعون الموعظة ويَتهاوَنون في العمل بها، فالحلال بيِّن والحرام واضح وجلي، فمَن لا يعلم أنَّ الله حرم الغيبة؟ كلُّ الناس يعلمون أنها حرام، فلماذا لا تحلو كثيرٌ من المجالس إلا بها؟! ومَن لا يدري أن عقوق الوالدين يُوجِب غضب الله، فلماذا تَرَى بعض الأبناء يُسِيئون إلى والِدِيهم بشتَّى أنواع الإساءة؟! وأين صلة الرحم؟! وأين الإحسان إلى الجار؟! وأين غضُّ البصر؟! وأين المال الحلال؟! وأين اللباس الحلال؟! ولماذا الغش؟! ولماذا التحايُل؟! ولماذا الظلم؟! ولماذا تضيَّع الأمانة؟! ويَشقَى الملهوف فلا يجد مَن يُقرِضه؟!

 

كلُّ ذلك سببه الغفلة عن شرع الله؛ {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، {نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، فإذا المسلم لا يحمل من الإسلام إلا اسمه، ولا يحمل من الشرع إلا رسمه، أين العمل بهذا الدين العظيم؟! أين الكدُّ والجدُّ ونحن نعلم أن المصير إلى الله، وأن الإنسان سيجد ما قدَّمت يداه؛ {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 39- 42]، وما دامت النهاية عند الله فلنخشَ الله ولنُخلِص عملنا لله، وعبادتنا لله، ومعاملاتنا لله، ولنجعل شرع الله هو الحكم في حياتنا كلها؛ ففي ذلك الخير كل الخير؛ يقول الله - تبارك وتعالى -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66- 68].

_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله المؤدب البدروشي

  • 3
  • 0
  • 866

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً