الجاه
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
اعلم أصلحك الله أن أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار, وهو مذموم, إلا من شهره الله تعالى لنشر دينه من غير تكلف طلب الشهرة منه.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
المنتقى من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: ذم الجاه
بيان ذم الشهرة وانتشار الصيت:
اعلم أصلحك الله أن أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار, وهو مذموم, إلا من شهره الله تعالى لنشر دينه من غير تكلف طلب الشهرة منه.
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما صدق الله من أحب الشهرة.
وقال أيوب السختياني: والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه.
وقال لرجل لبشر بن الحارث: أوصني, فقال: أخمل ذكرك, وطيب مطعمك.
وقال بشر: ما أعرف رجلاً أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح, وقال أيضاً: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس.
بيان فضيلة الخمول:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( رب أشعث أغبر, ذي طمرين, لا يؤبه له, لو أقسم على الله لأبره.)» وقال عليه الصلاة والسلام: «( ألا أدلكم على أهل الجنة: كل ضعيف مستضعف, لو أقسم كل الله لأبره.)»
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كونوا ينابيع العلم, مصابيح الهدى, أحلاس البيوت, سرج الليل, جدد القلوب, تعرفون في أهل السماء, وتخفون في أهل الأرض.
وقال الفضيل: إن قدرت على أن لا تعرف فافعل, وما عليك أن لا تعرف, وما عليك أن لا يثنى عليك, وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس, إذا كنت محموداً عند الله تعالى ؟
اعلم أن المذموم طلب الشهرة, فأما وجودها من جهة الله سبحانه من غير تكلف من العبد فليس بمذموم.
ذم الجاه ومعناه:
قال الله تعالي: {( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً ) [القصص:83] جمع بين إرادة الفساد والعلو, وبين أن الدار الآخرة للخالي عن الإرادتين جميعاً, وقال عز وجل: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون )} [هود:15_16] وهذا أيضاً متناول بعمومه لحب الجاه, فإنه أعظم لذة من لذات الحياة الدنيا, وأكثر زينة من زينتها.
معنى الجاه وحقيقته:
اعلم أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا. ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها, ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها.
علاج حب الجاه:
اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق, مشغوفاً بالتودد إليهم, والمراءات لأجلهم, ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم, وذلك أصل الفساد, ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات, وإلى اقتحام المحظورات.
فحب الجاه من المهلكات فيجب علاجه وإزالته عن القلب, ومن فهم الآخرة ...صغر الجاه من عينيه, إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة, كأنه يشاهدها, ويستحقر العاجلة, ويكون الموت كالحاصل بين يديه,...ويتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه, فإن كل ذي جاه محسود, ومقصود بالإيذاء, وخائف على الدوام على جاهه, ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب.
العلاج لحب المدح:
اعلم أن أكثر الناس إنما هلكوا بخوف مذمة الناس, وحب مدحهم, فصارت حركاتهم كلها مواقفة على ما يوافق رضا الناس رجاء المدح وخوف الذم وذلك من المهلكات فيجب معالجته, وملاحظة الأسباب التي لأجلها يحب المدح.
فاستشعار الكمال بسبب قول المادح, فطريقتك فيه أن ترجع إلى عقلك, وتقول لنفسك: هذه الصفة التي يمدحك بها أنت متصف بها أم لا ؟ فإن كنت متصفاً بها, فهي إما صفة تستحق بها المدح, كالعلم والورع, وإما صفة لا تستحق المدح, كالثروة والجاه والأعراض الدنيوية, فإن كانت من الأعراض الدنيوية, فالفرح بها كالفرح بنبات الأرض, الذي يصير على القرب هشيماً تذروه الرياح, وهذا من قلة العقل. وإن كانت الصفة مما يستحق الفرح بها كالعلم والورع, فينبغي أن لا يفرح بها لأن الخاتمة غير معلومة... وخطر الخاتمة باق, ففي الخوف من سوء الخاتمة شغل عن الفرح بكل ما في الدنيا. ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة, فينبغي أن يكون فرحك بفضل الله عليك بالعلم والتقوى, لا بمدح المادح.
وإن كانت الصفة التي مدحت بها أنت خال عنها, ففرحك بالمدح غاية الجنون... فإذا أثنوا عليك بالصلاح والورع ففرحت به, والله مطلع على خبث باطنك, وغوائل سريرتك وأقذار صفاتك كان ذلك من غاية الجهل. فإذا المادح صدق فليكن فرحك بصفتك التي هي من فضل الله, وإن كذب فينبغي أن يغمك ذلك ولا تفرح به.
وآفة المدح على الممدوح عظيمة, قال بعض السلف: من فرح بمدح فقد مكن الشيطان من أن يدخل بطنه ومهما علم أن الأرزاق والآجال بيد الله تعالى قل التفاته إلى مدح الخلق وذمهم, وسقط من قلبه حب المدح واشتغل بما يهمه من أمر دينه.
علاج كراهة الذم:
القول الوجيز فيه أن من ذمك لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون صادقاً فيما قال, وقصد به النصح والشفقة, وإما أن يكون صادقاً, ولكن قصده الإيذاء والتعنت, وإما أن يكون كاذباً.
فإن كان صادقاً وقصده النصح فلا ينبغي أن تذمه, أو تغضب عليه, وتحقد بسببه, بل ينبغي أن تتقلد منته, فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى المهلك حتى تتقيه فينبغي أن تفرح به, وتشتغل بإزالة الصفة المذمومة عن نفسك إن قدرت عليها
وإن كان قصده التعنت, فأنت قد انتفعت بقوله إذ أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلاً به, وأذكرك عيبك إن كنت غافلاً عنه. وكل ذلك أسباب سعادتك, وقد استفدته منه, فاشتغل بطلب السعادة فقد أتيح لك أسبابها بسبب ما سمعته من المذمة.
وإما أن يفتري عليك بما أنت برئ منه عند الله تعالى, فينبغي أن لا تكره ذلك, ولا تشتغل بذمه, بل تتفكر في ثلاثة أمور:
أحدها: أنك إن خلوت من ذلك العيب, فلا تخلو من أمثاله وأشباه, وما ستره الله من عيوبك أكثر, فاشكر الله تعالى إذ لم يطلعه على عيوبك.
الثاني: أن ذلك كفارات لبقية مساويك, وذنوبك, فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها, وكلّ من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته.
الثالث: أن المسكين قد جنى على دينه, حتى سقط من عين الله, وأهلك نفسه بافترائه وتعرض لعقابه الأليم, فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه, فتشمت به الشيطان وتقول: اللهم اهلكه, بل تقول: اللهم أصلحه اللهم تب عليه
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ