آفات اللسان (1)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
وينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة, وإذا رأى مبتدعاً تلطف في نصحه في خلوة لا بطريق الجدال.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
اللسان من النعم العظيمة, صغير جرمه, عظيم طاعته وجرمه, رحب الميدان ليس له مرد, ولا لمجاله منتهى وحدّ, له في الخير مجال, وله في الشر ذيل سحب, فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان, سلك به الشيطان في كل ميدان, وساقه إلى شفا جرف هار, إلى أن يضطره إلى البوار, ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم, ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع, فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة, ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله.
عظيم خطر اللسان:
خطر اللسان عظيم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( أمسك عليك لسانك, وليسعك بيتك, وبكِ على خطيئتك ) » وقال عليه الصلاة والسلام: «( من يتكفل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة) » وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل النار, فقال: «( الفم والفرج )»
«قال معاذ بن جبل: قلت يا رسول الله: أنؤاخذ بما نقول ؟ قال: ثكلتك أمك, يا بن جبل, وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ؟ ) » وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يشير إلى لسانه, ويقول: هذا الذي أوردني المهالك.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو, ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.
وقال طاوس: لساني سبع إن أرسلته أكلني.
وقال الحسن: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه.
الكلام فيما لا يعنيك:
اعلم أن أحسن أحوالك أن تحفظ ألفاظك....ولا تتكلم بما أنت نستغن عنه, ولا حاجة بك إليه, فإنك مضيع به زمانك, ومحاسب على عمل لسانك, وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير, لأنك لو....هللت الله سبحانه وذكرته وسبحته, لكان خيراً لك, فكم من كلمة يبنى بها قصراً في الجنة ؟ ومن قدر أن يأخذ كنزاً من الكنوز فأخذ مكانه مدرة لا ينتفع بها كان خاسرا خسرنا مبيناً. وهذا مثال من ترك ذكر الله تعالى, واشتغل بمباح لا يعنيه, فإنه وإن لم يأثم فقد خسر حيث فاته الربح العظيم بذكر الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )»
وقال مجتهد: سمعت ابن عباس يقول: لا تتكلم فيما لا يعنيك, فإنه فضل, ولا آمن عليك الوزر. وقيل للقمان الحكيم: ما حكمتك ؟ قال: لا أسأل عما كفيت, ولا أتكلف ما لا يعنيني. وقال مورق العجلي: أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة, لم أقدر عليه, ولست بتارك طلبه, قالوا: وما هو ؟ قال: السكوت عما لا يعنيني.
وحدّ الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لم تأثم, ولم تستضر به في حال و لا مال, مثاله أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك, وما رأيت فيها من جبال وأنهار, وما وقع لك من الوقائع, وما استحسنته من الأطعمة والثياب, وما تعجبت منه. فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم, ولم تستضر.
ومن جملتها: أن تسأل غيرك عما لا يعنيك, فأنت بالسؤال مضيع وقتك, وقد ألجأت صاحبك أيضاً بالجواب إلى التضييع.
والعلاج أن يعلم أن الموت بين يديه, وأنه مسئول عن كل كلمة, وأن أنفاسه رأس ماله, وأن يلزم نفسه السكوت عن بعض ما يعنيه حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه.
فضول الكلام:
فضول الكلام...مذموم, وهذا يتناول الخوض فيما لا يعني, والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة. فإن من يغنيه أمر يمكنه أن يذكره بكلام مختصر, ومهما تأتى مقصوده بكلمة واحدة فذكر كلمتين, فالثانية فضول, أي: فضل عن الحاجة, وهو أيضاً مذموم _ لما سبق _ وإن لم يكن فيه إثم ولا ضرر. قال عطاء بن رباح: إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام, وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى, وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو أمرا بمعروف, أو نهياً عن منكر, أو أن تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها, أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيد, ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد, أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره, كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه.
واعلم أن فضول الكلام لا ينحصر, بل المهم محصور في كتاب الله تعالى, قال الله عز وجل: { ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس ) } [النساء:114]
وقال ابن مسعود: أنذركم فضول كلامكم, حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته
وقال الحسن: ابن آدم بسطت لك صحيفتك, ووكل بها ملكان كريمان, يكتبان أعمالك, فاعمل ما شئت وأكثر وأقلّ.
وقال إبراهيم التيمي: إذا أراد المؤمن أن يتكلم نظر فإن كان له تكلم, وإلا أمسك, والفاجر إنما لسانه رسلا, رسلا.
وقال الحسن: من كثر كلامه كثر كذبه, ومن كثر كذبه كثرت ذنوبه.
الخوض في الباطل:
وهو الكلام في المعاصي, كحكاية أحوال النساء, ومجالس الخمر, ومقامات الفساق,
وتنعم الأغنياء, وتجبر الملوك, ومراسمهم المذمومة, وأحوالهم المكروهة, فإن كل ذلك بما لا يحل الخوض فيه, وهو حرام.
ومن يكثر الكلام فيما لا يعني لا يؤمن عليه الخوض في الباطل. وأنواع الباطل لا يمكن حصرها لكثرتها وتفننها, فلذلك لا مخلص منها إلا بالاقتصار على ما يعني من مهمات الدين والدنيا. وفي هذا الجنس تقع كلمات يهلك بها صاحبها وهو يستحقرها, فقد قال بلال بن الحارث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ بها ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله, ما يظن أن تبلغ به ما بلغت, فيكتب الله عليه سخطه إلى يوم القيامة.)» وكان علقمة يقول: كم من كلام منعنيه حديث بلاب بن الحارث.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقى لها بالاً يرفعه الله بها في أعلى الجنة.
وقال سلمان: أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً في معصية الله.
وقال ابن سيرين: كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم, فيقول: توضئوا, فإن بعض ما تقولون شر من الحدث.
فهذا هو الخوض بالباطل, ويدخل فيه: حكاية ما جرى بين من قتال الصحابة, على وجه يوهم الطعن في بعضهم. وكل هذا باطل, والخوض فيه خوض في الباطل, نسأل الله حسن العون بلطفه وكرمه.
المراء والجدال:
وهو منهي عنه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( ما ضل قوم بعد أن هداهم الله تعالى إلا أوتوا الجدل)»
قال مسلم بن يسار: إياكم والمراء فإنه ساعة جهل العالم وعندها يبتغي الشيطان زلته وقال مالك بن أنس رحمه الله: ليس هذا الجدال من الدين في شيء. وقال: المراء يقسي القلوب, ويورث الضغائن. وقال لقمان يا بني, لا تجادل العلماء فيمقوتك. وقال بلال بن سعد: إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته.
وحدّ المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه, إما في اللفظ, وإما في المعنى, وإما في قصد المتكلم. وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض, فكل كلام سمعته فإن كان حقاً فصدّق به, وإن كان باطلاً أو كذباً ولم يكن متعلقاً بأمور الدين فاسكت عنه. وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه, وتنقيصه بالقدح في كلامه, ونسبته إلى القصور والجهل فيه.
وينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة, وإذا رأى مبتدعاً تلطف في نصحه في خلوة لا بطريق الجدال.
وأما الباعث على هذا فهو الترفع بإظهار العلم والفضل, والتهجم على الغير بإظهار نقصه. وهما شهوتان باطنتان للنفس قويتان لها. وأما علاجه: فهو بأن يكسر الكبر الباعث له على إظهار نفسه. وكل من اعتاد المجادلة مدة, وأثنى الناس عليه, ووجد لنفسه بسببه عزاً وقبولاً, قويت فيه هذه المهلكات, ولا يستطيع عنها نزوحاً إذا اجتمع عليه سلطان الغضب والكبر والرياء وحب الجاه والتعزز بالفضل, وآحاد هذه الصفات يشق مجاهدتها فكيف بمجموعها ؟
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ