فصل الشتاء بين العداوة والمحبة
قالﷺ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُو أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ»
ففصل الشتاء بين العداوة والمحبة:
ونعني بكلمة العداوة: أي عدم المحبة والقبول، وليس التعتراض على أمر الله تبارك وتعالى، فإن أقدار الله كلها رحمة ونعمة.
لكن الفقير الذي يحتاج إلى الغطاء والبيت الآمن، وإلى الفراش الذي يستعين به على برد الشتاء، قد لا يجد في نفسه المحبة لهذا الفصل من العام كمحبته لفصل الصيف الذي يُمكَّن فيه من المبيت في أي مأوي واللباس والغطاء، وذلك لما يلحقه من أذي وضرر من شدة البرد والرياح ونزول الأمطار.
لكن نبينا صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن شدة الشتاء والصيف هما نفسان من أنفاس جهنم.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُو أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ»، فاستعيذوا بالله تعالى من شدة البرد وشدة الحر، نسأل الله السلامة والعافية.
قال الحسن - رحمه الله -: كل برد أهلك شيئًا، فهو من نفس جهنم، وكل حر أهلك شيئًا، فهو من نفس جهنم.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أقبل الشتاء: "قد أقبل عليكم عدو فاستعدوا له".
فالشتاء يحتاج إلى الاستعداد والفراش والغطاء والمأمن، والفقير قد لا يملِك كل هذا فهو عدو الفقراء.
فيجب علينا أيها المسلمون أن نمد يد المعونة إلى كل فقير، وأن نواسيهم، وأن نتصدق عليهم بما أعطانا ربنا من فراش ولحاف وغطاء ولباس، والله سبحانه وتعالى يحب المحسنين المتصدقين النافعين لإخوانهم ممن يحتاجون لهذا، ويحب إذا أنعم على عبده نعمة أن يرى أثر نعمته عليه، وعلينا أن نعلم أن من شكر النعمة أن نعطي المساعدة إلى إخواننا الفقراء المساكين، وأن نواسيهم بها، وأن نجبر قلوبهم بتلك المشاعر الطيبة، وأن نُعينهم على شدة البرد المؤذي بما أعطانا ربنا عز وجل من نعم، ولا تجود يد إلا بما تَجِدُ من عطاء الله عز وجل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله»؛ (متفقٌ عليه).
يقول ابن قُتيبة: "سُمِّيت أرملة لما يحصل لها من الإِرمال، وهو الفقر وذهاب الزَّاد بفقد الزَّوج، يُقال: أرمل الرَّجل، إذا فَنِيَ زاده".
قال ابن بطال رحمه الله: "من عجز عن الجهاد في سبيل الله، وعن قيام الليل وصيام النهار، فليعمل بهذا الحديث.
فالمُجاهد يعمل على إحياء الدين، والساعي يعمل على إحياء النفوس، وكلاهما وقع له الثواب العظيم والأجر الوفير من رب العالمين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسرٍ، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه»؛ (رواه مسلم).
فنفسِّوا عن إخوانكم الفقراء والمحتاجين كربةَ الشتاء بالمال واللباس وما تملكون، واعلموا أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
مَنْ يَفْعَلْ الْخَيْرَ لا يَعْدَمُ جَوَازِيَهُ *** لا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ الله وَالنَّاسِ
كمْ يكونُ الشتاءُ ثم المصيـــــفُ *** وربيعٌ يمضِي ويأتي الخرِيـــــفُ
وارتحالٌ من الحرورِ إلى البــردِ *** وسيفُ الرَّدَى عليك منيــــــــــفُ
يا قليلَ المقامِ في هذه الدنيـــا *** إلى كم يغرُّك التَّسويـــــــــــــــفُ
يا طالبَ الزائلِ حتى متَــــــــى *** قلبُك بالزائلِ مشـغــــــــــــــــوفُ
عجبًا لامرئ يذل لـــــــــــــــذِي *** الدنيا ويكفيه كل يومٍ رغيــــــفُ
وأما محبة الشتاء التي نقصدها، فهي محبة المتقين، نسأل الله أن نكون منهم، فلا شك أن الشتاء خير معين لهم على الإكثار من الصيام والقيام مع قلة المشقة، ولذلك سُمي (الشتاء الغنيمة الباردة)؛ قال عمر - رضي الله عنه –: (الشتاء غنيمة العابدين)، وقال عبدالله بن مسعود: (مرحبًا بالشتاء؛ تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام).
فلا شك أن أسلافنا الكرام كانوا يحبون الشتاء لا لأجل غناهم، ولا لأجل دنياهم، إنما كانوا يحبونه لأجل التقرب إلى مولاهم؛ يقول الحسن البصري رحمه الله: (نِعْم زمان المؤمن الشتاء؛ ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه).
وهذا معاذ بن جبل القوي بإيمانه يقول: (لولا ثلاث: ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله، ما باليت أن أكون يعسوبًا).
وكان أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - يقول: (ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى، فيقول: الصيام في الشتاء).
فهو غنيمة مباركة يسيرة على من أراد القرب من الله عز وجل، غنيمة تحصل بلا حرب ولا ضرب،
والمؤمن يربط كل أحواله بالله، وتذكِّره أحواله دومًا بمولاه، في حديث أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم شديد البرد، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم، اللهم أجرني من زمهرير جهنم، قال الله تعالى لجهنم: إن عبدًا من عبادي استجار بي من زمهريرك، وإني أشهدك أني قد أجرته، قالوا: وما زمهرير جهنم؟ قال: بيت يلقى فيه الكفار، فيتميز من شدة برده».
وأمطار الشتاء هي عطاء من الله عز وجل، ورحمة وبركة، في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «بَيْنَمَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ؛ إِذْ سَمِعَ رَعْدًا فِي سَحَابٍ سَمِعَ فِيهِ كَلَامًا: (اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ)، بِاسْمِهِ، فَجَاءَ ذَلِكَ السَّحَابُ إِلَى حَرَّةٍ فَأَفْرَغَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى ذُنَابِ شَرَجٍ" [أي مسيل وقنوات]، "فَانْتَهَى إِلَى شَرَجِهِ قَدِ اسْتَوْعَبَ الْمَاءَ، وَمَشَى الرَّجُلُ مَعَ السَّحَابَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الرَّجُلِ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ، يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ: (يَا عَبْدَ اللَّهِ! مَا اسْمُكَ؟) قَالَ: (وَلِمَ تَسْأَلُ؟!) قَالَ: (إِنِّي سَمِعْتُ فِي سَحَابٍ هَذَا مَاؤُهُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، بِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا إِذَا صَرَمْتَهَا؟) قَالَ: (أَمَا إِذْ قُلْتَ ذَلِكَ؛ فَإِنِّي جَعَلْتُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْلَاثٍ: أَجْعَلُ ثُلُثًا لِي وَلِأَهْلِي، وَأَرُدُّ ثُلُثَا فِيهَا، وَأَجْعَلُ ثُلُثَا فِي الْمَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ»؛ (السلسلة الصحيحة (1197).
يقلب الله الزمان صيفًا وشتاءً، ربيعًا وخريفًا، وليلًا ونهارًا بحكمة وقدرة سبحانه وبحمده: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13].
أيها الأخوة الكرام، أين نحن من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقد كان حالهم دومًا التقرب من الله عز وجل حتى في شدة البر وشدة الحر، هذا خالد بن الوليد يقول - رضي الله عنه -: ما ليلة تُهدى إليَّ فيها عروس أنا لها مُحب مشتاق، أحب إليَّ من ليلة شديد قرُّها - يعني: بردها - كثير مطرها، أُصبح فيها العدو، فأقاتلهم في سبيل الله.
أخي المسلم، اعلم أن عظمة الأجر عند الله بقدر مشقة العبد، وللشتاء من هذا نصيب وافر؛ فإتمام الوضوء وإحسانه في البرد، أو التعرض للبرد حين الخروج لأداء الصلاة بعد الوضوء - مما يشتد على النفوس، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «ألا أدلُكم على ما يمحو اللهُ بهِ الخطايا ويرفعُ بهِ الدرجاتِ»؟ قالوا: بلى. يا رسولَ اللهِ! «قال إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ، وكثرةُ الخطى إلى المساجِدِ، وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ، فذلكمْ الرباطُ».
هذا والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
_______________________________________________
الكاتب: محمد عبدالعاطي محمد عطية
- التصنيف: