(3) ضوابط الانفتاح الفكرِي
عبد الرحيم بن صمايل السلمي
سبق أن بَيَّنْتُ أن مصطلح (الانفتاح) فيه غُمُوض وضبابية، ويتضمن معانٍ سلبية في فهم طبيعة الدين ومقوماته، ولكن سأستعمل هذا المصطلح بمعناه العام الذي يدل على معنى الاطِّلاع..
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
سبق أن بَيَّنْتُ أن مصطلح (الانفتاح) فيه غُمُوض وضبابية، ويتضمن معانٍ سلبية في فهم طبيعة الدين ومقوماته، ولكن سأستعمل هذا المصطلح بمعناه العام الذي يدل على معنى الاطِّلاع، والاستفادة مما عند الآخرين، وترك الانكفاء على الذات والانغلاق عليها، وهذا المعنى العام يُمكن تطبيقه بشكل صحيح إذا روعي فيه الضوابط الآتية، ويمكن أن يطبق بشكل خاطئ عند عدم مراعاة الضوابط.
ومن حيث المبدأ، فإن الانفتاح على العالم فكريًّا وثقافيًّا له آثاره المفيدة في العلوم الدنيوية، إذا كان ممن التزم بدينه وعقيدته، ولا يخاف عليه الضلال.
أما المطالبة بشكل عام بالانفتاح على الآخر، دون تحديد لنوعية القضايا التي يتم فيها الانفتاح، ونوعية المطالب به، فليس كل أحد يقدر على أخذ المفيد وترْك الزغل؛ فهذا لا شك في خطئه وبُعده عن الصواب، ومنافاته للمحافظة على الخصوصية التي تميز بها المسلمون عن غيرهم، ولذا فلا بُدَّ مِنْ وُجُود ضوابط أثناء الانفتاح على الثقافات والمعارف بشكل عام، ولعلنا نوجزها في ما يلي:
أولاً: أن يكونَ الانفتاحُ بعد العلْم الشَّرْعي:
فإن العلم بالشريعة الإسلامية ضرورة لمعرفة دين الإسلام وتطبيقها والعمل بها، وهو أيضًا ضرورة للانفتاح الفكري على الثقافات والآداب غير الإسلامية، فالانفتاح المفيد يكون بعد تصور عقيدة الإسلام وأحكامه تصورًا صحيحًا والثقة بها، ورد كل ما يخالفها من عقيدة أو عمل، أما الانفتاح قبل العلم فإنه مزلق خطير يجعل صاحبه يتخبط في الأفكار والمناهج والفلسفات، ويقع فيما يخالف ويناقض أصول دينه، ومن أقل آثاره الشك في صحة دينه، والشعور بالنقص نحوه.
وهذا هو أحد أسباب نَهْي النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرَ بن الخطاب، والإنكار عليه، عندما رأى في يده صحائف من التوراة؛ فقال له: «أَمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني» [14] - ومعنى مُتَهَوِّكون أي: مُتَحَيِّرون - فيكون هذا النهي عن قراءة كُتُب الأديان وعموم المعارف، دون علم بالشريعة، أو قراءتها للاهتداء بها، ويدل على ذلك رواية البيهقي وفيها: ((لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا))[15]، ويوضح ذلك قول عمر - رضي الله عنه - كما في رواية البيهقي: ((إنا نسمع أحاديث من اليهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟)).
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "فلم كان هذا الاشتداد في الإنكار؟ ما ذلك إلاّ لأنه كان في مرحلة التأسيس والتكوين للعقيدة والملَّة، ولا ينبغي أن يشوش عليها في هذه المرحلة الخطيرة حتى ترسخ أسسها، ويقوم بنيانها، ويخرج زرعها شطأه، وليستغلظ ويستوي على سوقه، ثم بعد ذلك تنفتح على ما شاءت من الديانات والثقافات والحضارات"[16].
ولا ريب أنّ ما ذكره الدكتور أمر معتبر، لكن ينبغي أن يضافَ إلى ذلك العلم الكافي المانع من الانسياق وراء الشبهات، كما أن مما يضاف إلى أسباب نَهْيه عن الاطلاع على التوراة قصد الاهتداء والانتفاع بما فيها، فالإسلام كان مغنيًّا في باب الهداية إلى الصراط المستقيم، أما الاطلاع على التوراة للرد على الباطل ونحو ذلك مما لا يقصد به الاهتداء بها، فهذا أمرٌ مباحٌ في الأصل، وقد يكون مستحبًّا أو واجبًا بحسب الحاجة لذلك، ودفع الشبهة.
ثانيًا: أن يكونَ الانفتاح مع الالتزام بالإسلام:
الإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة الإنسانية: الروحية والمادية، الفردية والجماعية، العلمية والعملية، وهو دين ثابت في قواعده وعقائده، وقد صور الأستاذ سيد قطب كيفية ثبات الإسلام مع تطوُّر الحياة وأنماطها المختلفة؛ فقال: "إنه تصور رباني، جاء من عند الله بكل خصائصه، وبكلِّ مقوماته، وتلقَّاه الإنسان كاملاً بخصائصه هذه ومقوماته؛ لا ليزيد عليه من عنده شيئًا، ولا لينقص كذلك منه شيئًا، ولكن ليتكيف هو به وليطبق مقتضياته في حياته.
وهو - مِن ثَمَّ - تصور غير متطور في ذاته، إنما تتطور البشرية في إطاره وترتقي في إدراكه، وفي الاستجابة له، وتظل تتطور وتترقى، وتنمو وتتقدم، وهذا الإطار يسعها دائمًا، وهذا التصوُّر يقودها دائمًا، لأنه المصدر الذي أنشأ هذا التصور هو نفسه المصدر الذي خلق الإنسان، هو الخالق المدبر، الذي يعلم طبيعة هذا الإنسان، وحاجات حياته المتطورة على مدى الزمان، وهو الذي جعل في هذا التصوُّر من الخصائص ما يلبي هذه الحاجات المتطورة في داخل هذا الإطار"[17].
فالانفتاح والتطوُّر والتجديد والعقل والإبداع ونحو ذلك، لا يمكن أن تصادم هذا الدين إذا كانتْ صحيحة وحقًّا، أما إذا كانتْ باطلاً فمن الطبيعي أن يعارضَ الباطل الحق، والخطأ الصواب، وكل ما سبقت الإشارة إليه يعود إلى (العقل)، وقد قرَّر العلماءُ استحالة وُرُود العقل الصريح مُناقضًا للنقْل الصحيح، فإما أن تكونَ دلالة العقل غير صحيحة فهي غير مقبولة أصلاً، وإما أن يكون النصُّ غير صحيح أو غير صريح في دلالته، وحينئذٍ فالدِّين موافق للعقل؛ لأنَّ الجميع من عند الله تعالى[18].
لقد فطن شيخُ الإسلام ابن تيميَّة لأساس المشكلة عند دُعاة الانفتاح والتطوير والتجديد، وهو (تعظيم العقل)، وسوء الظن بالنقل، ولهذا ردوه أو أوَّلُوه وحرفوه، فبَيَّن التوافُق والانسجام للعقل مع النَّقل، وبيَّن عظمة النقل واتِّساقه مع حاجات الإنسان النفسية والعقلية والاجتماعية، وهذا ما لَم يتصوره هؤلاء، ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث فيه وإدراكه.
وما زالت المشكلة قائمةً إلى اليوم، وإن اختلفت العبارات فكان الأقدمون يسمونها "تعارض العقل والنقل"، أما المعاصرون فقد يغيرون كلمة (العقل والنقل) إلى: (العلم والدين)، أو (الدين والمدنية)، أو (الدين والتطوُّر)، أو غير ذلك.
والحقيقةُ أن في كتاب "درء تعارُض العقل والنقل" علاج لقضايا عصره وعصرنا، وكما أنه رد على الفلاسفة والمتكلمين، فهو يصلح أن يكون ردًّا على دُعاة التنوير والعصرانيين، نعم هناك اختلاف في الأمثلة والنماذج المضروبة، لكن اللباب والقضيَّة الجوهريَّة واحدة، والمهم أنه يمكن للإنسان الانفتاح والاطِّلاع والثقافة والإبداع في إطار الالتزام بالشريعة الإسلامية عقيدة وعملاً ومنهجًا، وافتراض التعارض هو جهل بالشريعة نفسها أو جهل بحقيقة التطوُّر والانفتاح والإبْداع.
ثالثًا: الانفتاح دون الانبهار بثقافة الغير:
الانبهار بثقافة غير المسلمين وآدابهم وأفكارهم ومناهجهم دليلٌ على عدم العلْم بالإسلام، والاعتزاز به، والثقة المطلقة بصدقه، ودلالته على الفلاح والهداية في الدنيا والآخرة، وهو من جهة أخرى يدل على ضعف شخصية المنبهر، وهزيمة نفسه، وقصور فكره، ومن كانتْ هذه حاله فلن يتجاوز التقليد المجرد، أما التجديد والتطوير والإبداع والابتكار فلا يُمكن أن يحصلَها المنبهر حتى يفوقَ من سكر انبهاره بالغير، ويقوم بنقده نقدًا واعيًا ليأخذ ما يفيده، ويرد ما عداه.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "ومن الانفتاح المحذور: الانفتاح المبهور بثقافة الآخر، حين ينظر إليه مضخمًا من شأنه، معظمًا من فكره، شاعرًا بالدونية تجاهه لسبب أو لآخر، فكل ما قاله هذا الآخر، فهو صدق، وكل ما رآه فهو صواب، وكل ما فعله فهو جميل..."[19].
ويُمكن للمسلم أن يطلع على ثقافات الأمم الأخرى بعد العلم، ومع الالتزام ودون انبهار ليعرف نعمة الله تعالى عليه، أو للاطلاع على الصناعات والمخترعات المفيدة في قوة المسلمين أو غيرها من المصالح المشروعة، وأي أمَّة جادَّة تريد تطوير نفسها لا يمكن أن تسمح بالانبهار بالآخر بين أبنائها، ولما ذهب جيل من اليابانيين إلى الغرب رجع وهو يلبس الجينز، ويُقَلِّد الغرب في كل شيء ذبحهم حاكم اليابان، وأرسل جيلاً آخر لَم يتأثرْ بشيءٍ من العادات أو الأفكار، بل تعلم التقنية والتكنولوجيا، وطورتها فأصبحت من الدول الصناعية المنافسة.
______________________________________________________
[16] ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق، ص/72، ويشكل على هذا التعليل أن الواقعة كانت بالمدينة بعد مرحلة التأسيس.
[17] "خصائص التصور الإسلامي"، ص/4.
[18] انظر: "درء تعارض العقل والنقل"، 1/72 وما بعدها.
[19] "ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق"، ص /76.