(2) منبتاً ومعنى ونشأة
عبد الرحمن بن زيد الزنيدي
الألفاظ التي تطلق على التيارات الوافدة، مثل: عصرانية، علمانية، تنويرية، وحداثة.، هذه الألفاظ الانجليزية تعني وراء دلالتها اللغوية المجردة مفاهيم فكرية تكونت في ضوء ظروف ثقافية أوربية خاصة.
- التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة - قضايا إسلامية معاصرة -
الألفاظ التي تطلق على التيارات الوافدة، مثل:
عصرانية، علمانية، تنويرية، وحداثة.
ومثلها – أيضاً – ما تولد من رحِمِها من اتجاهات:
يسارية، ووضعية، ووجودية، وذرائعية، وغيرها من فلسفات – هذه الألفاظ –، وضعت تعريباً لألفاظ غربية تحمل معاني قائمة في الفكر الأوربي، وقد تختلف الألفاظ أو تتفق بين اللغات الأوربية، وقد تعرَّب اللفظة الغربية ببدائل من الألفاظ، لا بلفظ واحد.
العصرانية، ومثلها: الحداثة تعريب للفظة mode صلى الله عليه وسلم nism أو secula صلى الله عليه وسلم ism
والعلمانية، تعريب للفظة secula صلى الله عليه وسلم ism – السابقة.
والتنوير، تعريب للفظة enltghtement أو tllumtnation
هذه الألفاظ الانجليزية تعني وراء دلالتها اللغوية المجردة مفاهيم فكرية تكونت في ضوء ظروف ثقافية أوربية خاصة.
ومن هنا: فلابد لمعرفة حقيقة التيار الوافد من الرجوع إلى الأساس الذي ينزع إليه في دائرة الثقافة الغربية.
لذا فمن أجل معرفة العصرانية سندع هذه الألفاظ، ونتجه إلى منبتها – أوروبا – لنُطِلَّ عليها وهي تتلوَّى على جنبيها تحت تقلبات القرون المتطاولة حتى برزت منها تلك التيارات بروز الأورام في الجسد المختل، لتنتقل كالعدوى إلينا بعد ذلك.
أوروبا الوثنية – قديماً:
كانت أوروبا وثنية عمادها الأساطير التي تهيمن على تصورات العامة وأفكار الفلاسفة حول الوجود والألوهية والكون والإنسان.
وقد إمتازت حضارة اليونان بشدة الاعتداد بالحياة الدنيا، والتهالك على منافعها، ولذائذها، والاستهتار بالدين، وقلة التقدير لما وراء المحسوس، وانطلاق الحرية الشخصية دون قيد، والولع الزائد بالفنون تمثيلاً ونحتاً وموسيقى وغناء.
ثم حَكَمَ الرومان اليونان، ولم يكن لدى الرومان فكر وفلسفة، وإن امتازوا بالقوة، وصفات الجندية، لذلك غلبت عليهم المدنية اليونانية، فاستخفوا بالدين، وتهالكوا على اللذات، وقدَّسوا القوة، والاستغلال، وكانوا رغم وجود المعابد وتعبدهم فيها – أحياناً – بالرقص والغناء والألعاب – التي كانت طريقة اليونان في عبادتهم أيضاً – لا بالتذلل والخشوع والتضرع – كانوا رغم ذلك – يرفضون تدخل الآلهة وممثليها من رجال الدين في شؤون حياتهم ونظامها. (وكان – كما يقول سيسرو – الممثلون يُنشِدون في دور التمثيل أبياتاً معناها أن الآلهة لا دخل لها في أمور الدنيا، فيصغي إليها الناس ويسمعونها بكل رغبة)[1].
وهكذا صارت تقوم حياتهم المعاشية بعيداً عن دينهم، تابعة للأمزجة الخاصة، ولقوانين الدولة الرومانية ونظمها.
النصرانية في أوروبا:
دخلت النصرانية إلى أوروبا من خلال بعض دعاتها، ومالت إليها قلوب بعض الناس – خاصة العامة – وإن كان آخرون قد استنكفوا أن يقبلوا ما فيها من تصورات تكدَّر صفو ماديتهم المفرطة، فقد ذُكِر أن جماعة من الفيثاغوريين دعوا أحد دعاة النصرانية إلى مجمعهم ليحدثهم عن هذا الدين، فلمّا حدثهم عن اليوم الآخر، وما فيه من بعث وحشر.. سخروا من حديثه ودينه[2].
وحينما تولى الملك قسطنطين الذي اعتنق النصرانية في مستهل القرن الرابع الميلادي نَصَرَ هذه الديانة، وجعل كلمتها عالية، وسخَّر حكمه لنشر النصرانية، ولكن أي نصرانية هذه؟.
إن النصرانية التي دخلت أوروبا على يد (بولس – رسول الأمم) ليست هي النصرانية التي دعا إليها المسيح – عليه الصلاة والسلام – فقد أفسد فيها هذا اليهودي الذي كان يحاربها، ثم انقلب داعية إليها، وانحرف بها عن مسارها التوحيدي الخالص[3].
وأمر آخر، وهو: أن عداء اليهود للمسيح وأتباعه وتعاليمه والنفرة التي حصلت بين هؤلاء الأتباع واليهود جعلت النصرانية تتجرد من التشريعات العملية التي أوصى المسيح – عليه الصلاة والسلام – بتلقيها من توراة موسى – عليه الصلاة والسلام.
بهذه الصورة دخلت النصرانية بلاد أوروبا، ولهذا اكتفى رجال النصرانية حينما رفعهم قسطنطين، وتبني ديانتهم بإنشاء الكنائس، وتتويج الملوك، ودعم شرعية هؤلاء الملوك القائمة على التشريعات الرومانية السابقة.
بل إن الأوضاع في تلك البلاد أثَّرتْ كثيراً على النصرانية، حيث انحرفت نحو وثنية الرومان، وشحنت كتبها بالأساطير اليونانية، ولعل أكبر ماسخ لهذه الديانة هو الأمبراطور قسطنطين نفسه رافع لواء النصرانية[4].
وعلى مر العصور صارت تزداد هيمنة رجال الدين النصراني على الحياة في أوروبا رافضين أي مشارك لهم في هذا الشأن، خاصة في مجال العلوم والطب ونحوه فساد الجهل، والخرافة، والانحطاط.
ومن أكبر جرائم رجال الدين – هؤلاء – أنهم لكي يسدوا الباب على أي متطلع من خارج قنواتهم حشدوا في كتبهم المقدسة كثيراً من المعلومات البشرية والمسلمات المعرفية في عصورهم وما قبلها عن الطبيعة والفلك والجغرافيا والتاريخ والأحياء، وغيرها، وصبغوها بصبغة الدين، باعتبارها تفسيرات للوحي المعصوم الذي لا يسع النصرانيَّ الخروجُ عليه أو القولُ بخلافه، لأن هذا يعني الكفر، والزندقة.
ولتأكيد هذا المنحى الذي يُفْرد الكنيسة بحق التعليم وحدها اعتمد رجال الكنيسة نظرية الإشراق الأفلوطينية في المعرفة التي خلاصتها أن المعرفة الصحيحة إلهام إلهي يهبط على شخص مهيإ لذلك، نتيجة تجرده من الجوانب المادية، وهذا التهيؤ لم يكن لغير رجال الكنيسة، وعليه فمنهم وحدهم تُستَمد المعرفة الصحيحة.. أمّا من سواهم فحسب تجردهم من المادة أن يجعل نفوسهم قابلة لتلقي تلك المعرفة، ومن ثم صدرت مراسم بإغلاق المدارس خارج الكنيسة، وحصر التدريس في نطاقها.
وهذه الفترة هي التي يسميها الغرب بعصور الظلام من القرن الرابع – تقريباً – حتى القرن العاشر الميلادي.
هذا فضلاً عن أن هذا التجرد المطلوب من علائق الدنيا هو سبيل الفوز في الآخرة.
وكان من نتائج ذلك أن أصبح الدين والتطلع إلى سعادة الآخرة هو المسيطر على مشاعر الناس، مع الإستهانة بالدنيا بصفتها شراً عائقاً عن الفلاح الأخروي.
وتحول الإيمان بالله والشعور بعظمته إلى سلبية إنسانية، وعدم تغيير للواقع، لأن ذلك يعني عدم التسليم بالقضاء والقدر[5].
أوروبا النهضة:
في أواخر ما يسمى بعصور الظلام في أوروبا، احتك الغرب بالمسلمين في عصور الزخم الثقافي لديهم من خلال الحروب الصليبية والدخول إلى المسلمين في الأندلس، ورأوا سموّاً في أخلاق المسلمين، وقوة في عقيدتهم، وسعةً في أفقهم العلمي، ورقياً في مدنيتهم، فأورثهم ذلك غَيْرةً من هؤلاء الأعداء وحسداً في أنفسهم لهم، واهتم بعضهم بنقل شيء ممّا عند المسلمين ممّا يتصورون أن به إرتقاء بأحوالهم الفكرية، والمدنية.
وكان تركيزهم على كتب الفلسفة من جانب، وكتب العلوم الرياضية والتطبيقية من جانب آخر[6].
ولعل السبب في ذلك: أن الفلسفة تتناسب مع طبيعة فكرهم التأملي، وأن العلوم الرياضية، والتطبيقية من السهل تجريدها من الدين الذي نشأت في ظله وهو الإسلام، وهو: الدين الذي ينفر منه الغربي بحكم الصورة المشوهة له عنده.
وكان من أثر هذا الاحتكاك أن بدأت دعوات خافتة، ثم جهرية – متفرقة، ثم مجتمعة – إلى حركة فكرية يفتح فيها الباب لذوي الطموح العلمي، كي يتنافسوا في مجالات المعرفة ليرسموا للغرب طرق حياة أفضل.
وهذا ما يعني أن ينطلق الفكر الغربي من إطار الكنيسة، أي: أن يتحرر منها.
وكان مما تنادي به هذه الدعوات: أن هناك حقائق يمكن أن يصل إليها الإنسان بعقله، كما أن هناك حقائق مصدرها الدين.
ولكن رجال الكنيسة رفضوا هذه الدعوات، وحرمت كتب الفكر الخارجية عن دائرة الكنيسة، ومنع تدريسها، وحورب مؤلفوها، خاصة منهم الذين أعلنوا بعض النظريات الفلكية، أو الجغرافية المخالفة لما قررته الكنيسة في كتبها ممّا استقته في الفلكيين والجغرافيين القدماء.
وكان هذا الرفض للعلم، والحرب لرجاله من قبل رجال الكنيسة، مما أثار ثائرة رجال الفكر، فاشتدوا في وجهتهم مراغمين الكنيسة ورجالها، ثم تراجعت الكنيسة بعد اشتداد الاتجاه المقابل، حتى اعترف بعض رجال الكنيسة، مثل (روجربيكون 1292م)[7] بأن سلطان الكنيسة يقتصر على العلوم الدينية المتعلقة بالآخرة.. أمّا العلوم الدنيوية المتعلقة بمصالح الإنسان في هذه الحياة فمناطها الفكر البشري.
وهكذا توزع حياة الإنسان مصدران، هما: الدين، والفكر البشري، وإذا كان الدين يتمثل في تعاليم ثابتة، فإن الفكر البشري متطور متغير.
الإنسان وعصرانيته:
هذا التغير المتجدد في فكر الإنسان وحركته جارٍ في إطار الزمن، ومن هنا كان لكل فكرٍ بشري في كل عصر مستوى معين، وخصائص مميزة عن سابقه، فإذا نادى الموافقون تجاه أتباع الدين الداعين إلى اعتماد الوحي الإلهي إلى اتباع الفكر – كما يسمى في عصرنا – أو العقل – كما في العصر العباسي – فإنما ينادون إلى اتباع فكر معينَّ هو الذي يسود عصرهم[8].
ولهذا كانوا يستغنون – أحياناً – عن ذكر الفكر، داعين إلى مجاراة العصر والتمشي، معه.
وهكذا صار هناك دين له علمه ورجاله، وواقع له فكره ورجاله.
ولكن الوضع لم يبقى على هذا التقسيم.
لقد تدخل الفكر في دين الكنيسة فبحث فيه – أي: بحث في كتبه المقدسة – كما فعل (أبيلاردت 1142م) رغم أنه من رجال الكنيسة في كتاب له عنوانه (نعم ولا) أثبت فيه تناقضات الكتاب المقدس، والتحريف الذي جرى له[9].
واستمر هذا النقد يوهي من قيمة كتب الدين ووثاقة تعاليمها، حتى فقدت أي قيمة علمية، وأصبح العلم محصوراً فيما يصدر عن الفكر البشري معالجاً الواقع، فقيل: العلم، والدين، على أنهما متقابلان.
بل جُعل من الموضوعية التي تضفي على الفكر قيمة علمية تُحرر الباحث من مشاعره الدينية، وعقائده، سوى مما اعترف، العلم التجريبي منها.
ولعل هذه الصورة من العصرانية هي ما يرمى إليه من سماها بالعلمانية قاصداً نسبة هذا التيار إلى العلم.
ولكنها لم تبق في نطاق العلم، والمعارف التجريبية، فقامت الدعوات التي تنادي بفصل السياسة عن الدين الكنسي لتكون مسيرة بحسب المطالب التي يقتضيها !العصر، فصار ما يسمى بالسلطة الزمنية في مقابل السلطة الروحية والدينية، وتوالت النظريات السياسية التي تنتزع السلطة من يد رجال الدين الكنسي لتضعها في يد رجال السياسة حيث تكون السيادة التشريعية والرقابة على التنفيذ متداولة بين البشر بعيداً عن الله وعن الدين والتعاليم المنسوبة إليه، ولعل من أشهر هذه النظريات – الميكافيلية، والعقد الاجتماعي[10].
ومثل عصرانية السياسة عصرانيات الأخلاق، والاقتصاد، والاجتماع، بل والعصرانية الدينية التي اشتهت أكثر من غيرها باسم العصرانية، وقد تمثلت في حركات لدى يهودٍ ونصارى تحاول تحوير مبادئ الدين الذي تنتسب إليه إلى ما يتواءم مع العصر الحاضر – بالنسبة لهم – بفلسفاته وقوانينه الفكرية والتطبيقية.
فالحركة اليهودية الإصلاحية تتمثل أبزر مبادئها التي وضعتها عام 1887م في رفض كل ما لا يتلاءم مع أفكار الحضارة العصرية وقيمها، ومن ذلك عقيدة الآخرة والثواب والعقاب.
ومثل ذلك عند النصارى الذين ركزوا على رفض الخوارق والغيبيات، وعلى ضرورة تطوير تعاليم الدين وفق تقدم المعرفة[11].
هناك – أيضاً – ما يمكن تسميته بعصرانية المشاعر التي تتمثل باتجاه يسعى إلى صرف مشاعر الحب والولاء والإعجاب والاهتمام عن الدين وعقائديه إلى العلم المادي وتطبيقاته.
وأساس هذا – لديهم – أن العلم البشري في هذه الأعصر حقق نتائج متقدمة في مجال الحياة المادية، أمّا الدين – الدين الكنسي أساساً – فإنه رغم عدم بطلان بعض أسسه الكبرى، كوجود الله، وخلود النفس.. إلا أنه لا يستحق الاهتمام المصروف له، لما أثبت العلم من تهافت كثير من دعاوي حسب نقد الفكر التجريبي له.
لذا حسبه من الإنسان انجذاب وقتي محدود، ليكن بعضاً من يوم في الأسبوع[12].
أما الاهتمام الأكبر فينبغي أن يوجه إلى تحسين وضع الإنسان المادي والاجتماعي في حياته هذه، التي يعيشها بين الولادة، والوفاة، وينبغي أن ينحسر من ثم تفكيره بالآخرة والجنة والنار، حتى لا يؤثر على اندفاعه في حياته، وتمتعه بها، مطلقاً من كل قيد، إلا الضوابط القانونية – العصرانية – التي وضعت بعيداً عن الدين لتضمن الاندفاع المتسق للجميع في دوامة هذه الدنيا.
هذه العصرانية – المشاعرية – هي التي دعت إليها الحركة الاجتماعية المشهورة باسم (سيكولورزم) التي ترجمت إلى العلمانية.
تناقض الغرب في موقفه من الدين:
انتهينا مع الأوروبيين في موقفهم تجاه دين الكنيسة وتعاليمه ورجاله إلى أنهم أدركوا أنه يمثل عبئاً على كواهلهم يعوق حركتهم، ويحد انطلاقتهم، ويقف أمام نجاحهم في الحياة، ويشغلهم عن تطلب مصالحهم بأنفسهم بقضايا ممثلة تنفر منها النفس، وتشك في صحتها.
ثم كان سعيهم في حصر سلطانه عن حياتهم.
ولكن الإنسان متدين بغريزته، والغربي الذي عاش قروناً طويلة في ظل دين يربطه بعالم وراء هذا العالم المشهود، ليس من السهل عليه أن يبقى تائهاً لا وجهة له في الحياة – في شأن التصور خاصة –.
بين هاتين الحالتين:
– الشعور بعدم الاستغناء عن الدين بصفته مطلباً روحياً وضرورة فكرية، إيماناً بوجود الله، وخلود النفس، والتطلع وراء هذا العالم المحصور المحدود.
– والنفرة من دين الكنيسة حنقاً عليه نتيجة الويلات التي حاقت به بسبب هذا الدين، ومعرفة تهافت كثير من دعاوي رجاله باسم الدين.
– بينهما – طفق أناس يقترحون أدياناً بديلة:
– قال بعضهم: إن النصرانية حق في بعض أصولها، كوجود الله وخلود النفس، وقيام حياة أخرى، لكنها غير ذلك – خاصة – فيما يتعلق بالواقع وإن نسب إلى الوحي، فينبغي أن يتدين بها في الحق دون ما سواه.
– وسعى آخرون إلى استحداث دين يستند إلى الفطرة سموه الدين الطبيعي مثل: (يوهان، وتورالبا).
– وآخرون قالوا بالدين الإنساني القائم على القيم الإنسانية المشتركة التي تقف وراء مظاهر التباين المذهبية التي يتفرق بها الناس.
– وهناك من دعا إلى دين الربوبية الذي يقارب التصور الأرسطي لوجود الله[13].
وهكذا فرغم افتتانهم بالعلم والفكر الجديد وأخذهم به، بقي الدين في نفوسهم، بل بقيت – كما يقول أميل باتروا: "في خفايا ضمائرهم قوتان متقابلتان حاولوا أن يقيموا بينهما سلاماً، بحيث يكون موقع العلم العقل والفكر متجهاً نحو الطبيعة، وموقع الدين القلب والعاطفة متجهاً نحو الدار الآخرة حسب تنظيم ديكارت للعلاقة بينهما"[14].
لذا كان أغلب العصرانيين في فكرهم وأدبهم ونظمهم مهتمين بدينهم النصراني في حياتهم العملية، حيث يجعلون له نصيباً من الوقت، وإن كان ضئيلاً.
ومن ثم بقيت النصرانية الهوية المميزة للأوروبيين، والعمق الوجداني الذي تبرز متأثرة به رؤاهم وفنونهم واتجاهاتهم، وهذا ما يعبر عنه الناقد المشهور؟ (ت.س.إليوت) في قوله: "في المسيحية نمت فنوننا وفي المسيحية تأصلت – إلى عهد قريب – قوانين أوروبا، وليس لتفكيرنا كله معنى، أو دلالة خارج الإطار المسيحي، وقد لا يؤمن فرد أوروبي بأن العقيدة المسيحية صحيحة، ولكن كل ما يقوله، ويفعله يأتيه من تراثه في الثقافة المسيحية، ويعتمد في معناه على تلك الثقافة".
ويقول بعد ذلك: "إذا ذهبت المسيحية فستذهب كل ثقافتنا"[15].
بل إن نيتشه اعتبر الشيوعية امتداداً لثقافة أوروبا المسيحية، لأنها أزمة في هذه الثقافة، أو حسب تعبيره الإبنة غير الشرعية للحضارة المسيحية، وأنها ستعود للانتماء لهذه الحضارة يوماً ما – المصدر نفسه – هذا فضلاً عن التوظيف السياسي والثقافي للدين الكنسي في فرض هيمنة الحضارة الأوروبية على الشعوب الأخرى من خلال الغزو التنصيري الرهيب[16].
وهذا الموقف الذي يبدو فيه الاضطراب تجاه الدين قبولاً ورفضاً، تشبثاً ونفوراً منطقي – من وجهة نظري – وإن غابت عن كثير منهم منطقيته، لأن الدين الكنسي لديهم يحمل حقاً وباطلاً:
– حقاً يبرد ولو شيئاً قليلاً من ظمأ الفطرة الإنسانية الذي تزيده المذاهب المادية والإلحادية عطشاً، وغليلاً[17].
– وباطلاً تنفر منه الفطرة، ويصطدم بالعقل والواقع، ومن ثم يحدث انفصاماً بين عقل الإنسان وإيمانه بهذا الدين[18].
هذا فضلاً عن النقص في الكتاب المقدس فيما يتعلق بالتشريعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية سوى تحكمات كلية وضعها رجال الكنيسة لإحكام قبضتهم على الحياة والأحياء في أوروبا – في عهد الكنيسة –.
لذا كان لابد لهم من الحركة خارج الدين لتقوم حياتهم وترتقي.
لعله يقال هنا.
الإلحاد المطلق بالدين كما تمثل بالماركسية والوضعية ونحوها ألا يعتبر عصرانية؟ إذ أن سير الحديث انتهى بنا – أو كاد – إلى أن العصرانية دون الإلحاد.
والجواب: هو أن التيارات العصرانية – أساساً – لم تكن رافضة للدين بالكلية، كتيارات الإلحاد، وإنما كانت تزاحم الدين بالواقع، مستهدفة تطويع الدين للواقع، أي: إبقاء الدين ولكن بعد تلقيحه بطعم العصر القائم تلقيحاً يكيفه وفق متطلبات الواقع[19].
ولكن العصرانية – هذه – كانت هي الخطوة التي أوصلت إلى الإلحاد، بل المتكأ المنطقي لبعض فلاسفته الذين يرون: أن من الخداع للناس مطالبتهم بالأخذ بدين نكيفه وفق أهوائنا ومعارفنا، وتحذيرهم من الإلحاد.
إذ ما الفرق – هكذا يقول الملحدون – بين هذا الدين وفلسفتنا، سوى أن العصارنيين وضعوا فلسفتهم تحت اسم دين له تاريخ، فكأنهم هدفوا إلى استغلال الشعبية التي يحظى بها الدين لتمرير عصرانيتهم من خلاله.
وبغض النظر عن مقصد العصرانيين الغربيين – خاصة القدماء منهم – من حركتهم، هل هي خدمة الدين، أو العداء له، أو أمر بينهما، فإن الحركة انتهت إلى تضخيم الواقع الحياتي، وتركيزهم الإنسان وجهده في دنياه، بعيداً عن دينه، وخالقه، وآخرته، وهي النهاية العملية لتيارات الإلحاد[20].
ومع أنه تواصل مع الحركة العصرانية تقدم في المجال العلمي الكوني، تزيد به شيئاً فشيئاً رفاهية الإنسان الغربي، وهيمنته على الكون المحيط به.
إلا أنه أحس بخوائه الروحي القاتل، وباهتزاز إنسانيته، أي: اهتزاز قيمته، لذا تلفت يبحث عن حلول لهذه المعضلة:
– نقداً للإغراق المادي في حضارته القائمة.
– وتأكيداً على بعث الانتعاش في النصرانية لدى الأوروبيين.
– وبحثاً عن وجبات روحية تسد الجوع العام خارج نطاق أوروبا، خاصة لدى الديانات الشرقية المشهورة باهتمامها بالجانب الروحي.
– وارتخاء في المواقف الإلحادية الرافضة للدين، أو الساخرة به وقد تمثلت مثل هذه المطالب في كتب كتبها مفكرون كبار، وفي حركات شبابية رافضة، وفي تصريحات متناثرة صحفية وإعلامية ناقدة لهذا الشرود عن الله.
معنى النصرانية:
بهذا التتبع – غير الاستقصائي – للمسيرة الفكرية الدينية في أوروبا اتضح مفهوم العصرانية الذي يتحدد بأنها [تحكم الواقع الدنيوي المعاش وما ينتج عنه، وجعله المقياس للصلاحية وعدمها في حياة الإنسان.
أي: هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في طل زمن (عصر) وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري].
والعصرانية – بهذا المعنى – تضم في إطارها كل التوجهات والتيارات التي ظهرت مناوئة للدين في أي جانب من جوانب الحياة منذ بداية نهضة أوروبا، والتي لا تزال تظهر حتى الآن.
والعلمانية سواء قصد بها أساس الفكرة التي هي ربط الحياة بالعلم البشري مقابلاً للدين، أو كانت خداعاً من المترجمين حيث جعلوها بديلاً لحركة صرف اهتمام الناس عن الله، وما وراء الحياة الدنيا إلى زهرة هذه الحياة وحدها – وهي المعروفة بـ: (secula صلى الله عليه وسلم ism).
سواء قصد هذا أو ذاك، فهي العصرانية[21].
ومثل ذلك: سائر الألفاظ التي تبتدع في ظل مسيرة العصرانية، مثل: التنوير الذي يصف بعض العرب فلسفتهم به، والحداثة التي شاع استخدامها في الأونة الأخيرة، كاتجاه فكري عام.
أما التنوير:
فإن اللفظة التي ترجم عنها، وهي (illumination , enlightenment) تطلق على الإتجاه الذي يتركز على المنهج التجريبي بصفته منهج العلم الوحيد مقراً مما يقره هذا المنهج كوجود الله مثلاً، وهو: منهج نيوتن، وجون لوك، ونحوهما.
ولكنها بعد ذلك صارت تطلق على الفلسفات التي تحارب العالم الغيبي واصفة إياه بالظلام، فالتنوير هو: الركون إلى التجربة الحسية مصدراً للمعرفة، والبقاء في عالم الحس مجالاً.
ولهذا وصف د.زكي نجيب محمود فلسفته الوضعية التي ترى: أن كل فكر يتجاوز عالم الطبيعة، غير علمي، بل خرافي[22]. – وصفها – بأنها تنوير.
ولكن ناقداً له وصفها بالمقابل بعد أن كشف عن مصادرات منطقها اللغوي الميتافيزيقية بأنها فلسفة تعمية، لا تنوير[23].
وأما الحداثة:
تعريب كلمة (mode صلى الله عليه وسلم nity, modeصلى الله عليه وسلمnism)[24] فهي اتجاه شاع في أوساط متعددة في الأدب والفن في شكل ثورات على الأنماط السائدة، واستحداث أنماط جديدة صاخبة.
وفي نطاق الدين في شكل توجه يهدف إلى تفسيرألفاظ الكتاب المقدس على حسب المفاهيم الفلسفية والعلمية المعاصرة بصورة مفرطة مشابهة للتفسيرات الإشارية عند الصوفية.
والحداثة الآن بمفهومها العام تقابل التقليدية والأصالة معاً، تعني: الإنسلاخ من التقليدي في حياة الفرد والمجتمع فكراً ونظماً وعلاقات وأنماط حياة متنوعة، والتحلي بدلاً منها بجديد مغاير.
والجديد بالنسبة للمسلمين – غالباً – هو ما لدى الغرب.
يقول برهان غليون في كتابه (اغتيال العقل): الحداثة ممارسة يومية.
هي تغيير في كل الاتجاهات لبُنى الواقع والفكر العربي، إنها إندراج دون أوهام في العالمية والحضارة المادية وأولوياتها.
هي: إنهاء هذه الخصوصية وذلك التراث[25].
والحداثيون العرب يعترفون بأن حداثتهم مستقاة من الحداثة الأوروبية، كما قال محمد برادة: "إن الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخياً بوجودٍ سابق للحداثة الغربية، وبامتداد قنوات للتواصل بين الثقافتين"[26].
ولأن حركية الحداثة – في أوروبا – كانت موجهة لنقد الدين وإخضاعه لتطوير العقل البشري وفق مسيرة الفكر المعاصر، اندفع المتأثرون العرب بها في هجوم قاس على الإسلام، مصادره، وعقيدته، وشريعته.
هذا:
وقد يستخدم بعض البارزين في الحركة الإسلامية التحديث بمعنى التجديد، ولكن إذاً التجديد لا ينفك عن منحى الحداثة، فهو تجديد، يكون لفكر العصر الحاضر دور كبير فيه، تجديد يجرد الكتاب والسنة من لواحقهما التراثية، ويتحلل من كثير من الضوابط لحساب خطاب العصر السائد مثل من يفسر الإجماع الشرعي بأنه: اتفاق مجلس مؤسسة أو حزب أو دولة على أمر من الأمور، أو يجرد القياس الفقهي من العلة الرابطة بين الأصل والفرع.
__________________________________________________
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/410/#ixzz7IGgux3KA
فهرس المراجع
1 - اتجاهات في الفلسفة المعاصرة – تأليف عزمي إسلام – طبع دار الفكر ببيروت.
2 - آراء نقدية – تأليف د.مهدي فضل الله – ط1/1401هـ، دار الأندلس للنشر.
3 - الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية – تأليف د.قاسم السامرائي – ط1/1453هـ.
4 - الاسلام في معركة الحضارة – تأليف منير شفيق – طبع دار القلم – الكويت.
5 - الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر – منير شفيق – ط2/1407هـ الزهراء للإعلام العربي.
6 - الإسلام والحضارة الغربية – محمد محمد حسين – ط 1/1399هـ – المكتب الإسلامي بيروت.
7 - الاسلام والعلمانية وجهاً لوجه – يوسف القرضاوي – ط2/1411هـ مؤسسة الرسالة بيروت.
8 - أصول التنصير في الخليج العربي – هـ. كونوى زيقلر – ترجمة مازن مطبقاني – ط ا/1410هـ مكتبة ابن القيم – المدينة المنورة.
9 - اغتيال العقل – برهان غليون – ط3/1990م مكتبة مدبولي بالقاهرة.
10 - إنسانية الإنسان – رينيه دوبو – ترجمة نبيل الطويل حـ1/1399هـ مؤسسة الرسالة بيروت.
11 - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط – يوسف كرم – طبع دار القلم بيروت.
12 - تاريخ الفلسفة اليونانية – يوسف كرم، ط 4.
13 - تجديد الفكر العربي – زكي نجيب محمود، ط6 دار الشروق – بيروت.
14 - تحديث العقل العربي – حسن صعب ط 1/1969م دار العلم للملايين بيروت.
15 - التراث والحداثة – محمد عابد الجابري – ط1/1991م المركز الثقافي العربي بيروت.
16 - تفسير ابن كثير – اسماعيل بن كثير القرشي – دار الفكر بيروت.
17 - التقارير السرية للمخابرات الأمريكية – إبراهيم العربي – المركز العربي للنشر والتوزيع القاهرة – والأسكندرية.
18 - تهافت العلمانية في الصحافة العربية – سالم البهنساوي ط1/1410هـ دار الوفاء بالقاهرة.
19 - جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث – جمال سلطان ط1/1412هـ مركز الدراسات الإسلامية – بريطانيا.
20 - حوار المشرق والمغرب – د.حسن حنفي ود.محمد عابد الجابري ط1/1990م مكتبة مدبولي القاهرة.
21 - شرح العقيدة الطحاوية – محمد بن أبي العز الحنفي – تحقيق د.عبدالله الزير وشعيب الأرناؤوط ط1/1408هـ مؤسسة الرسالة بيروت.
22 - الشريعة الإسلامية والآفاق العالمية – معروف الدواليبي – بحث ضمن مجموعة بحوث قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1399هـ.
23 - الشيخ عبدالله العلايلي والتجديد في الفكر المعاصر – د.فائز ترحيني ط1/1985م منشورات عويدات – بيروت – باريس.
24 - الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الاسلامية – أبوالحسن الندوي – طبع عام 1397هـ – مطبعة التقدم القاهرة.
25 - الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي – مجموعة بحوث بتحرير وتقديم د.سعد الدين إبراهيم ط1/1988م نشر منتدى الفكر العربي الأردن.
26 - صحيح الإمام البخاري – محمد بن إسماعيل البخاري – المكتبة الإسلامية – استانبول – تركيا.رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/410/#ixzz7IGgux3KA