ولا تقربوا الزِّنى
كان الشاعر الجاهلي عنترة ذا عفة ترفعه عن دناءة هؤلاء أدعياء الحضارة من مخنّثِي الفكر، ومرذولي الفَهْم، حين قال: أغضُّ الطرفَ عن جارتي حتى *** يوارى جارتي مثواها
قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} (الإسراء: 32). والنهي عن قربان الشيء أبلغ من النهي عنه، فالنهي عن قربانه نهي عن كل ذريعة تُوصِّل إليه. وإذا نهى الله عما يوصِّل إلى الحرام فإنَّ هذا الحرام أولى بالنهي. وهذه الآية تدل على تحريم الزِّنا من وجوه:
الأول: أنها نهت عن مقدماته كما سبق، ففي هذه الآية إشارة إلى أن أسباب الزِّنا ومبادئه توصل إليه؛ ولهذا نُهي عن تعاطي ذلك.
الثاني: إثبات كونه فاحشة، والفاحشة تُطلق على كل ما عظم إثمه، وظهر قبحه، قال ابن العربي: "هي في اللغة عبارة عن كل فعل تعظم كراهيته في النفوس ويقبح ذكره في الألسنة" (أحكام القرآن: 1/458).
الثالث: قوله تعالى: " {وَسَاء سَبِيلاً} "؛ لأن المعنى: وساء طريق الزِّنا طريقًا.
«عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال:" أقبل علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا معشر المهاجرين: خمسٌ إذا ابتليتم بِهنَّ وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ : لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطَّاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضَوا"» (سنن ابن ماجة - رقم : 4019).
وفي بعض الأناجيل: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزنِ. وأما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه، فإن كانت عينك اليمنى تُعثِرُك فاقلعها وألقها عنك؛ لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كلُّه في جهنم. وإن كانت يدك اليمنى تُعثِرُك فاقطعها، وألقها عنك؛ لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم".
وعقوبة الزِّنا كانت في بداية الإسلام: الإيذاء، والحبس في البيوت، ثم نُسخ ذلك بالجلد في سورة النور للبكر، وبالرَّجم للمحصن. قال تعالى: {"الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ"} (النور: 2). قال ابن كثير: "وللعلماء فيه تفصيل ونزاع، فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرا ، وهو الذي لم يتزوج، أو محصنًا، وهو الذي قد وطئ في نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل . فأما إذا كان بكرًا لم يتزوج، فإن حده مائة جلدة كما في الآية ويُزاد على ذلك أن يُغرب عامًا عن بلده] عند جمهور العلماء]، خلافًا لأبي حنيفة، فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام، إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب". أما الإماء فإن الحد يُنصف في حقهنَّ، فيما يتعلق بالجلد فقط. وأما تغريب المرأة، فأنكره الإمام مالك رحمه الله يقول:" وغُرِّب الحرُّ الذكرُ فقط عامًا". فالمذهب عنده أنه لا تغريب على امرأة أو عبد. (مختصر خليل. ص326).
وأما الرجم فقد أشار إليه عمر بن الخطاب بقوله: « "إن الله بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله عليه آيةَ الرَّجم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها، رجم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرَّجم في كتاب الله ، فيَضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرَّجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أُحصن من الرجال والنساء".»
(أخرجه البخاري في كتاب الحدود ، باب رجم الحبلى من الزِّنا إذا أحصنت ، برقم : 6830، ومسلم في كتاب الحدود ، باب حد الزِّنا ، برقم : 1691).
وقد نهى الشرع الكريم عن السعي في إشاعة الفاحشة في المجتمع المسلم، تحت أيّ مسمّى، قال تعالى: {"إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" } (النور: 20). أي: إذا أَحَبُّوا إشاعتَها وإذاعتَها، فكيفَ إذا توَلَّوا هم إشاعتَها وإذاعتَها، لا نصيحةً منهم، ولكن طاعةً لإبليسَ ونيابةً عنه؟! (بدائع الفوائد لابن القيم 2/260). ففي الآيةِ أنَّ هذا العقابَ ثابتٌ لِمَن أشاع الفاحِشةَ؛ لأنَّه إذا ثَبَتَ فيمَن أحَبَّها، فكذلك فيمَن أشاعَها مِن بابِ أَولى (تفسير ابن عثيمين - سورة النور. ص: 106).
والآية تدلّ على أنَّ العَزمَ على الذَّنبِ العَظيمِ عَظيمٌ، وأنَّ إرادةَ الفِسقِ فِسقٌ؛ لأنَّه تعالى علَّق الوعيدَ بمحبَّةِ إشاعةِ الفاحشةِ (انظر: تفسير الرازي 23/346).
ولا شك أنّ لشُيوعِ أخبارِ الفواحِشِ بيْن المؤمِنينَ بالصِّدقِ أو بالكَذِبِ مَفسدةٌ أخلاقيَّةٌ؛ فإنَّ ممَّا يَزَعُ النَّاسَ عن المفاسِدِ تَهيُّبَهم وُقوعَها، وكراهتَهم سوءَ سُمعتِها، وذلك مِمَّا يَصرِفُ تفكيرَهم عن تذكُّرِها - بَلْهَ الإقدامِ عليها- رويدًا رويدًا حتى تُنسى وتَنْمحي صُوَرُها مِن النُّفوسِ، فإذا انتشرَ بيْنَ الأمَّةِ الحديثُ بوقوعِ شَيءٍ مِن الفواحِشِ، تذكَّرَتها الخواطِرُ، وخَفَّ وقْعُ خَبَرِها على الأسماعِ؛ فدَبَّ بذلك إلى النُّفوسِ التهاوُنُ بوقوعِها، وخِفَّةُ وَقعِها على الأسماعِ، فلا تلبَثُ النفوسُ الخبيثةُ أن تُقدِمَ على اقترافِها، وبمقدارِ تكرُّرِ وُقوعِها وتكرُّرِ الحديثِ عنها تصيرُ متداوَلةً. هذا إلى ما في إشاعةِ الفاحشةِ مِن لَحاقِ الأذى والضُّرِّ بالنَّاسِ ضُرًّا متفاوِتَ المقدارِ على تفاوُتِ الأخبارِ في الصِّدقِ والكَذِبِ (انظر: تفسير ابن عاشور 18/185).
وقد عبَّرت الآية الكريمة بالحُبِّ؛ إشارةً إلى أنَّه لا يَرتكِبُ هذا مع شناعتِه إلَّا مُحِبٌّ له (انظر: نظم الدرر للبقاعي 13/233). وتَعليقُ الوعيدِ على مَحبَّةِ الشِّياعِ: دَليلٌ على أنَّ إرادةَ الفِسْقِ فِسْقٌ (انظر: تفسير أبي حيان 8/23). والآية فيها الوَعيدُ الشَّديدُ الذي يَنطَبِقُ على دُعاةِ تَحريرِ المرأةِ في بلادِ الإسلامِ مِن الحِجابِ، والتخَلُّصِ مِن الأوامِرِ الشَّرعيَّةِ الضَّابِطةِ لها في عِفَّتِها وحِشمتِها وحيائِها (انظر: حراسة الفضيلة لبكر أبو زيد ص: 75).
فما لهؤلاء السفهاء الذين يريدون تعرية المرأة، ونقل الفاحشة في أراضي المسلمين بدعوى الحضارة والمدنية، لقد كان الشاعر الجاهلي عنترة ذا عفة ترفعه عن دناءة هؤلاء أدعياء الحضارة من مخنّثِي الفكر، ومرذولي الفَهْم، حين قال:
أغضُّ الطرفَ عن جارتي حتى *** يوارى جارتي مثواها
- التصنيف: