بيع السلم
إن الله تعالى أحلَّ البيع وجعَله من احتياجات الإنسان في هذه الحياة، ووضَّح للناس ما يحل ويحرم فيه، فليس الأمر فوضى بلا قوانين شرعية ولا أنظمة ربانية، بل قد جعل الله لكل شيء قدرًا، والبيع له صورة كثيرة وأنواع عديدة، ومنه بيع السَّلَم،..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين؛ أما بعد:
فإن الله تعالى أحلَّ البيع وجعَله من احتياجات الإنسان في هذه الحياة، ووضَّح للناس ما يحل ويحرم فيه، فليس الأمر فوضى بلا قوانين شرعية ولا أنظمة ربانية، بل قد جعل الله لكل شيء قدرًا، والبيع له صورة كثيرة وأنواع عديدة، ومنه بيع السَّلَم، الذي يكثر استعماله ولكن غاب تسميته بهذا الاسم، وسيتم التطرق إلى الحديث عنه في هذا الموضوع المبارك إن شاء الله.
تعريفه:
لغة: السلم في اللغة السلف وزنًا ومعنى، ويطلق على الاستسلام كما يطلق على شجر من العضاة، واحده سَلمَة.
وفي الاصطلاح الفقهي "بيع آجل بعاجل" أو "دين بعين"، أو هو "بيع يتقدم فيه رأس المال (الثمن)، ويتأخر المثمن (المبيع) لأجَل"، أو "بيع موصوف في الذمة"، أو "أن يسلف عوضًا حاضرًا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل"[1].
وقال النووي في المجموع: "السلم أن يسلم عوضًا حاضرًا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، ويسمى سلمًا وسلفًا، وهذا السلف يهمز ويجرد، فيقال: أسلف وسلف، وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد به البيع، ويعتبر فيه من الشروط ما يعتبر في البيع، وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع"[2].
والفقهاء تسميه: بيع المحاويج؛ لأنه بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري السلعة، وصاحب السلعة محتاج إلى ثمنها قبل حصولها عنده؛ لينفقها على نفسه وعلى زرعه حتى ينضج، فهو من المصالح الحاجية[3].
ومثاله: أن يشتري رجل من آخر سيارة مثلًا، فيدفع المشتري المبلغ للبائع مقدمًا، وتوصف السيارة: نوعها وموديلها (سنة الصنع) ونظافتها...إلخ، فتحضر إلى المشتري في الموعد المتفق عليه بالصفات المتفق عليها، وإنما سمي هذا البيع سلمًا لتسليم الثمن مقدمًا في مجلس التعاقد، وسُمِّي سلفًا لتقديم الثمن على السلعة.
مشروعيته:
السلم مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الأمة:
أما الكتاب، فقد فسرت به آية الدين، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ..} [الآية: 282] سورة البقرة؛ قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحلَّه الله في كتابه وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية[4].
أما السنة، فما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)[5]، وفي رواية مسلم: (من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)[6].
وأما الإجماع، فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز، ولأن بالناس حاجة إليه؛ لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم أو على الزروع ونحوها حتى تنضج، فجُوِّزَ لهم السلم دفعًا للحاجة.
وقد استُثني عقد بيع السلم من بيع المعدوم، لما فيه من تحقيق مصلحة اقتصادية، ترخيصًا للناس، وتيسيرًا عليهم[7].
ركنه:
ركن السلم هو الصيغة التي ينعقد بها وهي: الإيجاب، والقبول، وقد اشترط جمهور الفقهاء -الحنفية والمالكية والحنابلة - في هذا الركن أن يكون بلفظ البيع، أو السلف، أو السلم، لا غير.
اشترط الشافعي أن يكون بلفظ السلم لا غير، قال زُفَر والشافعية: لا ينعقد السلم إلا بلفظ السلم أو السلف، فإذا عقده بلفظ البيع لم ينعقد.
دليل الشافعية:
قالوا: السلم شُرع على خلاف القياس، وما كان حاله كذلك اقتصر فيه على مورد النص، وقد جاء شرعه بلفظ السلم، فلا يزاد عليه.
دليل الجمهور:
الاستدلال بأن السلم بيع بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث روي عنه نهيه عن بيع ما ليس عند الإنسان وترخيصه في السلم، وهو دليل على كونه نوعًا من أنواع البيع، فينعقد بلفظ البيع لذلك.
شروطه:
يشترط لصحة السلم ما يشترط لصحة البيع عامة، ويزاد عليها هنا شروط خاصة به لا يصح بدون توافرها جميعًا، وهذه الشروط على أنواع، فمنها ما يكون في رأس المال، ومنها ما يكون في المسلم فيه.
واتفق أئمة المذاهب على أن السلم يصح بستة شروط: وهي أن يكون في جنس معلوم، بصفة معلومة، ومقدار معلوم، وأجل معلوم، ومعرفة مقدار رأس المال، وتسمية مكان التسليم إذا كان لحمله مؤنة ونفقة[8].
شروط رأس المال:
أما شروط رأس المال فهي:
1- أن يكون معلوم الجنس.
2- أن يكون معلوم القدر.
3- أن يكون معلوم النوع.
4- بيان الصفة: إي إنه جيد أو متوسط أو رديء.
5- أن يسلم في المجلس.
شروط المُسلَم فيه:
المُسلَم فيه هو المال الذي يتعهد البائع بتأديته إلى رب السلم بعد أجل معين، ودافعه يسمى المسلم إليه، وشروطه متعددة هي:
أ- بيان جنسه، فينص على أنه حنطة، أو قطن، أو …
ب- بيان نوعه، من أنه حنطة بعلية أو سقية، أو قطن طويل التيلة أو قصيرها …
ج- بيان صفته، بأنه جيد، أو رديء، أو وسط …
د- بيان قدره، ببيان كيله، أو وزنه، أو عدده إن كان متقاربًا، أو ذرعه إن كان متقاربًا أيضًا.
هـ- ألا يكون في السلم أحد وصفي علة ربا الفضل، وهو إما الكيل أو الوزن، وإما الجنس.
و- أن يكون المسلم فيه مما يتعين بالتعيين: فإن كان مما لا يتعين بالتعيين كالدراهم والدنانير فلا يجوز السلم فيه؛ لأن المسلم فيه مبيع، والبيع مما يتعيَّن التعيين، والدراهم والدنانير لا تتعين في عقود المعاوضات، فلم تكن مبيعة، فلا يجوز السلم فيها.
ز- أن يكون المسلم فيه مؤجلًا، واختلف العلماء في هذا الشرط، وفيه يعرف حكم السلم الحال كما سبق.
ح- أن يكون جنس المسلم فيه أي (المبيع) موجودًا في الأسواق بنوعه وصفته من وقت العقد إلى وقت حلول أجل التسليم، ولا يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس؛ لأن وجود المسلم فيه عند حلول الأجل فيه شك لاحتمال الهلاك.
وعلى هذا: إذا كان المسلم فيه منسوبًا إلى موضع معلوم، فإذا كان مما يحتمل انقطاعه بالآفة كحنطة قرية كذا بعينها أو أرض كذا بعينها لا يجوز السلم لعدم تحقق القدرة على التسليم، وهو غرر من غير حاجة، فمنع صحة العقد[9].
ط- أن يكون معلوم الأجل:
وقد اتفق الفقهاء على وجوب تعيين الأجل بمدة محددة، فإذا أطلق الأجل لم يصح لما فيه من الجهالة المفضية للمنازعة، كما لو باعه وقال إلى أجل، أو أجل طويل، أو إلى أجل قصير، فإنه لا يصح؛ للمنازعة[10].
شروط العقد:
ذهب الجمهور - الحنفية والشافعية والحنابلة - إلى أن الشروط المتعلقة بنفس العقد تعود إلى شرط واحد هو البتات، وذلك بخلو السلم عن خيار الشرط.
فإذا باع سلمًا واشترط لنفسه أو للمشتري خيار الشرط، فسد السلم؛ لانعدام البتات فيه بقيام خيار الشرط، ذلك أن خيار الشرط ثبت في البيع المطلق على خلاف القياس فلا يقاس عليه السلم، بل يبقى على أصل المنع فيه.
ثم إن من شروط صحة السلم: التقابض في المجلس، وخيار الشرط يمنع التقابض الكامل؛ لأنه يمنع ثبوت الملك فلا يصح لذلك.
فإن اشترط خيار الشرط ثم تقابَضَا في المجلس قبل التفرق، صحَّ العقد لتحقق شرط الصحة.
وذهب مالك إلى جواز الخيار مدة لا تزيد على ثلاثة أيام؛ لأنها قليلة، ولأنه يجوز تأخير قبض رأس المال إليها في السلم عنده.
اشتراط الأجل:
ذهب الجمهور إلى اعتبار الأجل في السلم، وقالوا: لا يجوز السلم حالًّا.
وقالت الشافعية: يجوز؛ لأنه إذ جاز مؤجلًا مع الغرر فجوازه حالًّا أَولى.
وليس ذكر الأجل في الحديث لأجل الاشتراط، بل معناه إن كان لأجل فليكن معلومًا.
قال الشوكاني رحمه الله: والحق ما ذهبت إليه الشافعية من عدم اعتبار الأجل لعدم ورود دليل يدل عليه، فلا يلزم التقيد بحكم بدون دليل.
وأما ما يقال من أنه يلزم مع عدم الأجل أن يكون بيعًا للمعدوم، ولم يرخص فيه إلا في السلم، ولا فارق بينه وبين البيع إلا الأجل، فيجاب عنه بأن الصيغة فارقة، وذلك كاف[11].
هذه بعض المسائل الهامة في هذا المبحث، والله الهادي والموفق.
[1] الفقه الإسلامي وأدلته (5/ 3603).
[2] المجموع للإمام النووي (13/ 94).
[3] فقه السنة السيد سابق (3/ 121).
[4] رواه الحاكم في المستدرك (3130)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (5/ 213).
[5] رواه البخاري (2125).
[6] رواه مسلم (1604).
[7] الفقه الإسلامي وأدلته (5/ 3603).
[8] المصدر السابق (5/ 3605).
[9] المصدر السابق- (5/ 3608-6314) بتصرف.
[10] المصدر: موقع بوابة الإسلام.
[11] فقه السنة – السيد سابق (3/ 123-124)، قروب الشيخ: أبو الحسن علي بن محمد المطري واتساب
__________________________________________________________
الكاتب: أبو الحسن علي بن محمد المطري
- التصنيف: