شهر رجب
لله تعالى فضَّل بعضَ الأزمان على بعض، وبعض الأمكنة على بعض، وهذا التفضيل؛ لمضاعفة الأجر لما شرع من العبادات، وليس لإيجاد بدعة من المُحدَثات، فضل الله تعالى من الأزمان شهر رجب، فهو من الأشهر الحُرُم، ولكنه لم يَرِدْ بتخصيصه شيء بعبادة معيَّنة، فالعبادات فيه كسائر الشهور ..
- التصنيفات: مناسبات دورية - - آفاق الشريعة -
الحمد لله المعبود في كل حالِّ وفي كل مكان، أحمده - سبحانه - وأشكره على عِلمه الشامل، ولطفه الكامل، وشكرُه أفضل ما ينطق به اللسان، ويعتقِده الجنان، وتعمل به الجوارح والأركان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم المنان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل العارفين بربه، العابدين له، فهو المبلِّغ عنه، فلا يُعبَد اللهُ إلا بما شرع، ولا إيمان إلا بطاعته فيما أمَر، وتصديقه فيما أخبَر، واجتناب ما نهى عنه وزجَر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد سيد البشر، وعلى آله وأصحابه وكل مَن اهتدى بهديه واقتفى له الأثر.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى واعبدوه كما أمر، فلا زيادة ولا نُقصان فيما شرع، فإن ذلك مردود على صاحبه مهما اجتهد فيه؛ فإن الإيمان والثواب مُرتَّب على المتابعة والطاعة، وإن الكفر والفسوق والعصيان والعقوبة مرتبة على المخالفة والمعصية؛ قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13، 14].
واعلموا أن الله تعالى فضَّل بعضَ الأزمان على بعض، وبعض الأمكنة على بعض، وهذا التفضيل؛ لمضاعفة الأجر لما شرع من العبادات، وليس لإيجاد بدعة من المُحدَثات، فمما فضَّله الله - سبحانه وتعالى - شهر رمضان، الذي فرض صيامَ نهاره، وسنَّ قيامَ ليله، وضاعَف الحسنات فيه، وفضَّل شهر الحج الذي فرض فيه زيارة بيته، والمشاعر المفضَّلة في تلك البُقعة، ومما فضل الله تعالى من الأزمان شهر رجب، فهو من الأشهر الحُرُم، ولكنه لم يَرِدْ بتخصيصه شيء بعبادة معيَّنة، فالعبادات فيه كسائر الشهور، فمن ذبَح صدقة فيه كان كمن ذبحها في غيره، فلا يُخصَّص بالذبائح؛ فإن ذلك من فِعل الجاهلية الذي نسخَه الإسلام، قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا فرع ولا عتيرة»؛ أي: في الإسلام، ولا صلاة معينة فيه من النوافل، وما أوجد من صلاة الرغائب، وهي التنفل في أول ليلة جمعة من رجب، فإنه لم يَثبُت فيه شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأما صيامه، فقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن إفراده بالصوم؛ لئلا يُشابه رمضان وألا يشابه تعظيم الجاهلية بإفراده بالصوم؛ لأنه مكروه إلا من كان له عادة كصيام الاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر، فهو كغيره.
وفي الأثر أنهم قالوا: يا رسول الله، إنما كنا نَعْتِر فيه؛ أي: بشهر رجب، قال: «اذبحوا لله تعالى في أي شهر كان، وبروا لله تعالى وأطعموا»، فلا ذبائح معينة على وجه القربة لله - عز وجل - إلا العقيقة عن المولود التي يذبحها الوالد؛ شكرًا لله - عز وجل - أو أضحية وهي التي تذبح في اليوم العاشر من ذي الحجة وثلاثة أيام بعده، أو هدي: التمتع والقران في الحج، أو ذبيحة لنذر، وهي ما يُوجِبه الإنسانُ على نفسه من ذبحها في أي وقت كان إلا أن يعين لها وقتًا، وأصل هذه أنه لا يشرع أن يتَّخِذ المسلمون عيدًا إلا ما جاءت الشريعة بجعله عيدًا، والأعياد في الإسلام هي: عيد الفطر من رمضان، وعيد الأضحى، وهي أعياد العام، ويوم الجمعة، وهو عيد الأسبوع، وما عدا ذلك، فاتخاذه عيدًا أو موسمًا بدعةٌ لا أصل له في الشريعة، كما أن رجب لا يخص بعمرة فيه كما يخصه البعض بالاعتمار فيه، وإنما فضلت العمرة في شهر رمضان، وكذلك لم يَرِد نصٌّ، ولا أثر، ولا فِعْل من السلف يشير إلى احتفال بحادث الإسراء في هذا الشهر.
ومما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا دخل شهر رجب قال: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلِّغنا رمضان»، ففي الحديث دليل على استحباب الدعاء بالبقاء إلى الأزمان الفاضلة؛ لإدراك الأعمال الصالحة فيها، فإن المؤمن لا يَزيده عمره إلا خيرًا، وخير الناس مَن طال عمرُه وحَسُن عملُه، وكان السلف يحبون أن يموتوا عقِب عمل صالح من صوم رمضان أو رجوع من حج.
فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون، والتزموا بأوامر ربكم، وأكثروا من العبادة والدعاء لله تعالى؛ فهو يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
__________________________________________
الكاتب: الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم