أمهات المصلحين
إنَّ على الأمهات والمربيات البعد كلَّ البعد عن تخويف الأطفال وغرس الرهبة من البشر والحياة في قلوبهم، بأنْ يجنبنهم القسوة في التعامل، والعقوبات المؤلمة للجسد، وأنْ يجنبنهم الإسكات أو الكف عن الحركة من خلال التخويف أو الضرب
- التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة - تربية الأبناء في الإسلام -
مكث بنو إسرائيل في مصر حقبة طويلة من الزمن، ربما تجاوزت أربعمائة سنة كما تُورِد ذلك كتبهم[1]، ويرجع مبتدأ وجودهم الحقيقي في مصر إلى زمن يوسف عليه السلام، إذ وفد إليه في مصر أبوه يعقوب عليه السلام وأهل بيته وذريته قادمين من بوادي الشام، فأسكنهم يوسف عليه السلام أرضاً اختصها لهم ليعبدوا الله تعالى فيها ويقيموا شعائر التوحيد بمنأى عن القبط الوثنيين الذين يمثلون السكان الأصليين في مصر، وهم الذين يحكمونها ويتسيدون فيها على من سواهم.
وبعد موت يوسف عليه السلام وموت الملك الذي مكَّن الله به ليوسف وعشيرته؛ بدأت رحلة الاستعباد والاستضعاف في بني إسرائيل؛ فلقد تسلط القبطيون على بني إسرائيل واحتقروهم وأهانوهم وهضموا حقهم جماعة وفرادى، حتى كان ذروة هذا الأمر في عهد فرعون الذي قص الله علينا من أخباره الشيء الكثير، قال تعالى: {وَإذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49]. وقال تعالى: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْـمُفْسِدِينَ} [القصص: ٤]. قال ابن إسحاق: «كان فرعون يعذب بني إسرائيل فيجعلهم خدماً وخَوَلاً، وصنَّفهم في أعماله، فصنفٌ يبنون، وصنفٌ يحرثون، وصنفٌ يزرعون له، فهم في أعماله، ومن لم يكن منهم في صنعة له من عمله فعليه الجزية»[2].
وقال ابن كثير: «وكانوا في ذلك الوقت خيارَ أهل زمانهم. هذا وقد سُلِّط عليهم هذا الملك الجبار العنيد؛ يستعملهم في أخس الأعمال، ويكدُّهم ليلاً ونهاراً في أشغاله وأشغال رعيته، ويقتل - مع هذا - أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إهانة لهم واحتقاراً، وخوفاً من أنْ يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوَّف هو وأهل مملكته من أنْ يوجد منهم غلام؛ يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه»[3].
وقد صنع فرعون - احترازاً من ظهور الغلام الذي يقيض مملكته - تنظيماً إدارياً لمراقبة مجتمع بني إسرائيل واتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، فجعل لكل عشرة من نساء بني إسرائيل رجلاً من الأقباط يرصدهن، فإذا حملتِ المرأة وولدت ذكراً قتله هذا الرجل القبطي، وإنْ كان المولود أنثى أبقاها للخدمة والسخرة وإبقاء العرق الإسرائيلي المستضعف[4].
وهكذا صار بنو إسرائيل يعيشون في مصر تحت وطأة الرقابة الاجتماعية الصارمة، التي تنظِّم نسلهم وَفْقَ رغبة الفرعون، كما صار معاشهم مرتبطاً بوظائفهم التي يعود نفعها أولاً على فرعون وقومه وجنوده.
وحين أذن الله بخروج الغلام الذي سيصبح نبياً مرسلاً، وزعيماً قوياً، يعيد الله به شموخ التوحيد ويهدم به رؤوس الوثنية، وينجي الله به بني إسرائيل من طغيان فرعون وقومه ليستعيدوا وجودهم وموقعهم الحقيقي في الحياة... حين ذلك قيض الله لهذا الغلام أُمَّين: أُمّاً تلده وترضعه وتعطف عليه، وأُمّاً تربيه وتسيِّده وتنزع عنه دثار العبودية والضعف الذي عمَّ بني إسرائيل حينها.
موُلد موسى (عليه السلام):
وُلد رغم الجهود الحثيثة والنظام الإداري المكتمل لأجل منع أي (موسى) يمكن أنْ يولد، ذلك أنَّ الله تعالى أقوى من فرعون، وأقدر من نظامه وأجهزته، ولك أنْ ترى قوة الله في جعل هذا الغلام الذي يخافه فرعون يتربى في قصره، ويلعب بين يديه، ويجلس في حجره... ذلكم هو القدَر النافذ. قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5 وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: ٥ - ٦].
تقنيات القهر والاستضعاف:
المجتمع المستضعف لا يُخرِج الأقوياء، والأمة المستعبَدة لا تلد القادة، والبيئات المقهورة أنَّى لها أنْ تصنع لنفسها نصراً أو ترفع بدينها رأساً، وعلى هذا النحو فُعل ببني إسرائيل في مصر، فقد نهشت كيانَهم آفةُ الاستعباد حتى لم يعد يرجى منهم مقاومة ولا قيام، ولم يعد يرجى منهم شموخ ولا إباء، والاستعباد يصيب كيان الإنسان في أخلاقه وقيمه ومروءته فيسحقها، ويلغي في الإنسان إنسانيته واعتزازه ووجوده، وقد عاب موسى عليه السلام على فرعون هذا الأمر كما في قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسْرَائِيلَ} [الشعراء: ٢٢]. أيْ جعلتهم عبيداً وخدماً، تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك، أَفَيَفِي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم[5]؟
ولذلك وجبت التربية على معاني الإباء والشموخ والأنفة ومقاومة الاستعباد وتغذية روح الاستعلاء الإيماني، لينشأ الطفل من صغره على رفض أي عبودية إلا عبوديته لله، ولينشأ على تمسكه بحريته لأنَّ فيها إنسانيته وكيانه وأخلاقه، وبها يكتمل توحيده لله. وقد حذَّر الله تعالى المؤمنين من الوقوع في فخ الانهزام النفسي عقب هزيمتهم في أرض المعركة في أحد، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
وابن خلدون يقرر في مقدمته ذلك القانون الرباني بعد استقراء تاريخي، فيقول: «مَنْ كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم؛ سطا به القهرُ، وضيَّقَ عن النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمِل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلَّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادةً وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدُّن وهي الحميَّة والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أُمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف»[6].
ووَفْقاً لتقرير ابن خلدون سأذكر هنا عدداً من التقنيات المؤدية إلى بناء الشخصية الضعيفة ومسلوبة الإرادة:
تقنية الاقتران الشرطي بين العقاب القاسي والسلوك غير المرغوب الصادر عن الأولاد: وذلك يكون بتكرار العقوبة القاسية مع كل سلوك غير مرغوب ولو كان دون مستوى العقوبة، حتى يتكون لدى الطفل رادع ذاتي يضبط إيقاع سلوكه وَفْق ما يرغب به الآباء والأمهات؛ لِـما يكلِّفه هذا السلوك من نتائج وخيمة عليه.
تقنية الرقابة الصارمة: فيتجسس الآباء والأمهات على كل كبير وصغير وجليل وحقير، وربما أوعزوا إلى أهل البيت بالتجسس بعضهم على بعض، فينتهج البيت - الذي هو مصدر العطف والحنان - طريق الجاسوسية الحتمية، فعندئذٍِ تبدأ خلايا النفاق والاحتيال والكذب في النمو والانشطار؛ إذ لا يستطيع الأولاد أنْ يأمنوا أحداً في البيت! فإذا فُقد الأمان طفت الأخلاق الرديئة على السطح.
تقنية الإطفاء: وهي تشتيت عقل الولد ومزاجه في فهم حقيقة المحذورات والممنوعات المسببة للعقوبات القاسية فتتبلد دوافعه وتكسل نوازعه، فتجعله ميالاً إلى الكسل والدعة والخمول خوفاً من الإقدام على شيء ربما يغضب والديه فيعاقبانه، وخوفاً من النقد المترصد له من سلوك ربما لا يعجب والديه؛ فتموت عندئذٍ طاقاته. وهذا أحد الأسباب الباعثة على إقبال الأولاد على اللهو والتراخي والبعد كل البعد عن التفكير فيما ينفعهم أو يقدِّم لهم ولأهليهم وأمتهم خيراً؛ فيصبحوا عالة على غيرهم عند كبرهم، وغير قادرين على اقتحام المخاطر وتحمُّل المسؤوليات.
وهذه التقنيات السيئة تلغي قيمة الفضائل والمروءات، لأنها تنقل المعيار الذي تقاس به هذه الفضائل والمروءات من قيمتها الذاتية التي أرادها الله لها إلى المظاهر التي يرغبها الوالدان أو لا يرغبانها، فتُفرغ شخصيات الأولاد من الدوافع النبيلة الحاثة على تلك الفضائل والمروءات.
تربية العظماء:
ولقد نشأ الأطفال في بني إسرائيل على معاني العبودية التي وصفها ابن خلدون في مقدمته حتى لم يعودوا صالحين لإقامة الدين وبعث الرسالة وقيادة المجتمع، فضلاً عن تحرير بيت المقدس، فكانت الحاجة إلى رجل يتربى على غير تلك المعاني الاستعبادية، ليكون قادراً على حمل الرسالة وإقامة الدين وقيادة المجتمع المؤمن وإعادة صياغته وتربيته من جديد، فكان لا بد من مربية لا تنتمي إلى مجتمع الضعف والعبودية، ولا تعاشر الخوافين والمقهورين لتربي واحداً منهم لأنهم أهل الدين والرسالة حينها، وكانت المعادلة صعبة في الحسابات البشرية، لأنَّ نظام فرعون يفرض رقابة وإجراءات قاسية في تنشئة الأولاد، فإما أنْ يموتوا أو يكبروا تحت السخرة والخدمة والاستعباد، فقضى الله تعالى أنْ تكون مربية الطفل من بني إسرائيل امرأة تسكن في بيت فرعون، بل هي امرأة فرعون ذاته. قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْـمُرْسَلِينَ 7 فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ 8 وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: ٧ - ٩]. قال السدي: «اتخذه فرعون ولداً، ودُعي على أنه ابن فرعون»[7].
وكانت آسية بنت مزاحم (امرأة فرعون) هي التي استبشرت بالتقاط موسى الوليد، وأحبته حبّاً شديداً، واستوهبته من فرعون أنْ يذبحه، وطلبت منه تبنِّيه وتربيته، فكانت تكسوه أحسن الملابس وتطعمه أحسن الطعام وتحيطه بالحماية من كل ما يمكن أنْ يسوءه، وكانت تلاعبه وسط قصر الطاغية وتدفعه إليه أحياناً فيعبث هذا الوليد بذلك الملك المعظم، وربما نتف لحيته أو قبضها بيده أو قرع رأسه بالقضيب، فيشتد غضب فرعون عليه، فتتفداه مربيته آسية رضي الله عنها وأرضاها.
قال البغوي: «وذلك أنَّ موسى كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره، فلطم فرعون لطمة، وأخذ بلحيته، فقال فرعون لآسية امرأته: (إنَّ هذا عدوي). وأراد أنْ يقتله، فقالت آسية: (إنه صبي لا يعقل ولا يميز). وفي رواية: أنَّ أم موسى لَـمَّا فطمته ردَّته، فنشأ موسى في حجر فرعون وامرأته آسية يربيانه، واتخذاه ولداً، فبينما هو يلعب يوماً بين يدي فرعون؛ وبيده قضيب يلعب به، إذْ رفع القضيب فضرب به رأس فرعون! فغضب فرعون وتطيَّر بضربه، حتى همَّ بقتله، فقالت آسية: (أيها الملك! إنه صغير لا يعقل فجربه إنْ شئت). وجاءت بِطشتين: في أحدهما الجمر، وفي الآخر الجواهر، فوضعتهما بين يدي موسى، فأراد أنْ يأخذ الجواهر، فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار، فأخذ جمرة فوضعها في فمه، فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة»[8].
وتنشَّأ موسى على معالم الرجولة والقوة النفسية والجسدية، وتربى على الإقدام والشجاعة وطلب الأهوال، وهذا ما لم تألفه مجتمعات بني إسرائيل منذ قرون، وعزَّ موسى في بني إسرائيل قبل أنْ يوحى إليه، قال تعالى: {وَلَـمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْـمُحْسِنِينَ} [القصص: 14]. والأشد: شدة البدن واستحكام أسره وقوَّته. والاستواء: تكامل عقله وحزمه. والحكم: الحكمة. والعلم: المعرفة بشرع إبراهيم عليه السلام[9]. وما كان له أنْ يكون كذلك لولا تربيته تربية الأسياد والأحرار والقادة؛ فلله آسية بنت مزاحم! ما أعظم فضلها على أهل الإيمان إذ ذاك! ويلاحظ قارئ الآية الكريمة أنَّ الحكمة والعلم والديانة اقترنت باكتمال البناء النفسي والجسدي والعقلي، ولذلك سيفوت على بني إسرائيل - وهم أهل الدين في زمانهم - بعضٌ من الحكمة والعلم بقدر ما يفوتهم من البناء النفسي والعقلي والجسدي.
وعزَّ قوم موسى به، فاختلفت المعادلة الاجتماعية لكلٍّ من الأقباط وبني إسرائيل بعد أنْ كبر موسى وصار مقدَّماً معروفاً، قال ابن عباس: «لما بلغ موسى أشدَّه لم يكن أحد من آل فرعون يخلُص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم، حتى امتنعوا كل الامتناع، وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى، لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم»[10].
وهذه نتيجة التنشئة الصالحة والتربية الناجحة، وهذا هو الدور الفاضل الذي تستطيعه كثير من الأمهات والمربيات، فكما اقتبس موسى من أمه بالولادة الحنان والرحمة والدين؛ فكذلك اقتبس من أمه بالتبنِّي والتربية آسية العزم والحزم والقوة والعزة والإباء، وعرف القيادة والزعامة، وتخلَّق بالشرف والنبل.
وإنَّ في هذا لدرساً بليغاً للأمهات والمربيات، بأنْ يُلقِّنَّ أولادهنَّ في طفولتهـم أناشيد البطولة وأهازيج القوة، وأنْ يرضعْنَهم معاني الشجاعة والإباء ورفض الضيم، وأنْ يرويْن لهم قصص الأبطال والفاتحين، من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، وأنْ ينشئنهم على الاقتداء بخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص، وأنْ يقصصن عليهم غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وبطولات أصحابه الكبار والصغار.
وإنَّ على الأمهات والمربيات البعد كلَّ البعد عن تخويف الأطفال وغرس الرهبة من البشر والحياة في قلوبهم، بأنْ يجنبنهم القسوة في التعامل، والعقوبات المؤلمة للجسد، وأنْ يجنبنهم الإسكات أو الكف عن الحركة من خلال التخويف أو الضرب، وأنْ يكنَّ على بيِّنة من الأثر السيء لتقنيات القهر والاستضعاف التي سبقت الإشارة إليها.
كما أنَّ على الأمهات والمربيات أنْ يكنَّ سدّاً منيعـاً أمام تأنيث الولدان وتمييع أخلاقهم، من خلال لغتهم وملابسهم وتقليد الأعاجم، بل عليهنَّ تعليمهم معاني الرجولة في الكلام والمشي والملبس والتعامل.
وقبل ذلك عليهن أنْ يعلمنهم توحيد الله والإيمان به والتعلق به وأنَّ دينه وشريعته معيار الصواب والخطأ، ومعيار الأمن والخوف، ومعيار الحب والكراهية.
والحضارة الغربية التي تغلغلت اليوم في معاش الناس وأساليب حياتهم استطاعت أنْ تصنع لهم أنماطاً حياتية يسيرون وفقها، وأصبح كثير من الناس يعيش جزءاً من حياته بوصفه آلة صماء مسيَّرة، بلا اختيار حقيقي ولا إرادة حقيقية، وإنما مكائن تمشي على الأرض، بتأثير النظم الوظيفية والتسويقية والإدارية، واستطاعت أنْ تنزع من الناس بشريتهم الآدمية أو جزءاً منها، وحولت كثيرين منهم إلى كيانات رقيقة (من الرِّقِّ وهو العبودية) ومستعبَدة لرأس المال ومالكه والأنظمة التي تعمل له، وإنَّ الأمة المسلمة اليوم لهي أحوج ما تكون إلى أمهات يلدْن الأشداء ويُرضعْن الأقوياء ويصنعْن الرجال ويُنتجْن الأبطال، إذْ لم تعد الأمة بحاجة إلى مزيد من البطالين والكسالى والمهزومين والمأسورين.
وكما أنَّ الله كتب أنْ تكون بداية بعث بني إسرائيل في مصر وفتحهم لبيت المقدس على يد مؤمنة حرة كريمة؛ فهو كذلك القادر على أنْ يكون البعث الجديد لهذه الأمة وفتحها القادم على يد مؤمنات حُرات كريمات، يملأن بيوت المسلمين بأولاد يحملون قوة موسى وعزيمة موسى وإيمان موسى. إضافة إلى ما يحملنه من الغريزة الفطرية والأمومة الحانية، التي تُشبِع حاجات الطفل النفسية وتعين على اكتمال نموِّه من خلال الحب والحنان والعطف والرحمة، وقد هيّأ الله تعالى لموسى هذه المشاعر وتلك الأمومة بردِّه إلى أمه.
وإنَّ اللاتي أنجبن خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص هنَّ اللاتي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهن وعن أمثالهن: «خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش؛ أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده»[11].
[1] وأشار القرطبي إلى هذه المدة في تفسيره: 13/94. والنصارى - وَفْقاً لكتبهم - يخالفون اليهود فيجعلون المدة مائتي سنة ونيف. والله أعلم بالصواب؛ والمقصود أنَّ بني إسرائيل مكثوا أجيالاً يتناسلون تحت سياط العبودية والاستضعاف.
[2] تفسير الطبري: 2/41.
[3] تفسير القرآن العظيم: 6/5.
[4] انظر تفسير الطبري: 2/43.
[5] تفسير ابن كثير: 5/620.
[6] المقدمة، ص463.
[7] تفسير الطبري: 19/524.
[8] معالم التنزيل: 3/119.
[9] المحرر الوجيز: 7/484.
[10] معالم التنزيل: 3/430.
[11] أخرجه مسلم، حـ6460.
_______________________________________________
الكاتب: . فايز بن سعيد الزهراني