حديث: شاهداك أو يمينه
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم، لَقِيَ الله وهو عليه غضبان».
عن الأشعث بن قيس - رضي الله عنه - قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «شاهداك أو يمينه»، قلت: إذًا يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم، لَقِيَ الله وهو عليه غضبان».
قوله: (من حلف على يمين صبر).
قال الحافظ: (يمين الصبر: هي التي تلزم ويجبر عليها حالفها، يُقَال: أصبره اليمين أحلفه بها في مقاطع الحق.
قوله: (يقتطع بها مال امرئ مسلم)، وفي رواية: ليقتطع بزيادة لام تعليل.
قوله: (هو فيها فاجر)، وفي رواية: هو بها فاجر.
قال الحافظ: والمراد بالفجور لازمه وهو الكذب، وقد وقع في رواية شعبة على يمين كاذبة.
قوله: (لقي الله وهو عليه غضبان).
في حديث وائل بن حجر عند مسلم وهو عنه معرض وفي حديث أبي أمامة بن ثعلبة عند مسلم والنسائي نحوه في هذا الحديث، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)[1].
قوله: ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]، إلىآخر الآية).
وفي رواية: فانزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]، فدخل الأشعث بن قيس، وقال: ما يحدِّثكم أبو عبدالرحمن، قلنا: كذا وكذا، قال: فيَّ أُنزلت كانت لي بئر في أرض ابن عم لي، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «بينتك، أو يمينه» فقلت إذا يحلف يا رسول الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فيها فاجر، لَقِيَ الله وهو عليه غضبان»، وفي رواية عند مسلم والترمذي وغيرهما عن عبدالله سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه»، الحديث، ثم قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 77]، فذكر هذه الآية.
قال ابن بطال: إن الله خصَّ العهد بالتقدمة على سائر الإيمان، فدل على تأكُّد الحلف به؛ لأن عهد الله ما أخذه على عباده وما أعطاه عباده؛ كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] الآية لأنه قدم على ترك الوفاء به[2].
قوله: (كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية: فجحدني فقدمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
قوله: فقال: بينتك أو يمينه في رواية، فقال: ألك بينة، فقلت: لا فقال لليهودي: احلف.
قوله: (قلت: إذًا يحلف ولا يبالي)، في رواية: إذًا يحلف ويذهب بمالي، وفي رواية: قال: إنه فاجر ليس يبالي ما حلف عليه وليس يتورَّع من شيء، قال: ليس لك منه إلا ذلك، وفي رواية قال: أرضي أعظم شأنًا من أن يحلف عليها، فقال: إن يمين المسلم يدرأ بها أعظم من ذلك، وفي رواية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حلف كاذبًا أدخله الله النار.
قال الحافظ: (وفي الحديث سماع الحاكم الدعوى فيما لم يره إذا وصف وحدد وعرفه المتداعيان، وفيه أن الحاكم يسأل المدعي: هل له بينة وفيه بناء الأحكام على الظاهر، وإن كان المحكوم له في نفس الأمر مبطلًا، وفيه دليل للجمهور أن حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لم يكن حلالًا له، قال: وفيه التشديد على من حلف باطلًا ليأخذ حق مسلم، وهو عند الجميع محمول على من مات على غير توبة صحيحة، وعند أهل السنة محمول على من شاء الله أن يعذبه، قال: وقال المازري ذكر بعض أصحابنا أن فيه دلالة على أن صاحب اليد أَولى بالمدعى فيه.
قال الحافظ: وفيه التنبيه على صورة الحكم في هذه الأشياء؛ لأنه بدأ بالطالب، فقال: ليس لك إلا يمين الآخر، ولم يحكم بها للمدعي عليه إذا حلف، بل إنما جعل اليمين تصرف دعوى المدعى لا غير، ولذلك ينبغي للحاكم إذا حلف المدعي عليه ألا يحكم له بملك المدعى فيه ولا بحيازته، بل يُقره على حكم يمينه، قال: وفي الحديث أيضًا أن يمين الفاجر تسقط عنه الدعوى، وأن فجوره في دينه لا يوجب الحجر عليه، ولا إبطال إقراره، ولولا ذلك لم يكن لليمين معنى، وأن المدعى عليه إن أقر أن أصل المدعي لغيره لا يكلف لبيان وجه مصيره إليه، ما لم يعلم إنكاره، لذلك يعني تسليم المطلوب له ما قال؛ قال القاضي عياض، وفي هذا الحديث من الفوائد أيضًا البداءة بالسماع من الطالب، ثم من المطلوب، هل يقر أو ينكر، ثم طلب البينة من الطالب إن أنكر المطلوب، ثم توجيه اليمين على المطلوب إذا لم يجد الطالب البينة، وأن الطالب إذا ادعى أن المدعى به في يد المطلوب فاعترف، استغنى عن إقامة البينة بأن يد المطلوب عليه.
قال الحافظ: وفيه موعظة الحاكم المطلوب إذا أراد أن يحلف خوفًا من أن يحلف باطلًا، فيرجع إلى الحق بالموعظة، واستدل به القاضي أبو بكر بن الطيب في سؤال أحد المتناظرين صاحبه عن مذهبه، فيقول له: ألك دليلٌ على ذلك، فإن قال: نعم، سأله عنه ولا يقول له ابتداءً: ما دليلك على ذلك، ووجه الدلالة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للطالب: ألك بينة ولم يقل له: قرِّب بينتك.
قال: واستدل به الشافعي أن من أسلم وبيده مال لغيره أنه يرجع إلى مالكه إذا أثبته.
وقال النووي: يدخل في قوله: من اقتطع حق امرئ مسلم من حلف على غير مال؛ كجلد الميتة والسرجين وغيرهما مما ينتفع به، وكذا سائر الحقوق كنصيب الزوجة بالقسم، وأما التقييد بالمسلم، فلا يدل على عدم تحريم حق الذمي، بل هو حرام أيضًا، لكن لا يلزم أن يكون فيه هذه العقوبة العظيمة، وهو تأويل حسن، لكن ليس في الحديث المذكور دلالة على تحريم حق الذمي، بل ثبت بدليل آخر، والحاصل أن المسلم والذمي لا يفترق الحكم في الأمر فيهما في اليمين الغموس والوعيد عليها، وفي أخذ حقهما باطلًا، وإنما يفترق قدر العقوبة بالنسبة إليهما، قال: وفيه غلظ تحريم حقوق المسلمين، وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره في ذلك، وكأن مراده عدم الفرق في غلظ التحريم لا في مراتب الغلظ، وقد صرَّح ابن عبدالسلام في القواعد بالفرق بين القليل والكثير، وكذا بين ما يترتب عليه كثير المفسدة وحقيرها)[3].
[1] فتح الباري: (559/11).
[2] فتح الباري: (11/558).
[3] فتح الباري: (11/ 562).
_________________________________________________
الكاتب: الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
- التصنيف:
- المصدر: