المال
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما من يوم إلا ملك ينادي: يا بن آدم, قليل يكفيك, خير من كثير يطغيك. وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غماً الحسود, وأهنأهم عيشاً القنوع.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
ذم المال وكراهة حبه:
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } [المنافقون:9] وقال تعالى: { إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم } [التغابن:15] فمن اختار ماله, وولده على ما عند الله, فقد خسر وغبن خسراناً عظيماً. وقال تعالى: {ألهاكم التكاثر } [التكاثر:1]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول ابن آدم: مال, مالي, وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت, أو لبست فأبليت, أو تصدقت فأمضيت»
مدح المال والجمع بينه وبين الذم:
اعلم أن الله تعالى قد سمى المال خيراً في مواضع من كتابه العزيز فقال جل وعز: {إن ترك خيراً} [البقرة:180] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» وكل ما جاء في ثواب الصدقة والحج فهو ثناء على المال, إذ لا يمكن الوصول إليهما إلا به, وقال تعالى: {ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } [الكهف:82] وقال تعالى ممتناً على عباده: {ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} [توح:12]
ولا تقف على وجه الجمع بعد الذم والمدح, إلا بأن تعرف حكمة المال, ومقصوده, وآفاته, وغوائله, حتى ينكشف لك أنه خير من وجه, وشر من وجه, وأنه محمود من حيث هو خير, ومذموم من حيث هو شر, فإنه ليس بخير محض, ولا شر محض, بل هو سبب للأمرين جميعاً, وما هذا وصفه فيمدح لا محالة تارة, ويذم أخرى.
آفات المال وفوائده:
اعلم أن المال مثل حية, فيها سم وترياق, ففوائده ترياقه, وغوائله سمومه, فمن عرف غوائله وفوائده, أمكنه أن يحترز من شره, ويستدر من خيره.
الفوائد:
أما الفوائد, فهي تنقسم إلى دينية, ودنيوية, أما الدنيوية فلا حاجة إلى ذكرها, فإن معرفتها مشهورة مشتركة بين أصناف الخلق, ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها, وأما الدينية فتنحصر جميعها في ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن ينفقه على نفسه, إما في عبادة, أو في الاستعانة على عبادة, أما في العبادة, كالاستعانة به على الحج, والجهاد, فإنه لا يتوصل إليهما إلا بالمال وأما فيما يقويه على العبادة, فذلك هو المطعم والملبس والمسكن والمنكح وضرورات المعيشة فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر كان القلب مصروفاً إلى تدبيرها فلا يتفرغ للدين.
النوع الثاني: ما يصرفه إلى الناس, وهو أربعة أقسام: الصدقة, والمروءة, ووقاية العرض, وأجرة الاستخدام.
أما الصدقة, فلا يخفى ثوابها.
وأما المروءة فنعنى بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية, وإعانة وما يجرى مجراها. وبها يكتسب الإخوان والأصدقاء, وبه يكتسب صفة السخاء.
وأما وقاية العرض, فنعنى بد بذل المال لدفع هجو الشعراء, وثلب السفهاء, وقطع ألسنتهم, ودفع شرهم.
وأما الاستخدام فالأعمال التي يحتاج إليها الإنسان كثيرة, ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته, وتعذر عليه سلوك سبيل الآخرة.
النوع الثالث: ما لا يصرفه إلى إنسان معين, ولكن يحصل به خير عام, كبناء المساجد, والقناطر, ودور المرضى, وغير ذلك من الأوقاف المرصدة للخيرات.
الآفات:
وأما الآفات, فدينية, ودنيوية, أما الدينية فثلاث:
الأولى: أن تجر إلى المعاصي, ومهما كان الإنسان آيساً عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته, فإذا استشعر القدرة عليها انبعثت داعيته, والمال نوع من القدرة يحرك داعية المعاصي, وارتكاب الفجور.
الثانية: أن يجر إلى التنعم في المباحات, فيصير التنعم مألوفاً عنده, ومحبوباً, لا صبر عنه, ويجر البعض منه إلى البعض, فإذا اشتد أنسه به, ربما لا يقدر على التوصل إليه بالكسب الحلال, فيقتحم الشبهات, ويخوض في المراء, والمداهنة, والكذب, والنفاق, وسائر الأخلاق الرديئة, لينتظم له أمر دنياه, ويتيسر له تنعمه.
الثالثة: وهي التي لا ينفعك عنها أحد, وهو أنه يلهيه إصلاح ماله عن ذكر الله تعالى, وكل ما شغل العبد عن الله فهو خسران.
وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاح ومحاسبته, وفي خصومة الشركاء ومنازعتهم, وخصومة أعوان السلطان, وخصومة الأجراء على التقصير في العمارة, وصاحب التجارة يكون متفكراً في خيانة شريكه, وانفراده بالربح, وتقصيره في العمل, وتضيعه للمال, وكذلك صاحب المواشي, وكذلك سائر أصناف الأموال
فهذه جملة الآفات الدنيوية, سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن والغم والهم والتعب في دفع الحساد وتجهم الصعاب في حفظ المال وكسبه فإن ترياق المال أخذ القوت منه, وصرف الباقي إلى الخيرات, وما عدا ذلك سموم وآفات
ذم الحرص والطمع, ومدح القناعة واليأس مما في أيدى الناس:
ينبغي أن يكون الفقير قانعاً منقطع الطمع عن الخلق, غير ملتفت إلى ما في أيديهم, ولا حريصاً على اكتساب المال كيف كان, ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة...فإن تشوف إلى الكثير, أو طول أمله, فاته عز القناعة, وتدنس لا محالة بالطمع, وذل الحرص, وجره الحرص والطمع إلى مساوئ الأخلاق, وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات, وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع وقلة القناعة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو كان لابن آدم واديان من ذهب, لابتغى لهما ثالثاً, ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله علة من تاب.» وقال عليه الصلاة والسلام: «يهرم ابن آدم, ويشب معه اثنتان: الأمل, وحب المال»
ولما كانت هذه جبلة للآدمي مضلة, غزيرة مهلكة, أثنى الله تعالى ورسوله على القناعة, فقال صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن هدي للإسلام, وكان عيشه كفافاً, وقنع به».
وقال عليه الصلاة والسلام: «( ليس الغنى عن كثرة العرض, وإنما الغنى غنى النفس)» ونهي عن شدة الحرص والمبالغة في الطلب, فقال: «( أيها الناس أجملوا في الطلب, فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له, ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا, وهي راغمة )»
وقال عمر رضي الله عنه: إن الطمع فقر, وإن اليأس غنى, وإنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما من يوم إلا ملك ينادي: يا بن آدم, قليل يكفيك, خير من كثير يطغيك. وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غماً الحسود, وأهنأهم عيشاً القنوع.
علاج الحرص والطمع, والدواء الذي يكتسب به صفة القناعة:
اعلم أن هذا الدواء مركب من ثلاثة أعمال: الصبر, والعلم, والعمل, ومجموع ذلك خمسة أمور:
الأول: وهو العمل, الاقتصاد في المعيشة والرفق في الإنفاق, فمن أراد عز القناعة فينبغي أن...يرد نفسه إلا ما لا بد له منه, فمن...اتسع إنفاقه لم تمكنه القناعة.
الثاني: إذا تيسر له الحال ما يكفيه, فلا ينبغي أن يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل, ويعينه على ذلك قصر الأمل, والتحقق بأن الرزق الذي قدر له لا بد وأن يأتيه, وإن لم يشتد حرصه, فإن شدة الحرص ليست هي السبب لوصول الأرزاق, بل ينبغي أن يكون واثقاً بوعد الله تعالى, إذا قال عز وجل: {( وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها )} [هود:6]
الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء, وما في الحرص والطمع من الذل.
الرابع: أن يكثر تأمله في تنعم اليهود والنصارى, وأراذل الناس, ثم ينظر في أحوال الأنبياء, وإلى سمت الخلفاء الراشدين, وسائر الصحابة والتابعين, ويطالع أحوالهم, ويخير عقله بين أن يكون على مشابهة أراذل الناس, أو على الاقتداء بمن هو أعز أصناف الخلق عند الله. حتى يهون بذلك عليه الصبر على الضنك والقناعة باليسير
الخامس: أن يفهم ما في جمع المال من الخطر, كما ذكرنا في آفات المال, وما فيه من خوف السرقة والنهب والضياع, وما في خلو اليد من الأمن والفراغ....ويتم ذلك بأن ينظر إلى من دونه في الدنيا لا إلى من فوقه, فإن الشيطان أبداً يصرف نظره في الدنيا إلى من فوقه, فيقول: لِمَ تفتر عن الطلب, وأرباب الأموال يتنعمون في المطاعم والملابس ؟ ويصرف نظره في الدين إلى من دونه.
فضيلة السخاء:
اعلم أن المال إن كان مفقوداً فينبغي أن يكون حال العبد القناعة, وقلة الحرص. وإن كان موجوداً فينبغي أن يكون حالة الإيثار والسخاء, واصطناع المعروف, والتباعد عن الشح والبخل, فإن السخاء من أخلاق الأنبياء عليهم السلام, قال أنس رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسأل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه, وأتاه رجل فسأله, فأمر له بغنم كثير بين جبلين من غنم الصدقة, فرجع إلى قومه, فقال: يا قوم اسلموا, فإن محمد يعطى عطاء من لا يخاف الفاقة.
قال ابن السماك: عجبت لمن يشتري المماليك بماله, ولا يشتري الأحياء بمعروفه.
قيل للحسن البصري: ما السخاء ؟ قال: أن تجود بمالك في الله عز وجل.
وقيل لسفيان بن عيينه: ما السخاء ؟ قال: السخاء البر بالإخوان, والجود بالمال. وقال: ورث أبي خمسين ألف درهم, فبعث بها صراراً إلى إخوانه, وقال: قد كنت أسأل الله تعالى لإخواني الجنة في صلاتي, أفأبخل عليهم بالمال ؟
وقال عبدالعزيز بن مروان: إذا الرجل أمكنني من نفسه, حتى أضع معروفي عنده, فيده عندي مثل يدي عنده.
عن أم درة _ وكانت تخدم عائشة رضي الله عنها _ قالت: إن معاوية بعث إليها بمال, ثمانين ومائة ألف درهم, فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس, فلما أمست قالت: يا جارية, هلم فطوري, فجاءتها بخبز وزيت, فقالت لها أم درة: ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه ؟ فقالت: لو كنت ذكرتني لفعلت.
قيل لبعض الحكماء: من أحبّ الناس إليك ؟ قال: من كثرت أياديه عندي
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ