الكيس الفطن
على المسلم الكيّس الفطن أن يفيق من سُبَاتهِ العميق، ويحيي ضمير قلبه، فليست الدنيا سوى لحظات وأنفس وومضات، فمن كان في بناء آخرته فذلك السعيد حقا..
- التصنيفات: الزهد والرقائق - تزكية النفس -
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإن سعي الإنسان إلى الله والدار الآخرة بتحقيق طاعته لربه جلّ وعلا، واتباعه لنبيه صلى الله عليه وسلم يجعله في فوزٍ قبل الفوز الأكبر في يوم القيامة؛ قال تعالى: {كُلُّ نَفسٍ ذائِقَةُ المَوتِ وَإِنَّما تُوَفَّونَ أُجورَكُم يَومَ القِيامَةِ فَمَن زُحزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فازَ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلّا مَتاعُ الغُرورِ} [آل عمران: ١٨٥]، قال ابن كثير رحمه الله: قوله: {فَمَن زُحزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فازَ} أي: من جُنِّبَ النار ونجا منها وأدخل الجنة، فقد فاز كل الفوز. "تفسير القرآن العظيم 2 / 178".
ومن ذلك ما جاء عن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرؤوا إن شئم: {فَمَن زُحزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فازَ}» (رواه أحمد في مسنده ٢/٤٣٨، والترمذي في سننه برقم: ٣٢٩٢).
فعلى المسلم الكيّس الفطن أن يفيق من سُبَاتهِ العميق، ويحيي ضمير قلبه، فليست الدنيا سوى لحظات وأنفس وومضات، فمن كان في بناء آخرته فذلك السعيد حقا؛ قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذينَ سُعِدوا فَفِي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيرَ مَجذوذٍ} [هود: ١٠٨].
وعن عبدالله بن مسعود [رضي الله عنه] قال: نامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ علَى حصيرٍ فقامَ وقد أثَّرَ في جنبِهِ فقلنا يا رسولَ اللَّهِ لوِ اتَّخَذنا لَكَ وطاءً فقالَ «ما لي وما للدُّنيا، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها» . "أخرجه الترمذي (٢٣٧٧) واللفظ له، وابن ماجه (٤١٠٩)، وأحمد (٣٧٠٩)".
قال أبو محمد القيرواني رحمه الله:
العمر يذهب، والآمال قائمة *** فانظر لعزمك فيما أنت شاغله
"ديوان الإمام ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله، ٣٧".
فما نفع الندامة على فوات زمن التحصيل، في يوم لا ينفع نفس إيمانها مالم تكن آمنت؛ قال تعالى: {هَل يَنظُرونَ إِلّا أَن تَأتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَو يَأتِيَ رَبُّكَ أَو يَأتِيَ بَعضُ آياتِ رَبِّكَ يَومَ يَأتي بَعضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفسًا إيمانُها لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت في إيمانِها خَيرًا قُلِ انتَظِروا إِنّا مُنتَظِرونَ} [الأنعام: ١٥٨].
فما زالت أنفسنا في أجسادنا، وأعيننا تطرُف، والأمر باختيارنا، فلنختر ليوم التغابن ما يَسُرُّنا لُقياه؛ قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ: ٣٩]، قال الطبري رحمه الله: فمن شاء من عباده اتخذ بالتصديق بهذا اليوم الحقّ، والاستعداد له، والعمل بما فيه النجاة له من أهواله {مآبًا}، يعني: مرجعًا.
وعن قتادة {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} قال: اتخذوا إلى الله مآبًا بطاعته، وما يقرّبهم إليه. "جامع البيان لأحكام القرآن ١٧٩/٢٤".
فأنت الآن أخي الفاضل تقرأ وتنظر في هذا المقال، فلا يكن حظّك منه مجرد النظر وتحريك الشفاه، بل قم نحو أداء واجب ما خلقك الله له؛ قال تعالى: {وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ} [الذاريات: ٥٦].
ومن أحسن ما يتهيأ به المرء للقاء ربه: هو الإكثار من العبادات والطاعات، ومن أيسرها دوام اللسان بذكر الله تعالى، وما وفِّق إلى ذلك إلا الموفق؛ فعن عبدالله بن بسر [رضي الله عنه]: أنَّ رجلًا قال يا رسولَ اللهِ إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به قال: «لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذكرِ الله»؛ (رواه الترمذي في سننه برقم: ٣٣٧٥).
فما أصدق الشاعر حين قال:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنــه *** وإن بناها بشر خاب بانيهــــــا
هذا والله أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
_______________________________________________________________
الكاتب: علي بن فهد القرواني