وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
«كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ»
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{277} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{278} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ{279} وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{280} وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ{281} } [البقرة]
{ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر حال آكل الربا، وحال من عاد بعد مجيء الموعظة، وأنه كافر أثيم، ذكر ضد هؤلاء ليبين فرق ما بين الحالين، فهي جملة معترضة لمقابلة الذم بالمدح.
والمعنى: إن الذين تابوا من أكل الربا وآمنوا بما أنزل عليهم، وانتهوا عما نهوا عنه وعملوا الصالحات {{لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}} .
{{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} } إفضاء إلى التشريع بعد أن قدم أمامه من الموعظة ما هيأ النفوس إليه.
ومن فوائد الآية: أنه لا يجوز تنفيذ العقود المحرمة في الإسلام - وإن عقدت في حال الشرك؛ لعموم قوله تعالى: {{وذروا ما بقي من الربا}} ، ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في عرفة عام حجة الوداع: «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ» [أبو داود]؛ ولكن يجب أن نعلم أن العقود التي مضت في الكفر على وجه باطل، وزال سبب البطلان قبل الإسلام، فإنها تبقى على ما كانت عليه؛ مثال ذلك: لو تبايع رجلان حال كفرهما بيعاً محرماً في الإسلام، ثم أسلما فالعقد يبقى بحاله؛ ومثال آخر: لو تزوج الكافر امرأة في عدتها، ثم أسلما بعد انقضاء عدتها فالنكاح باق؛ ولهذا أمثلة كثيرة.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} هذا للتحدي، وليس هنا تناقض؛ لأن معنى الثانية التحدي؛ أي إن كنتم صادقين في إيمانكم، فلا ينافي قوله ابتداء: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} }
و «التقوى» وصية الله لعباده الأولين، والآخرين؛ قال الله تعالى: {{ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} } [النساء: 131] .
وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأن تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب، ولأن ترك الربا من جملتها. فهو كالأمر بطريق برهاني.
ومن فوائد الآية: أن ممارسة الربا تنافي الإيمان؛ لقوله تعالى: {{إن كنتم مؤمنين}} ؛ ولكن هل يُخرج الإنسانَ من الإيمان إلى الكفر؟ مذهب الخوارج أنه يخرجه من الإيمان إلى الكفر؛ فهو عند الخوارج كافر، كفرعون، وهامان، وقارون؛ لأنه فعل كبيرة من كبائر الذنوب؛ ومذهب أهل السنة والجماعة أنه مؤمن ناقص الإيمان؛ لكنه يُخشى عليه من الكفر لاسيما آكل الربا؛ لأنه غذي بحرام؛ وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام: (فأنى يستجاب لذلك) - نسأل الله العافية.
ومن فوائد الآية: أن مدار صفاء المعاملة على تصفية اللقمة، فمن صفَّا طعمته صفت معاملته، ومن صفت معاملته أفضى الصفاء إلى قلبه، ولذلك قال بعضهم: "مَنْ أكَلَ الحلال أطاع الله، أحبَّ أم كَرِهَ، ومن أكل الحرام عصى الله، أحبَّ أم كَرِه".
ومن الفوائد أيضا: أن من شأن الحق -جلّ جلاله- مع عباده: أن من طلب الزيادة في حس ظاهره محق الله نور باطنه، ومن حسم مادة زيادة الحس في ظاهره قوي الله مدد الأنوار في باطنه.
{{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ}} قال مالك: تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئاً أشر من الربا، لأن الله تعالى قد آذن فيه بالحرب.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه جاء في الوعيد على الربا ما لم يأت على ذنب دون الشرك؛ ولهذا جاء في الحديث الذي طرقه متعددة: «(الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه)» [صحيح الجامع:3537]
ثم بيّن لهم طريق التوبة وسبيل الخلاص من محنة الربا وفتنته {{وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}} أصولها {{لاَ تَظْلِمُونَ}} بأخذ زيادة {{وَلاَ تُظْلَمُونَ}} بنقص من رأس مالكم، وظاهر الجواب أنهم يسترجعونها معجلة، إذ العقود قد فسخت، فعطف عليه حالة أخرى {{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ}} إمهال {{إِلَى مَيْسَرَةٍ} } يسار وسعة {{وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}} وشيء آخر وهو خير لكم أن تتصدقوا بالتنازل عن ديونكم كلّها تطهيراً لأموالكم التي لامسها الربا وتزكية لأنفسكم من آثاره السيئة
{{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}} يريد العمل، فجعله من لوازم العلم، فجوابه محذوف أي: إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه .. وهذه الجملة الشرطية مستقلة يراد بها الحث على العلم؛ «مستقلة» أي أنها لا توصل بما قبلها؛ لأنها لو وصلت بما قبلها لأوهم معنًى فاسداً: أوهم أن التصدق خير لنا إن كنا نعلم؛ فإن لم نكن نعلم فليس خيراً لنا؛ ولا شك أن هذا معنًى فاسد لا يراد بالآية؛ لكن المعنى: إن كنتم من ذوي العلم فافعلوا - أي تصدقوا.
روى البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ» .
وروى مسلم من حديث أبي اليسر، عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ) » وهي كرامة وحماية من مكاره الموقف، وإنما استحق المُنظر ذلك لأنه آثر المديون على نفسه وأراحه فأراحه اللّه والجزاء من جنس العمل.
وروى أحمد من حديث أَبِي قَتَادَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «(مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ أَوْ مَحَا عَنْهُ كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)»
وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « (من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثلاه صدقة)» [صحيح، الحاكم وأحمد]
{{وَاتَّقُواْ يَوْماً}} أي احذروا عذاب يوم، وهو يوم القيامة
وفيه: أن التقوى قد تضاف لغير الله - لكن إذا لم تكن على وجه العبادة؛ فيقال: اتق فلاناً، أو: اتق كذا؛ وهذا في القرآن والسنة كثير؛ قال الله سبحانه وتعالى: { {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}} [آل عمران:131]؛ لكن فرق بين التقويين؛ التقوى الأولى تقوى عبادة، وتذلل، وخضوع؛ والثانية تقوى وقاية فقط: يأخذ ما يتقي به عذاب هذا اليوم، أو عذاب النار؛ وفي السنة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «(اتق دعوة المظلوم)» ؛ فأضاف «التقوى» هنا إلى «دعوة المظلوم»؛ واشتهر بين الناس: «اتق شر من أحسنت إليه»؛ لكن هذه التقوى المضافة إلى المخلوق ليست تقوى العبادة الخاصة بالله عز وجل؛ بل هي بمعنى الحذر.
{{تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ}} مرجع الخلائق كلها إلى الله حكماً، وتقديراً، وجزاءً؛ فالمرجع كله إلى الله -سبحانه وتعالى-، كما قال تعالى: { {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى}} [النجم:42]، وقال تعالى: {{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} } [العلق: 8]، أي في كل شيء.
{{ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ}} أي تعطى؛ والتوفية بمعنى الاستيفاء؛ وهو أخذ الحق ممن هو عليه {{مَّا كَسَبَتْ} } من خير وشر، وهو نص على تعلق الجزاء بالكسب، وفيه ردّ على الجبرية {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي: لا ينقصون مما يكون جزاء العمل الصالح من الثواب، ولا يزادون على جزاء العمل السيئ من العقاب.
وهذه الآية آخر ما نزل من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: